في مقاله بعنوان «بانوراما تاريخية مدهشة في طريقها للإندثار» وبحنين صريح يتحدث أستاذ العمارة الدكتور هاشم محجوب الخليفة عن حالة الأنس والإرتواء الجمالي،التي كانت تغشى الناظر عند تصفح وجه عمارة مدينة الخرطوم القديمة، وهي تسافر به كبساط ريح ، عبر الزمان لتشي بملامح الفترات التاريخية المتعاقبة، التي تركت وسمها هناك على صفحة الخرطوم.ولا ينسى أستاذ العمارة أن يتطوف بالعاصمة الوطنية أمدرمان، بعمارتها الطينية الأليفة،التي تحيط الناظر ببساطتها وعفويتها وحنوها.لنلمح في حديث أستاذ العمارة المغبون مدى حرصه وحدبه وغيرته على أياقين وعتائق المعمار السوداني ،لا بنبرة تقديس الماضي والإرتهان له،ولكن بروح الأصالة وحفظ التراث الإنساني النفيس،والأنس ببهجة تأمله واكتشاف التأويلات المضمرة، التي تندس في شعاب تفاصيله،لتحتفظ بجمالها ولغزها عبر الزمن. فلا عجب اذاَ أن ترشح كلمات أستاذ العمارة بمرارة موجعة وهو يتحدث عن التخبط السياسي ببعديه الإقتصادي والإجتماعي،والذي انعكس بوضوح على صفحة تلك العمارة التاريخية الوسيمة، ليحولها تدريجياً إلى محض «فسيفساء مشوشة التركيبة، ومزعجة للعين والنفس».ثم يمضي ليسرد بحرقة تفاصيل ذلك التشويه المنظم، فيذكر على سبيل المثال لا الحصر،التخريب الفاجع الذي طال نفائس عمارة الخرطوم التقليدية،كالقصر الجمهوري «الذي تناوشته السهام بضراوة» لتعصف بطرازه المعماري المميز،وكذلك هو حال مبنى المديرية والمجلس البلدي والمسجد العتيق،كأبنية تاريخية عالية القيمة،خسرت الكثير من ملامحها المائزة وطابع عمارتها الكلاسيكي البديع ،بإضافات ساذجة ركيكة، موغلة في سطحية اللهاث المادي والسعار الإستهلاكي، فخدشت بذلك مزاجا فنيا رهيفا،وأخلت بسياق معماري رصين ونادر. وكان الصحفي طارق شريف قد تفجع كذلك،في إحدى مقالاته،على تلك المباني التراثية،ليقف واجماً عند مكتبة جامعة الخرطوم العريقة،وهي تتهاوى تحت غزو السيراميك والألمونيوم والكلادن والزجاج « بمعمار يفتقد للخيال والرؤية» .ثم يتطرق بسرد أسيف لتفاصيل تهديم مسجد أمدرمان ،وسوق الجرة ومسجد قدح الدم ، متسائلاً عن وجود قوانين تحمي تلك المباني التراثية، وتتصدى لعمليات طمس التراث المعماري،والإعتداء الصارخ على المباني التاريخية والأثرية.ويتصل ذكر ذلك للمتابع بهدم مباني أثرية في عطبرة وكسلا قوبل بوعي شعبي وغيرة وطنية مثيرة للإعجاب، أخبرت عنها موجة السخط الجماهيرية ،والمحاولات الشجاعة لمدافعة القرارات العشوائية بالتحشيد والإحتجاج وجمع التوقيعات. ويلتقط الخيط الصحفي الشاب مجاهد بشير ليكتب عن تأثير رياح الثقافة الخليجية التي تهب بقوة من الضفة الأخرى للبحر الأحمر، والغزو المعماري بملامحه الخليجية،ومدن الملح السودانية التي تطل برأسها في محاولة لإختزال «حقبة نفطية سودانية».