قراءة تانية الأغاني .. كتابة القوانين .. وصناعة السلوك السر قدور كانت الإدارة البريطانية للسودان تدرك مدة خطورة وتأثير فن الغناء على المجتمع ولذلك لاحقت وحققت مرارا مع الفنان الخالد خليل فرح بسبب أغنياته الوطنية حتى أصبح ضيفا دائما على مكتب رجل مخابرات ذلك العصر ( ادوارد عطية ) وبعد ذلك بسنوات لاحقت ذات السلطات الفنان أحمد المصطفى بعد نجاح أغنيته الجديدة ( عشت يا سوداني ) وتم كذلك التحقيق مع الفنان عثمان الشفيع لمنعه من ترديد أغنية (وطن الجدود ) في بيوت الأفراح وتقديمها فقط في المناسبات الوطنية كما تعرض الفنان حسن خليفة ( العطبراوي ) للملاحقة والسجن مرات بسبب تقديمه الأغنيات الوطنية الحماسية ومشاركته في المهرجانات السياسية والنشاطات الجماهيرية المعادية للاستعمار . وعلى جانب أخر كان رواد الفن يحرصون على أن يؤدي فن الغناء رسالته الوطنية والاجتماعية ولذلك فإنهم قد تصدوا بقوة عندما بدأ انتشار الأغنيات ( الهابطة ) على إيقاع ( التمتم ) في نهاية الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات من القرن الماضي ، ولذلك فقد اجتمعوا وقرروا أن يحاربوا الغناء الهابط حرصا على مسيرة الفن الغنائي الراقي والمحترم .. وقاموا بتأليف وتلحين الأغنيات الجميلة لتحقيق هذا الهدف وشارك في هذا كبار الشعراء سيد عبد العزيز ومحمد عبد القادر تلودي وشاعر الجمال حدباي وعبيد عبد الرحمن ومن المطربين العميد الحاج محمد احمد سرور وكروان السودان كرومه ثم أكمل الرسالة نجوم الغناء الحديث احمد المصطفى والكاشف وعبد الحميد يوسف وحسن عطية حتى تم القضاء على موجة الغناء الهابط وكان للإذاعة السودانية مع بداية إرسالها وفيما بعد ذلك دور عظيم في ترقية وتطوير ورعاية فن الأغنية باعتبارها إحدى ركائز الثقافة الوطنية وأقوى مظاهر الوحدة القومية التي تنقل الجمهور من مساحة الغناء القبلي المحدودة والمعزولة إلى ساحة الغناء القومي الرحبة وبذلك تتحقق وحدة الوجدان وهي الداعم القوي والسند الكبير لوحدة الأوطان . وبعد كل هذا الجهد من الأجيال المتلاحقة المدركة لرسالة الفن الغنائي نرى إن الاهتمام به قد فتر فتورا شديدا خلال العقود الماضية وان الأجهزة الرسمية لم تعد تساهم في إنتاج الغناء الجميل الذي يحقق الأهداف والغايات المرجوة منه بل إن هذه الأجهزة تكتفي بالعرض والتقديم فقط .. رغم إن العديد من الأصوات ترتفع هنا وهناك تشكو من تدني المستوى وانتشار الغناء الهابط بين الشباب .. وأذكر هنا قول أستاذنا الشاعر محمد المهدي المجذوب وكان رئيسا للجنة نصوص الأغاني في الإذاعة ( إننا نقدم الغناء الرفيع لأن في ذلك الوسيلة الوحيدة للقضاء على الغناء الهابط ). ولأن الإذاعة هي أهم وأخطر الأجهزة وأكثرها تأثيرا وانتشارا فإني أناشد المسئولين عنها وعلى رأسهم الإذاعي الكبير معتصم فضل والإذاعي الفنان عبد العظيم عوض إعطاء الاهتمام اللازم لفن الغناء وذلك بالتعاون مع اتحاد الفنانين واتحاد الشعراء ووضع خطة لإنتاج عدد من الأغنيات الجديدة وإشراك كبار الفنانين ونجوم الغناء الشباب ووضع خطة للإنتاج الجديد . كما أرجو أن تجد هذه الخطة الدعم المعنوي والمالي من وزارة الإعلام وعلى رأسها السيد الوزير عبد الله علي مسار الذي نرجوه أن يعطي فن الغناء ما يستحق من عناية في هذا الظرف التاريخي المفصلي لأن فن الغناء من أخطر الفنون المؤثرة على حياة الأمة .. وهنا أذكر ما قاله أحد فلاسفة اليونان الاسكندر الأكبر ( إذا دخلت أحد البلاد فاتحا فلا تنظر للذين يكتبون القوانين بل انظر للذين يصنعون الأغاني .. لان من يكتبون القوانين يراقبون السلوك أما الذين يكتبون الأغاني فإنهم يصنعون السلوك ) . الراي العام