آفاق الدعوة للاشتراكية (4/4) بقلم/ يوسف حسين ** إن الإمكانية الماثلة لإنجاز التحول الاشتراكي، لا تتحقق على أرض الواقع، اعتسافاً أو برغبة ذاتية أو بعملية انقلابية. إنها تكون قابلة للتحقيق والتحول إلى واقع فقط عندما تنضج ظروف الواقع المحدد والملموس لها (أ) عود على بدء ركزت الحلقات الثلاث السابقة من هذا المقال، على أن الدعوة للعدالة والمساواة بين البشر دعوة سابقة للماركسية، وتضرب بجذورها عميقاً في الفكر الإنساني عبر التاريخ. ومن هنا فإن الزعم بانسداد الأفق أمام هذه الدعوة، بسبب الانهيار الاشتراكي الكبير في شرق أوربا، هو باطل الأباطيل، ويفصح عن العداء الطبقي الدفين للعدالة الاجتماعية. فالتجارب التي دشنتها الأنظمة الاشتراكية المنهارة كانت تجارب رائدة غير مسبوقة في التطبيق الاشتراكي. وهي في جوهرها تجارب إنسانية يحفها، بطبيعة الحال، الصواب والخطأ، بما في ذلك الخطأ الفادح الكامن في فقدان جهازها المناعي للتقويم وتصحيح المسار بآثار الشمولية وتهميش دور حركة الجماهير المنظمة. وقد ارتادت تلك الأنظمة طريق التحول الاشتراكي تحت وابل من نيران الرأسمالية العالمية عليها، بما في ذلك نيران التدخل العسكري والتآمر ودعم قوى الثورة المضادة للاشتراكية والحرب الاقتصادية. ورغم كل ذلك تمكنت تلك الأنظمة في عشرات السنين فقط من إنجاز ما حققته الرأسمالية عبر مئات السنين. (ب) الحاجة أم الاختراع كان ماركس وأنجلز قد صاغا نظرية الاشتراكية العلمية بعد ان توفر واقع موضوعي، إنتاجي واجتماعي، وفكر فلسفي واقتصادي واجتماعي، بإمكانها حميعاً أن تحمل على أكتافها أفقاً موضوعياً غير طوباوي للعدالة الاجتماعية. وقد توفر هذا الواقع بأثر الثورة الصناعية ودخول النفط والكهرباء إلى أبواب الصناعة والإنتاج المادي من ناحية، ومن ناحية أخرى بأثر انتشار علاقات الإنتاج الرأسمالي وإكتواء البشر بنيران لا عقلانية الرأسمالية ومظالمها الاجتماعية. (ج) راهن العالم اليوم يدعم الخيار الاشتراكي يرفد الخيار الاشتراكي في زماننا هذا بصورة مباشرة، واقع الطفرة الإنتاجية المهولة بأثر الثورة العلمية التكنولوجية. خاصة وقد تم احتواء فيض الإنتاج لمصلحة الرأسماليين جراء سياسات الليبرالية الجديدة. أما في الجانب المقابل للمتاريس فترتفع معدلات الفقر والبطالة والتهميش. وهكذا تزداد حدة التفاوت الاجتماعي. كما ترفد الخيار الاشتراكي أيضاً، دعوات الرأسماليين أنفسهم ومفكريهم، لتدخل الحكومات بهذا القدر أو ذاك في النشاط الاقتصادي خاصة بعد الأزمة الرأسمالية المالية العالمية. وفي هذا، ولا شك، طعنة مباشرة في صميم الأسس التي تقوم عليها الرأسمالية. وقد قاموا بالفعل باتخاذ تدابير وإجراءات مالية واقتصادية في هذا الصدد، بما في ذلك دعم الحكومات للمصارف والشركات المأزومة، وتقديم القروض لبعض البلدان الرأسمالية التي زادت ديونها على ناتجها القومي الإجمالي ، وأوشك فيها النظام الرأسمالي على الإنهيار. (د) تجديد الدعوة للاشتراكية من حسن حظ الأجيال الجديدة من البشر، إن هناك تجارب سابقة للتطبيق الاشتراكي، بما يجعل في متناول هذه الأجيال ارتياد طريق التحول الاشتراكي بأخطاء أقل. فالتجارب، كما سيف الشاعر العربي المتنبئ، أصدق إنباءاً من الكتب، وفي حدها الحد بين الجد واللعب. إن دراسة هذه التجارب واستخلاص الدروس المناسبة منها، يرفع من جاذبية ومصداقية الاشتراكية بما يجعل دعوتها تتجدد لتواكب قيم العصر. ويرد بين أهم الدروس في هذا الإطار التالي: 1- إن الإمكانية الماثلة لإنجاز التحول الاشتراكي، لا تتحقق على أرض الواقع، اعتسافاً أو برغبة ذاتية أو بعملية انقلابية. إنها تكون قابلة للتحقيق والتحول إلى واقع فقط عندما تنضج ظروف الواقع المحدد والملموس لها. وهذا يعني تفادي القفز فوق المراحل وحرقها، وفوق الواقع الموضوعي لفرض التحول الاشتراكي في واقع لم ينضج له بعد موضوعياً وذاتياً. لذلك يقول كارل ماركس في مقدمة كتابه : – “إسهام في نقد الاقتصاد السياسي" :- (إن تشكيلاً اجتماعياً معيناً لا يزول قبل أن تنمو كل القوى الاجتماعية التي يتسع لاحتوائها، ولا تحل قط محل هذا التشكيل علاقات إنتاج جديدة ومتفوقة، ما لم تنضج شروط الوجود المادي