في إحدى أمسيات عام 1957 كنت أسير في شارع البوستة بام درمان مع الزميل الفنان الشامل إسماعيل خورشيد وسمعنا صوت الراديو في دكان ( دكام ) وحسن عطية يغني ( رمضان أقبل بالهدى وهلاله الفضي بان ) فأدركنا فورا أن غدا هو اليوم الأول من شهر رمضان المبارك وقد تأكدنا من هذا من الجالسين أمام الدكان الذين سمعوا بيان المفتي من الإذاعة السودانية .وشبيه بذلك ما يحدث في مصر فعندما يسمع الناس صوت المطرب محمد عبد المطلب يردد ( رمضان جانا وفرحنا به ) يدركون إن الرؤية قد ثبتت وكذلك الأمر عندما يسمعون في آخر رمضان صوت أم كلثوم وهي تغني ( يا ليلة العيد آنستينا ) يدركون إن يوم غد هو يوم العيد .. وكنا في مطلع الخمسينيات نعرف بأن العيد غدا عندما نسمع الكاشف يغني من الإذاعة ( رمضان حليلو ودعنا جاب العيد ) .وفي ذلك العصر كانت الإذاعة السودانية تولي عناية كبيرة لأغنيات رمضان وقبل حلول الشهر الكبير بفترة مناسبة تنعقد اللجنة الموسمية الخاصة برئاسة الاذاعي والشاعر المرحوم محمد صالح فهمي لاختيار نصوص أغنيات رمضان ثم يتم توزيعها على كبار المطربين لتقديمها خلال شهر رمضان ، ولكن منذ سنوات طويلة لم تعد الإذاعة السودانية تحفل بأغنيات المناسبات الدينية والقومية والاجتماعية .. أما الغناء العاطفي فقد تركت أمره للشركات التجارية التي أحجمت عن تقديم الغناء الجديد والجميل هروبا من دفع تكلفته المرتفعة لتنشط في تقديم الغناء الرخيص لا في الثمن فقط وإنما في الأسلوب والمحتوى مما كان له الأثر الضار على الذوق العام .قبل عشر سنوات كنت أعتقد ان ( نفس ) بعض المسئولين ونظرتهم إلى أهمية فن الغناء هي السبب لعدم حماسة الإذاعة لتسجيل الأغاني الجديدة ، وتصادف وقتها أن زرت الرجل الفاضل العالم الدكتور غازي صلاح الدين العتباني في مكتبه وكان وزيرا للإعلام وفاجأني يومها بأن الوزارة رصدت مبلغا كبيرا من المال للإذاعة وخصصته لتسجيل الأغاني الجديدة وقمت بنشر الخبر في العديد من الصحف .. ولكن التسجيل لم يحدث ربما لأسباب إدارية تتصل بلجان الألحان والنصوص ولمواقف بعض الفنانين ( حينذاك ) من التعاون مع الإذاعة .. وقبل أيام تحدث الدكتور أحمد بلال بعد أن تولى وزارة الإعلام عن أهمية فن الغناء وضرورة الاهتمام به لدوره الوطني والاجتماعي ولأن الاهتمام بالفن الجيد والرفيع هو الوسيلة الوحيدة لحماية المجتمع من أضرار الغناء الهابط .ولا شك عندي أن الإذاعة السودانية وعلى رأسها رجل فنان وإعلامي كبير هو المعتصم فضل يدرك دور الغناء في توحيد الوجدان ودعم الوحدة الوطنية وحماية الذوق العام سيعطي اهتماما أكبر وأكثر لفن الغناء .كما لابد ان يتعاون كبار الفنانين والملحنين والشعراء مع الإذاعة السودانية لتقديم ما يخدم الوطن ويفيد المجتمع ويحافظ على المستويات الرفيعة التي بلغها فن الغناء السوداني بدون النظر إلى المكاسب المادية .ولأنه وكما قال الدكتور أحمد بلال فإن عدم تقديم الفن الرفيع سيجعل المجتمع عرضة لانتشار الغناء الهابط ، ولعلنا نسمع في عيد الفطر القادم مثلما سمعنا قبل نصف قرن أو أكثر من عبد الرحمن الريح وإبراهيم عوض ( يا عيد تعود يا عيد .. بالخير علينا سعيد ) .