آفاق الدعوة للإشتراكية (1/4) الجذور التاريخية للعدالة الاجتماعية . الماركسية دشنت الطريق وأطلقت العنان لمختلف الحركات والمدارس التي ترمي لتحقيق قدر من العدالة والمساواة بين البشر بقلم /يوسف حسين الحلم الإنساني النبيل بالعدالة والمساواة بين البشر ليس منبتاً، بل يضرب بجذوره عميقاً في أزمان سحيقة وغابرة في التاريخ. لقد أرّق الناس كثيراً الشوق إلى العدالة الاجتماعية، ذلك إن الشعور والحس برفض الظلم والتفاوت الاجتماعي منغرس في الجينات الوراثية للبشر، وكان محركاً ودافعاً للثورات عبر التاريخ. وقد روت كتب التاريخ عن ثورات العبيد في المجتمع العبودي، كالثورة التي قادها سبارتاكوس في اليونان القديمة. ورمت الأديان السماوية والأرضية، في جوهرها ومقاصدها الكلية، للحق والعدل والمساواة بين الناس. وفي هذا الإطار فإن الدين الإسلامي الحنيف يزخر بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تنص على التحرر، وعلى أن الناس شركاء في الأرض والماء والكلأ، وعلى تحريم اكتناز الثروات. وقد كتب مؤلفون كثر تحت عناوين: محمد (ص) رسول الحرية، ومحمد (ص) رسول الاشتراكية. وترمز قصة هجاء الشاعر الحطيئة للزعيم القبلي الزبرقان واعتقاله إبان خلافة الفاروق عمر للكثير من العبر والدلالات. فقد جاء في مطالبة الحطيئة بإطلاق سراحه والتي نظمها شعراً:- ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فأعدل عليك سلام الله يا عمر أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ألقى اليك مقاليد النهي البشر والشعر واحد من مصادر التوثيق المعتمدة لدى المؤرخين، كما أجاز ذلك د. حسين مروة حين استعان بالأشعار العربية القديمة لمعرفة واقع المجتمع الجاهلي في كتابه القيم : “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" . وأيضاً استعان د. محمد سعيد القدال في مؤلفه بعنوان “المهدية والحبشة" بواحدة من رباعيات الشاعر القومي الحردلو، للوقوف على النهج الذي كان يتبعه الخليفة عبد الله التعايشي في تعامله مع خصومه السياسيين. فإذا كان البشر هم من ألقوا مقاليد النهي للفاروق عمر ومن قبله لصاحبه الصديق أبو بكر، فمن أين جاءت الدعاوي اللاحقة الدخيلة على الإسلام ؟ من شاكلة : " والله لا أخلعن قميصاً ألبسنيه الله" ، والملك العضود، والمال مال الله؟ ثم من أين جاءت ، في زماننا هذا ، دعاوي تبرير الانقلاب العسكري والشمولية وسياسات التحرير الاقتصادي التي لا يجمعها جامع مع العدالة الاجتماعية؟ (أ) الواقع الموضوعي هو الفيصل كانت هشاشة الواقع الموضوعي للإنتاج وضعف قوى الإنتاج، واستطراداً من ذلك ضعف المدارك البشرية والوعي الاجتماعي، عاملاً يحد من فرص وإمكانات التغيير الاجتماعي، وتحقيق العدالة والمساواة بين البشر. لم يكن هناك أفق تاريخي لذلك. كان وعي البشر قاصراً عن إدراك الأسباب الدفينة للظلم الاجتماعي. لم يكن ذلك الظلم مرتبطاً في وعيهم بملكية وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج. بل كان الظلم يتجسد لديهم في أشخاص وذوات من يمارسون ذلك الظلم، مثل مالكي العبيد والإقطاعيين. وحتى في المجتمعات الرأسمالية، لم تكن قوى العاملين تعي أسباب الظلم الاجتماعي الواقع على كاهلها، وكان العمال حتى على سنوات الثورة الصناعية الأولى (1750 – 1850) كثيراً ما يجنحون لتحطيم المصانع والدخول في نزاعات مع رؤساء العمل (الفورمانات) على أساس أنها أي المصانع، وأنهم أي رؤساء العمل، السبب المباشر للظلم الاجتماعي. كما يشير التاريخ إلى أن ثورات العبيد وثورات الفلاحين الأقنان، في المواقع التي انتصرت فيها، لم تحدث تغييراً اجتماعياً، بل أعادت إنتاج ذات نمط المجتمعات القديمة التي ثارت ضدها. فلم يكن هناك أفق تاريخي للتغيير، إذ لم يكن، لا إنتاج الخبرات المادية ولا وعي الناس بقادر على تحقيق هذا