لها في صميم المجتمع القديم نفسه. ومن أجل هذا لا تطرح الإنسانية على نفسها قط سوى مسائل قادرة على حلها. ذلك إنه إذا نظرنا إلى الأمر عن كثب، لوجدنا أن المسألة نفسها لا تظهر إلا حين تتوفر الشروط المادية لحلها، أو حين تكون على الأقل على أهبة التوافر). وتشير الماركسية كذلك إلى أن التغيير الاشتراكي يستند إلى أغلبية جماهيرية. فالجماهير في الماركسية هي القوى المحددة في صنع التاريخ وفي إنجاز التغيير. واستناداً إلى ذلك أورد التقرير السياسي المجاز في المؤتمر الخامس لحزبنا ، في ص 19 :- (فالتحول الاشتراكي في الماركسية لن يُكتب له النجاح إلا إذا أتى لضرورة موضوعية اختمرت عناصرها وشروطها ومقوماتها في أحشاء المجتمع القديم. وبالتالي تضحي أية محاولة لفرض التحول الاشتراكي في واقع لم ينضج له بعد، مجرد معاندة لقوانين التطور التاريخي والاجتماعي الموضوعية، وقفزاً فوق المراحل، ولن يُكتب له النجاح والاستمرارية. وبالإمكان القول، بكل اطمئنان، أن القفز للثورة الاشتراكية دون توفر المقومات الضرورية لها لن يفضي إلى الاشتراكية، بل سيقود بالضرورة إلى طغيان الأقلية والبيروقراطية. إن التعميمات النظرية الخاطئة للنمط السوفيتي حول الأزمة العامة الثالثة والأخيرة للنظام الرأسمالي، وعصر الانتقال للاشتراكية، وقدرات الديمقراطيين الثوريين في هذا الصدد، لم تقد إلا لتشجيع التكتيك الانقلابي). 2- رفض النموذج أو النمط الواحد الأحد للتحول الاشتراكي، ذلك إن الاشتراكية يتم تطبيقها في الزمان والمكان المحددين حسب واقع كل بلد وخصائصه وتقاليد وتجارب منظومته السياسية والاجتماعية. 3- تأكيد دور جماهير العاملين المنظمة في النقابات والاتحادات وسائر التنظيمات في التخطيط وفي إدارة الإنتاج وفي التسيير الذاتي للمصانع والمزارع والمؤسسات والمرافق المختلفة بما يثبت الحق في الملكية الاجتماعية العامة للشعب. فالشمولية والسلطوية تقودان لأن يفقد النظام جهازه المناعي الذي يمكن عن طريقه تصحيح المسار ومعالجة السلبيات وقفل الباب أمام البيروقراطية والفساد. 4- اعتماد الديمقراطية التعددية سياسياً واقتصادياً. فطالما إن التحول الاشتراكي تندرج في منظومته الاقتصادية أشكال متنوعة للملكية (عام ، خاص ، مختلط، تعاوني)، وطالما أن التعامل والتبادل يتم فيما بينها، هناك ضرورة موضوعية لوجود اقتصاد السوق. ( ه ) برنامج الحزب والتجديد استلهاماً لما أوردناه من دروس لتجديد المشروع الاشتراكي، أورد برنامج الحزب المجاز في مؤتمره العام الخامس، في الفصل العاشر تحت عنوان تجديد المشروع الاشتراكي:- (التأكيد على أن الاشتراكية ليست عقيدة جامدة، يستوجب تجديد المشروع الاشتراكي وتطويره، والتأكيد على أن الاشتراكية تستفيد من كل الإنجازات التي توصلت إليها البشرية. وهذا يستدعي :- 1- استيعاب ما استجد وأُستحدث من مقولات ومفاهيم في العلوم الطبيعية والاجتماعية للوقوف على مدى أثرها في تطوير أو تجاوز استناجات الماركسية، باعتبار الماركسية نظرية عامة للواقع والكون، وليست منظومة مغلقة ومنكفئة على ذاتها. 2- التقويم الناقد للعوامل والأسباب الباطنية – موضوعية وذاتية – لانهيار تجربة النمط السوفيتي للاشتراكية، ولفشل تجارب نمط الحزب الواحد ورأسمالية الدولة والإصلاحات الاجتماعية (مصر عبد الناصر وتنزانيا نيريري) ، والوقوف على الجوانب الإيجابية لتلك التجارب، وإمكانيات تطويرها إلى جانب تقويم ما استجد في البرامج والمنطلقات الفكرية للنماذج الاشتراكية الماثلة في الصين وفيتنام وكوريا الديمقراطية وكوبا، ولما هو جديد في فكر المدارس الاشتراكية في إفريقيا والمنطقة العربية وأمريكا اللاتينية وآسيا وغرب أوربا، ولما استجد في أفكار وبرامج الأحزاب الشيوعية في روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة وبلدان شرق أوربا. ويبقى الالتزام بالدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان التي نصت عليها مواثيق الأممالمتحدة واتفاقيات المنظمات الدولية والإقليمية ، والالتزام بدولة المواطنة والتعددية الحزبية والتداول الديمقراطي للسلطة، من أبرز سمات الاشتراكية التي نناضل من أجل تحقيقها ومن أهم شروط تجديد المشروع الاشتركي). الميدان