وحتماً يذكرنا ذلك بمشاركة المرحوم نجم الدين محمد نصرالدين برزنامة كمال الجزولي بعنوان «مدن الملح السودانية» ، حيث يتناول عمارة متعجرفة متجبر ، لخصتها القريحة النافذة للشاعر حميد: (لا العمارات السوامق فوق ضهر ناساً فقارى)، فيكتب الأستاذ نجم الدين، له ولحميد واسع الرحمة وعظيم المغفرة ،عن البنايات العالية الصقيلة،التي تتلألأ كتلك التي بجزيرة مانهاتن بنيويورك (الفارق الوحيد أن عمائرنا هذه قد شيدت حيثما اتفق، واشرأبت بأعناقها الطويلة تمد ألسنتها، من علٍ ، إلى ما يحيط بها من بيوتات طينية قديمة بالية مهترئة، في افتقار تام للتناسق والتجانس والانسجام، مما يجعل المشهد كله مدعاة للنفور، بحيث يضيع بهاء البنايات الزجاجية التي أضحت كالزنابق في الوحول، وتزيد حالة التقزم والقبح فى المباني القديمة التي غدت كما الأيتام في موائد اللئام، فبدا لي أن التخطيط العمراني، وإلى حين إشعار آخر، غير معنى بأكثر من سلامة الهياكل الخرصانية، وقياس ارتفاعاتها، وبُعدها عن حوائط الجوار. أما في ما عدا ذلك فالجميع، حكومة ومالكين أثرياء، في حل من عدم التقيد بأي ضوابط أخرى، ناهيك عن أن هذه الضوابط الأخرى نفسها غير موجودة.ويمضي مشفقاً على المدينة من ذلك العصف الجائر ( فإذا بالخرطوم مزيج من ملامح المدن البترولية باذخة الثراء المالي، فقيرة الثقافة الروحية، مما ينعكس في نوعية مبانيها الشبيهة بتلك التي أسماها الروائي الراحل عبد الرحمن منيف بمدن الملح، القائمة في خواصر الصحارى، بتصاميمها النابية المستوردة بكاملها دونما أدنى مراعاة للواقع المناخي أو الحضاري).وكذلك يتطرق د.بشرى الفاضل لما يطالع الزائر الذي غاب لعقود من تغير لملامح العاصمة، ولكن بدفق معماري بلا هوية،وبلا أثر ملموس على البنى التحتية الأساسية من مجاري تصريف الأمطار ، وشبكات الصرف الصحي. وهو ربما ذات الكوكتيل السام الذي تشهره وتتباهى به المؤسسات المتنفذة، بواجهاتها الزجاجية اللامعة ،التي تتخايل بذلك الجاه المُنتحل والهيبة المُستعارة،دون أدنى تدبر للأثر البيئي لتلك الواجهات الزجاجية، ومساهمتها السالبة في رفع درجات الحرارة،وبالتالي زيادة إستهلاك موارد الكهرباء الشحيحة.كما ينبهنا د.محمد عبدالله الريح إلى أن تلك الواجهات تعمل كذلك كمصائد وشراك مخاتلة للعصافير والحمائم ، وهي تخوض نضالها تحت الشمس بحثاً عن مؤونة أو مأوى،فترتطم بزجاج الواجهات حيناً بعد الآخر، لتسقط الأجساد الصغيرة المسالمة هامدة بلا حراك.وفي ذلك تفسير بليغ للعنة النقل والتقليد،التي قد لا تراعي أدنى العوامل المناخية،ناهيك عن الأبعاد الاجتماعية والأقتصادية. ونحن نرى ونتابع الموجات الكاسحة لتأثيرات فنون العمارة عبر العالم، والتي أضحت أشبه ما تكون بحياكة القماش،فاذا بالعمران يُثنى ويوشى ويُعقف ويُجعد ،دون أن يُفرغ بالضرورة من منفعته وقصديته الخدمية وفاعليته الحياتية، ودون أن يتضاد ذلك الخيال الهندسي الوهاب مع الواقع الإجتماعي والبيئي.ولنعود لأستاذ العمارة د.هاشم محجوب الخليفة،الذي يحدثنا عن مفهوم الحداثة،الذي جسده عراب العمارة السودانية أ.عبدالمنعم مصطفى بمساهمات أصيلة طرز بها أفق العمارة السودانية،حيث «تعاملت تلك المساهمات مع مفهوم الحداثة بعمق ورصانة،فسجلت لحظات لإلتحام الجوهر بالمظهر،وتطابق الماعون بالمضمون» .وعن تطويع فن العمارة لخدمة متطلبات الحالة والذائقة السودانية قيمياً واجتماعياً وبيئياً.وفي ذلك مثال معافى عن الإستلهام من مجمل الحقل الإنساني الحضاري الواسع،بفطنة وسعة وحيوية تجعل المُحتذي مرناً في مقارباته ،مدركاً لحساسيته الثقافية وكينونته الحضارية.وليس بمجرد المحاكاة الفجة ،و التهافت التلفيقي الفوضوي،والهرولة المخزية للإنزلاق الطوعي في جلباب الآخر دون بصيرة أو تدبر. الراي العام