[email protected] تناولنا في الحلقات السابقة مقالات الاستاذة رباح الصادق حول المذكرة التي دفعنا بها الي رئيس حزب الامة، وأعملنا مبضع النقد والتحليل في كتاباتها تلك، وتناولناها بصورة اجمالية من خلال الرؤية الكلية التي ارادت ايصالها، ووقفنا علي اهم المفاهيم التي يدور حولها الاختلاف، ولم نخض في تفاصيلها وجزئياتها وهي مليئة بالثقوب، وتجاوزنا عن السقطات التعبيرية والمفردات من شاكلة: (الشياطين، بني اسرائيل، كلاب لهب وابوجعارين) وغيرها مما رفدت به القاموس السياسي في اكبر تجلٍّ لتأثير المدرسة النافعية علي لغة التعبير في الخطاب الاعلامي. تجاوزنا عن التفاصيل والمماحكات باعتبار انها لا تخدم قضية الحوار ولا تسهم بالدفع بعجلة التغيير او الاصلاح كما تسميه رباح. وبكل أمانة ليس بيني وبين رباح اي ثأر، ولا أكن تجاهها احساساً سلبيا، وللأسف ليست بيننا اي معرفة شخصية إلا من خلال ما تكتب، بل انني اثمن مجهوداتها ومثابراتها الدؤوبة علي الدفاع عن الحزب والكيان علي السواء، وما أثرناه في هذه المقالات يتعلق بالقضية العامة، قضية الحزب الذي رأينا أنه الوعاء المناسب والمدخل الصحيح للتعبير عن قضايا الوطن الكبري. فالوطن هو الكيان الاعلي الذي لا معني للأنساق الدنيا من احزاب وطوائف وعشائر إلا في سلامته. وهدفنا من هذه المحاورات ان تعيد رباح النظر الي الاشياء بزاوية مستقلة، وخارج اطار محيطها الضيق، وتمنيت لو انّ مرةً واحدة أتخذ ايٌّ من أبناء الإمام موقفا مختلفاً عما اتخذه رئيس الحزب، لأن النظر الي قضايا السياسة مسألة تقديرية لاتورّث، ولا يشفع لرباح قولها أنها ملّت قصة كل فتاة بأبيها معجبة، فالأمر اوضح من ان يخفي. وفي هذا المقام لا بد من الاشارة الي ان الحبيب المهنس صديق الصادق المهدي قد اثبت انه قادر علي التحلي بسعة الصدر وتفهم الرأي المغاير، فما ادلي به من افادات في حواره مع صحيفة الاهرام اليوم مهما اختلفنا معه لا يخرج عن اطار ما يسمح به الاختلاف في تقدير الامور. في هذه المحاولة نسعي لفتح رؤوس مواضيع حول قضايا التغيير علي أن نعود إليها في مقام منفصل بعيداً عن الرد والرد المضاد. غنيٌّ عن القول أنّه منذ استيلاء الانقاذ علي مقاليد الحكم في البلاد، اخذ الصراع بين مكونات المجتمع السوداني بعدا آخر ومن ثم دخل منعطفا جديدا. لكن منذ منتصف التسعينات بدأ المجتمع السوداني، وبسرعة مذهلة، يتطور في اتجاهين متضادين، أو أنّه في أغرب مفارقة، بدأ يتطور ويرتد في آنٍ واحد. تمثلت حركة التطور الي الأمام في اتساع رقعة الوعي بالحقوق السياسية والمدنية والتعبيرعنها عبر ما عرف في الادب السياسي السوداني بخطاب الهامش في مقابل سيطرة المركز. ومهما اختلفنا حول دوافع ونتائج ما عرف بثورة التعليم العالي فإنها بالمعيار الكمي البحت قد زادت عدد المتعلمين بصورة كبيرة، امّا عن نوعية هذا التعليم وبيئته وفرص التوظيف المتاحة لهؤلاء الخريجين فتلك قصة لا أظن أنّ بيننا حولها خلاف. عززت هذا الاتجاه ثورة الاتصالات واتساع دوائر البث الفضائي واصبحت ثقافة الانسان العادي ثقافة عالمية ولم يعد هناك مجال لاحتكار المعرفة والمعلومات بصورة عامة. أما التطور الي الخلف أو الردة الاجتماعية فتمثلت في رجوع الناس الي ولاءاتهم الأولية من قبلية وعشائرية ومناطقية نتيجة لإلغاء دور الاحزاب السياسية والكيانات الكبيرة ومنظمات المجتمع المدني بصورة ممنهجة، وضعفها لعوامل موضوعية منها استهدافها من قبل النظام الحاكم من اجل تفكيها ووراثتها. ولعوامل اخري ذاتية متعلقة ببنية الاحزاب نفسها. وسوف يكون تركيزنا هنا اكثر علي العامل الذاتي لتشريح ازمات الحزب بمعزل عن المؤثرات الخارجية، من الناحية النظرية، لتسهيل عملية التحليل. لم تستوعب الاحزاب هذه التحولات الكبيرة لتعيد صياغة طروحاتها بإستثناء الحركة الشعبية. فان كانت غالبية الكتلة