[email protected] الغربة كلمة تتألف من أحرف بسيطة ولكنها تحمل في طياتها الكثير من المعاني القاسية الممزوجة بالدموع والألم والآهات ولوعة الفراق ، فالغربة هي خنجر يتغلغل في أجسادنا إلى أن يصل إلى أعماق نفوسنا فيحدث جروحاً عميقة ونزفاً حاداً لا نستطيع إيقافه ، فالغربة لها آثار سلبية مدمرة على أجسادنا وأرواحنا وأنفسنا فلا نستطيع الخلاص منها أبد الدهر فهي أشد من نشر المناشير وقرض المقاريض . إن للغربة دلالات كثيرة ومعان متعددة ولا تعني أو تقتصر على البعد عن الوطن فقط ومغادرة حدوده الجعرافية ، فهناك عدة أوجه لها فمنها على سبيل المثال لا الحصر غربة الروح عندما تحس أنك وحيد بين من حولك تتحدث إليهم فلا يسمعون صوتك وتحتاج إليهم فلا تجدهم تعاني فوضى المشاعر وبعثرة الأحاسيس وعندها عليك أن توقن أنك تعيش في غربة حقيقية ، كذلك عندما تموت وحيدا دون ان يشعر بك اهلك وعشيرتك تلك هي غربة أيضاً ، وعندما تضطر الى ان تجعل حياتك وتحيلها كذباً ونفاقاً كي لاتختلف عمن هم حولك فتلك هي غربة ، لكن من وجهة نظري المتواضعة أن أصعب أنواع الغربة وأكثرها وجعاً ومرارة وأشدها قساوة هي أن تعيش داخل حدود وطنك وتشعر انك غريب وهذا النوع من الغربة هو مثار بحثي الذي سأسبر أغواره علّتي أصل معك أيها القارئ لأبعاد هذا الموضوع الشائك الكبير الذي لا يمكن أن نوفيه حقه في ثنايا هذا المقال المتواضع لكن ما لا يدرك جله لا يترك كله ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق ومن السوار ما أحاط بالمعصم . الغربة داخل الوطن هو الشعور بعدم انتمائك للمكان الذي شهد مولدك ومراحل طفولتك وللأرض التي عاش فيها آبائك وأجدادك فتحس أن هناك بوناً شاسعاً ومسافات كبيرة تفصلك عمن هم حولك وتشعر أنك مكبل ومقيد بسلاسل من حديد يصعب فكها ، وكم هو مؤسف أن تحس بالغربة داخل وطن في الأصل هو وطنك !!!!!! لا ريب أن أصعب أنواع الغربة هي غربة الوطن حيث تحس أنك في وطنك وبين أهلك وأحباءك ولكنك محاصر ومراقب تحسب ألف حساب لكل التفاتة أو حركة عفوية تقوم بها أو كلمة عذراء تتفوه بها أو حرف رائع تكتبه فتصل لمرحلة تراقب نفسك فتنعدم الشفافية والثقة في كل الكائنات والأشياء التي حولك وربما تفقد الثقة حتى في نفسك وروحك التي بين جنبيك . كذلك عندما تصلب الحرية في اليوم الف مرة على جدار العنصرية و الدكتاتورية وعندما تحس بأن أحلامك الوردية تذبح امام ناظريك عندها ستشعر حتماً بالغربة الحقيقية ، إضف إلى ذلك أنه عندما تعيش في وطن مدمر و مستعبد و مسلوب الارادة و الحرية فتلك هي الغربة داخل الوطن أخي القارئ ، وعندما ترى الظلم أمام عينيك ولا تقوى على إزالته أو حتى الكتابة عنه فتلك هي الغربة داخل النفس والوطن معاً ، وإذا رأيت الفوضى تضرب أطنابها ويؤكل قوت الشعب وتمص دماءهم ويرقص الإستغلاليون والنفعيون على جماجم البسطاء فعندها ستصبح الغربة خارج حدود الوطن أهون بكثير من الغربة داخله . كذلك نحس بالغربة الحقيقية داخل أوطاننا عندما تفقد الكلمة الحلوة مكانتها وتكسب الكلمة القاسية حلاوتها ويبقى البعيدون أصحابا ًوالقريبون أعداءاً ، والوفاء كنز نادر.. والحب مجرد كلمة عابرة ، والتضحية خرافة سخيفة والإبتسامة عملة نادرة ، وأن تتألم وفي نفس الوقت لاتستطيع أن تتكلم ..وأن تبتسم وصخور تكتم أنفاسك ، وأن تقهقه وجرح يقتلك ، وأن تسعى وقدماك مكسورة ، وأن تكتب و أنت مشلول اليدين ، وتفاجأ أن أعظم طعنة وأقسى ضربة لم تكن إلا من القريب . إن الغربة داحل الوطن تغير كل معالم الحياة الجميلة الممتعة التي كنا نمارسها وتطمس كل تطلعاتنا الشخصية فينعكس ذلك على أنفسنا ويؤثر على سلوكياتنا حتى نصاب بالإحباط فنحس وكأننا لا ننتمي لهذا الوطن أو كأننا من كوكب آخر ونحس بأن كل الأشياء من حولنا غريبة عنا ، سبحانك ربي يكون المرء بين عشيرته وأهله وفي وطنه ومسقط رأسه ويحس بالغربة ؟ !!!! ولكن يجب علينا أن نعي شيئاً مهماً وهو أننا مهما شعرنا بالغربة داخل أوطاننا سيظل الوطن هو الأم الرؤوم وسيبقى محفورا في قلوبنا وعقولنا ولن يغادر مخيلتنا فهو الحب الذي لا يزحزحه شئ أبدا لأن حبه تغلغل في فؤادنا وكياننا ووجداننا وقلوبنا تنبض بحبه ولنا فيه ذكريات جميلة تطفو على أسطح قلوبنا .. عزيزٌ أنت يا وطني رغم قساوة المحن برغم صعوبة المشوار ورغم ضراوة التيار دمتم للوطن ودام الوطن بكم ولكم ورد الله غربتكم ،،