{ كثيرون منا، يعاني من غربة لا ندرك غالباً مصدرها الحقيقي، فهي لا ترتبط بالابتعاد عن المكان الذي قد يكون وطناً.. أو أهلاً.. أو أحبابا. ولكنها غربة داخلية مبهمة، نحياها ونحن بين ظهراني أهلنا وأوطاننا، وكلما غصنا في أعماق ذواتنا شعرنا بهذه الأحاسيس الغامضة تتسلل إلى أرواحنا من حين إلى آخر كمرض عضال لم يكشف عن نفسه بعد. وتبدأ مع هذا الشعور تساؤلاتنا الحيرى التي تلتف حول نفسها بحثاً عن تفسير منطقي لمصدر هذه الغربة الداخلية وإحساسنا بها! { وغالباً ما يتولد إحساسنا المعذب بالغربة المجازية هذه مما هو أوسع معنىً من الابتعاد أو السفر أو الغياب عن مكان ننتمي اليه، إذ أنها تنتابنا تماماً حينما يعجز ذات المكان عن توفير ما يشعرنا حقاً تجاهه بالانتماء!! هل كلامي مبهم؟ ربما ولكن ألم يشعر أحدكم يوماً بغربة قاتلة وهو بين ذويه وأصدقائه؟ الذين يفترض بهم أن يولدوا لديه إحساس الأمان والإلفة والاستقرار ولكنهم لا يفعلون، فيشعر أحدنا تلقائياً بالإحباط والدونية ويعمد للانزواء والتوحد. فالانسان غالباً ما يتوقع من أحبابه وأصدقائه ما لا يستطيع تقديمه لهم أحياناً. وكثيراً ما تكون محبة الآخرين لنا مشروطة بالخضوع لأفكارهم ومعتقداتهم غير عائبين بما تتوقع منهم أنت، وحين تعجز عن الخضوع ولو باسم الحب يرمونك خارج عالمهم أو تنكفئ أنت طوعاً داخل عالم تصنعه لنفسك وتعيش وحيداً. { أفلا يتعاظم إحساسك بالغربة داخل وطنك عندما يعجز عن تقديم أبسط حقوقك في عيش كريم؟ أو حين يمنع عنك حريتك في التعبير عن رأيك لتكون كما تريد دون تزلف أو نفاق؟ يتولد الإحساس المرير بالغربة أول ما يتولد عن عجزنا عن أن نعيش أنفسنا وأفكارنا بصدق، مهما اختلفت هذه الأفكار عما يفرضه جبروت الآخرين ومفاهيمهم وقيمهم التي تمعن في كبت حريتنا وإحساسنا بالأمان. { وأقسى أنواع الغربة على الإطلاق تلك التي تكابدها النساء في مجتمعنا بسبب التمييز الذي ما زالت بعض الفئات تصر على ممارسته ضدنا بدءاً من الأسرة مروراً بالمجتمع الدراسي ثم المهني ثم الحياة الزوجية. فما قولكم في زوج «يعشق زوجته ويسكن إليها ثم يقمعها كل يوم بشتى الصور في آن واحد؟ ماذا عن سطوة الأب الذي كان سبب وجود ابنته ولكنه الآن يسقطها عمداً من حساباته كأنها عورة؟ وماذا عن الأخ الذي انزلقت وإياه من رحم واحد ثم ها هو يعاملها بجفاء وعدائية وكأنه لا يعرفها أو يعترف بإنسانيتها؟ لماذا تشعر معظم الفتيات بالغربة داخل أسرهن، فتجد العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة مفككة وجامدة كأنما ليس بينهم أي رابط دموي أو معنوي أو إنساني؟ لماذا نعيش حالة اغتراب جماعية من دون أن يربط بيننا أي رابط حميم فيعيش كل منا تفاصيل حياته بعيداً عن الآخر؟ بل أن بعض الأسر يصل الحال فيها إلى درجة من الصمت والتباعد حتى أنهم يلتقون داخل البيت الواحد لماماً، فلا تجمعهم وجبة ولا جلسة سمر ولا يتفقدون أحوال بعضهم البعض ولا يكترثون لشؤون بعضهم البعض وكأن أمر كل واحد لا يعني الآخر، وإذا سألت عن الأسباب فهي غالباً مجهولة؟. فهل يكفي الإحساس بالخواء وتكسر الأحلام وضيق العيش سبباً لخلق النفور العائلي أم أنه يجب أن يكون سبباً للترابط والتآلف أكثر؟ ولماذا تلقي الخلافات الأسرية دائماً بظلالها على مستقبل الأبناء الذين أحسب أنهم بلغوا حداً من الوعي في هذا الزمن بالقدر الكافي ليتفقوا على التكاتف لتجاوز المحن بدلاً من الانزواء والأنانية المفرطة والاستسلام أو ربما الاستمتاع بعذاب الغربة الداخلية الطويل! { تلويح: أبشع أنماط الغربة.. غربة الذات عن الذات!!