الحلم. وظل المفكرون الذين يؤرقهم الشوق إلى العدل والمساواة يطرحون في مؤلفاتهم، تصوراتهم للمجتمع الفاضل الذي يحلمون به، وذلك على غرار “مدينة الشمس" للإيطالي تومازو كامبينيلا، و “المدينة الفاضلة" للبريطاني توماس مور. بل إن المدارس الاشتراكية، حتى في سنوات الثورة الصناعية الأولى، جرت تسميتها لاحقاً بالمدارس الطوباوية أو الخيالية، لضعف عامل الوعي لديها بالقوانين التي تحكم الإنتاج الرأسمالي وبالقوى الاجتماعية القادرة على تحقيق الاشتراكية وحفر قبر الرأسمالية. ورغم ذلك كانت تلك المدارس تطوراً إيجابياً في الفكر الاجتماعي الأوربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقدمت انتقادات عميقة للنظام الرأسمالي وتصوراً رائعاً للمجتمع الاشتراكي. وكان قد أحتل موقع الريادة والصدارة في تلك المدارس، كلُ من سان سيمون وشارل فورييه وروبرت أوين، ومن سار على دربهم لاحقاً أمثال برودون وبلانكي، واللذين كان لتوجهاتهما الفكرية دوراً كبيراً في انتفاضة كومونة باريس عام 1871. (ج) تطور الإنتاج والوعي ركائز للاشتراكية ولكن بعد أن توفر واقع إنتاجي موضوعي بآثار الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية، وما تحقق بفضل ذلك من وعي اقتصادي واجتماعي وفلسفي، تمكن العقل البشري من صياغة نظرية الاشتراكية العلمية. وكان من أبرز مكونات وعناصر ذلك الوعي ما حدث من تطور في الفلسفة في ألمانيا، وفي علم الاجتماع في فرنسا، وفي علم الاقتصاد في بريطانيا. وكانت هذه هي المرتكزات التي أستند إليها ماركس وأنجلز في الوصول للاشتراكية العلمية. وهذا يعني أن الماركسية ليست منبتة، ولاهي تهويمات من بنات أفكار ماركس وأنجلز، ولا هي كذلك تأملات فلسفية واجتماعية مجردة. بل جرت صياغتها بعد أن وصلت المدارك البشرية والمجتمعات البشرية مستوى بإمكانه أن يحمل فوق ظهره، نظرياً وعملياً، أفقاً موضوعياً للعدالة الاجتماعية. فالماركسية في جوهرها هي نظرية اجتماعية لتحقيق حلم البشرية الأزلي في العدالة والمساواة. وهذه النظرية ليست الكلمة النهائية وفصل الخطاب الذي تُظوى بعده الصحف وتجف الأقلام. بل هي قابلة للتطور في منهجها الفلسفي وفي طروحاتها ومقولاتها ومفاهيمها. وتجدر الإشارة هنا إلى ما ورد في مؤلفات ماركس وأنجلز عن أن نظريتهما هي حجر الزاوية لبناء يجب أن يُشيد في جميع الاتجاهات، وهي تتجدد بعد كل اكتشاف علمي جديد وتطور في العلوم الطبيعية والإنسانية، وكذلك بأثر تلخيص وتقييم دروس التجارب الثورية على أرض الواقع. والواقع إن الماركسية قد دشنت الطريق، وأطلقت العنان، لمختلف الحركات والمدارس التي ترمي لتحقيق قدر من العدالة والمساواة بين البشر في مختلف أنحاء العالم. على سبيل المثال الكينزية والفابية في إنجلترا، ومدرسة سلامة موسى والناصرية في مصر، ولاهوت التحرير في أوربا وأمريكا اللاتينية، والحركة الاشتراكية الديمقراطية في أوربا، والمدارس الاشتراكية في إفريقيا كمدرسة نايريري ومدرسة سنغور. ويرد في هذا السياق، التعاطف الشعبي الواسع، ولكن غير الموضوعي، مع المحاولة الانقلابية الفاشلة في أغسطس 1991 في الاتحاد السوفيتي السابق التي قادها غينادي غينايف، من منطلق الحفاظ على النظام السوفيتي الاشتراكي بكل ما كان يمثله لحركة الشعوب من سند ودعم وتضامن. وألهب شوق وتطلعات البشر للعدالة الاجتماعية، ما أنجزته الأنظمة الاشتراكية في المعسكر الاشتراكي السابق من إشباع الحاجيات المادية للبشر. ولعبت دوراً في هذا السياق تجربة توزيع الحليب المجاني لكل أطفال شيلي على عهد الرئيس الاشتراكي سلفاتور الليندي، والتي يسعى هوغو شافيز لتطبيقها في فنزويلا. ولم يكن من قبيل الصدفة المحضة ارتفاع مبيعات مؤلفات ماركس في البلدان الصناعية المتطورة بأثر الأزمة التي يعيشها العالم الرأسمالي في السنوات الأخيرة. الميدان