الاجتماعية الداعمة لها من جنوب السودان إلا أنّ خطابها كان موجها لقضايا الهامش بصورة عامة واستطاعت بذلك ان تجذب الي صفوفها نخبة من المثقفين والمفكرين الشماليين البارزين، وبزّت الاحزاب الكبيرة مما جعل خطاباتها في كثير من الاحيان ترديدا لصداها. استغلت الحركات المطلبية حركة التطور المضاد وقفزت الي سطح المشهد السياسي علي حساب الاحزاب التاريخية، كما اشرنا في الحلقة السابقة، وطرحت خطابا جديدا يتمحور في مجمله حول القضايا التنموية واللامركزية والاقتسام العادل للثروة والسلطة. وظل حزب الامة إزاء هذا التطور يلعب دور المتكئ علي امجاده، دون ان يعيد النظر في طرحه وخطابه، ومع ذلك يتكرر الحديث عن قيادة العمل الفكري في البلاد. أمّا فيما يتعلق بتطور المجتمع وإنتقاله الي الامام، فقد حدث الانتقال بصورة تجاوزت قدرة الاحزاب علي التوائم مع تلك المتغيرات، لأنّ قيادات هذه الاحزاب قد شاخت، وتستخدم خطابا ماضويا، وأدواتها السياسية قد عفي عليها الزمن، وكرّست لأبدية الجلوس علي الكرسي وخنقت عملية التطور السياسي بقفلها لمسارات التداول علي القيادة. فعزف الشباب عن المشاركة في الاحزاب وماذال الفراغ يخيِّم علي المشهد. حتي لا يبدو الحديث مجرد انشاء لا يسنده دليل، فان الذين اختلفوا معنا حول المذكرة قد اقرّوا جميعهم أنّ هناك تململ وسط الشباب، وأقروا كذلك بوجود اسباب ومبررات لهذا التبرم تتفاوت تقديراتهم لها، وأقروا ايضاً علي استحياء بوجود حاجة الي إصلاح/ تغيير دون الخطوط الحمراء. الإعتراف بوجود تململ وسط الشباب يعتبر فرضية او حقيقة علي قدر عالٍ من الاهمية ومحفزة للحوار لابدّ من تثبيتها، وهي في الحقيقة ثورة وليست مجرّد تململ. لماذا شريحة الشباب بالتحديد؟. نستطيع ان نزعم –حتي يثبت لنا الآخرون عكس ذلك- أنّ نمو حزب الأمة، في ظل القيادة الحالية، يتناسب عكسيا مع اتساع مساحة الوعي. كيف ذلك؟. أولاً: منذ أن تأسست جامعة الخرطوم لقرنٍ ونيف، لم يحدث ان شكل حزب الامة اللجنة التنفيذية لإتحاد الطلبة او فاز بمقاعد مجلسه الاربعيني بمفرده او حتي حصوله علي الاغلبية في اطار تحالف. المرة الوحيدة التي حصل فيها الحزب علي رئاسة الاتحاد –محمد حسن التعايشي- وخمسة مقاعد في المجلس الاربعيني كانت في اطار تحالف القوي الوطنية الديموقراطية في عام 2003 وكان يضم ثمانية تنظيمات سياسية لكل تنظيم خمسة مقاعد. وجاء تقدم حزب الامة في طليعة القوي الحديثة نتيجة المواقف النضالية الصلبة ضدّ الانقاذ والتحول النوعي الذي طرأ علي مفردة الخطاب السياسي في حقبة التسعينات ومطلع الالفية، لكنّه انتكس بعد العودة وفقد مصداقيته حتي وسط كوادر الحزب. فقد كان الاتحاد طوال تاريخه دولة بين اليمين واليسار. ثانيا: نزيف الكادر، فقد ظل الحزب باستمرار يفقد كادره ذا التاهيل العالي وخاصة الذين لديهم القدرة علي الصدع برأيهم ابتداءاً من عبد الرحمن علي طه، المحجوب، منصور خالد، كمال الجزولي، محمد ابراهيم خليل، مهدي امين التوم، محمد حسن التعايشي، فيصل عبد الرحمن علي طه واخيرا محمد حسن العمدة والقائمة طويلة. ثالثاً: في الديموقراطية الثالثة خسر الحزب جميع دوائر الخريجين. فالحديث عن ان الجماهير لا تريد بديلاً للسيد الصادق هو مجرّد رهان علي الماضي إن لم نقل استثمارا في الجهل ولا مبالاة بالمستقبل. فإذا اصرّ حزب الامة علي عدم الاستجابة لهذه التحديات الكبيرة، فان مصيره سوف يكون مصير احزاب الوفد المصرية. وإذا لم تتغلّب ارادة التغيير أو الإصلاح، فإن انقراض الحزب ربما يُعَد ظاهرة صحية. ولكن كلنا امل. هذه القضايا التي طرقنا عليها سوف نتناولها بتوسع في مساحة أخري ونأمل ان يدلي الجميع بدلوهم حتي تكتمل الصورة. الحلقة القادمة سوف تكون الاخيرة في هذا الحوار ونختم بمحطات لابد من الوقوف عندها ونقوش لابدّ من رسمها علنا نثير الشجوَ والشجن.