القاتل الحقيقي عمر الدقير [email protected] منذ بواكير الإنقاذ والمسرح السوداني عبثي تراجيدي، وإن كان ثمة كوميديا على هذا المسرح فهي كوميديا سوداء على طريقة شر البلية ما يُضحك .. منذ بواكير الإنقاذ وخيوط الدم والدموع تأبى أن تنقطع .. أمثلة لا حصر لها لمواطنين أبرياء ذهبوا في موتٍ عبثي مجاني وبقي الأسى يقطر من شواهد قبورهم، وبقي جُرح الحزن عليهم مفتوحاً كفمٍ بليغ يشهد على واقعٍ غاشمٍ يخسر فيه الورد رائحته لمصلحة الدم. فقبل أن يجفَّ ماء الوداع الأخير الذي نُثِر على تراب قبور ضحايا نقص الأوكسجين بمستشفى بحري الحكومي، ها هي شرطة أمن المجتمع تدخل بسلاحها في مواجهة مع أهل بيتٍ عزل في حي الديم بالخرطوم وترشهم بالرصاص الحي لتفريقهم كما تُرش الحشرات بالمبيدات، لتسقط المواطنة عوضية عجبنا مضرجة بدمائها وتفارق الحياة (رحمها الله) وتصاب جدتها بكسرٍ في ذراعها (شفاها الله). والأنكى من ذلك أن تُصر الشرطة على مضاعفة مأساة هذه الأسرة المكلومة وإيذاء الشعور العام وازدرائه ببيانها الذي صدر في أعقاب الحادثة (انتقده وزير الداخلية ووعد ببيان تصحيح واعتذار لم يصدر حتى الآن!) والذي يقلب الحقائق ويخلط الأدوار ويضيف إلى المأساة بعداً آخر، بحيث يصبح على القتيل أن يعتذر لقاتله لأنه تسبب في إخراجه عن طوره وكلّفه استخدام السلاح وثمن الذخيرة. أما لجنة التحقيق، فالتجارب مع سابقاتها تعطينا حق سوء الظنِّ بها لأنها كانت مُعلَنة فقط للإستهلاك الإعلامي وذرِّ الرماد في العيون وامتصاص الغضب العام. ولأن الشجى يبعث الشجى والدم يستدعي الدم في الذاكرة الملتاعة، فالسؤال ما زال قائماً عن نتائج التحقيق في حادثة بائعة الشاي نادية صابون التي لاقت حتفها قبل عامين بعدما سقطت على آلة حادة في طريق عام وسط الخرطوم وهي تحاول الإفلات من إحدى “كشات" شرطة النظام العام على الباعة المتجولين، كما لم نسمع عن أي محاكمات لمن تسببوا في إزهاق أرواح من خرجوا في مظاهرات سلمية مطلبية واحتجاجية في سوبا وبورتسودان وأمري وسنار وكسلا والقضارف وسوق المواسير ونيالا وغيرها من المدن التي سالت دماء المتظاهرين في شوارعها وأُسدل عليها الستار بلا محاسبة وأُريد لها أن تتوارى خلف غبار النسيان بلا خجل، لأن الخجل لحق بالحرية والعدالة وغادر الثلاثة أرض السودان الواسعة. القاتل الحقيقي الذي أودى بحياة عوضية عجبنا ومن سبقها في القائمة الحمراء ليس هو رصاص الشرطة .. الذي قتل عوضية، ويقتلنا جميعاً، هو هذا الليل الذي أرخى سدوله على الوطن وتمدد مثل ليل النابغة الذبياني حتى أدرك بظلامه كلَّ مناحي الحياة .. القاتل الحقيقي هو هذا النهج السُّلطوي الذي أفرغ مؤسسات الدولة من المضامين الإنسانية والغايات السامية وتلاعب بالتشريعات لتبيح التجسس وانتهاك الحرمات الخاصة ومصادرة الحريات العامة، وشوّه المفاهيم النبيلة – مثل أمن المجتمع – وجرّدها من مقاصدها الحقيقية، إذ يكون الأمن في المقام الأول هو أمن الحكم وضمان بقائه ولو كان ذلك على أشلاء جثث المحكومين. لا شيء أبداً، ولا مجال هنا لحيادٍ أو مخاتلة، يُبرر التجاوزات والحماقات الدموية التي تعصف بأرواح الأبرياء العزل إلاّ من أصواتٍ تخرج من حناجرهم احتجاجاً على ظلمٍ واقع أو طلباً لحقٍ مهضوم. إن السبيل الوحيد لتلافي مثل هذه التجاوزات والحماقات هو أن يُعاد لمؤسسات الدولة مضامينها النبيلة وغاياتها السامية لتكون في خدمة الشعب لا حرباً عليه.