بقلم: محمد قسم الله محمد إبراهيم [email protected] الشئ الذى لا جدال فيه أنّ أم درمان تاريخياً لا يتعدى عمرها المائة عام إذ لم تكن شيئاً مذكوراً قبل الثورة المهدية التى انطلقت فى ثمانينات القرن التاسع عشر، وهي مدة بحسابات العراقة لا تكفي لوصف مدينة بأنها تاريخية، ورغم هذا فأهل ام درمان يُصّرون على زعامتها وريادتها وجعلها (حالة خاصة) وخصوصاً فى مجال الفعل الثقافى والثقافة عموماً. وبغض النظر عن مقومات الثقافات الرائدة من آثار قديمة وأصالة ضاربة الأطناب و.. و.. الخ. فاننا نأمل أن نقصر الحديث على أغنية الحقيبة: منشأها الأساسي كأرث ثقافى وكضرب ثقافى متميز والتى يعتبرها الأمدرمانيون عبقرية متفردة جادت بها أم درمان وليس سواها. وقبل كل شئ لا مناص من الإقرار بأن الحقيبة كأغنية لها تأثير واسع المدى على الأقل وجدانياً ناهيك عن شكل الأداء التقليدى أو الحديث. إن ام درمان تتعدد فيها الأجناس والأعراق ومع قصر مدة الإقامة فيها آنذاك قبل مائة عام تقريباً فى أرض واحدة فى أم درمان ربما يدعونا هذا للقول إنها غير منصهرة فى بوتقة ثقافية واحدة، والتباين هذا لأن بداية تكوين أم درمان كان بدافع دينى وهو فكرة المهدى المنتظر ولذلك كان النزوح لأعراق مختلفة بحثاً عن هذا المعتقد.. وعلى ذلك فحداثة عهد المدينة ينعكس بالضرورة على شكل المجتمع وممارساته. ولو كان المجتمع قديم التكوين منصهراً له ثقافته الواحدة الموحّدة فسيبرز هذا عبر سلوكيات أفراده وممارساتهم على اختلافها ومنها الفن وهو إنعكاس لمستوى الثقافة والموروث الحضارى. وفى مطلع القرن الفائت بدأت ما أسموها فيما بعد بأغنية الحقيبة "موضوع حديثنا" ومن المعروف أنّه فى حوالى العام 1900م قدم الى ام درمان شاب اسمه محمد ود الفكى وأدخل وأرسى اللبنات الأولى لما عّرف فى ما بعد بأغنية الحقيبة ولم تكن أم درمان قبل ود الفكى على دراية بهذا الضرب من الغناء. يقول الباحث الكبير حسن نجيلة فى كتابه (ملامح من المجتمع السودانى) : « كانت ام درمان لا تعرف حفلات الأعراس فيها غير نغمات الطنبور منبعثة من حناجر فنّانين تخصصوا في هذا النوع من الأداء، يُدعون إلى كل حفل عرس، ترقص البنات على كرير حناجرهم الذى يبعث أصواتاً من الصدر منغمة ولا تحتوى على أى نوع من الكلمات». ويضيف الباحث فى نفس الكتاب: «عهدى بالعاصمة المثلثة أن تكون دائماً مبعث كل نهضة جديدة ولكن اليوم أعلم أنّ أُسس النهضة الفنّية جاءت العاصمة من الأقاليم». انتهى. إذن أهل ام درمان لم يكن لهم فضل بداية أغنيات الحقيبة فقد تلقفوا الفكرة ممن أتى من خارج أم درمان ولعلّ هذا مما يدفع للقول إنه لم يكن مستوى الثقافة آنذاك عند الامدرمانيين يؤهل لأحداث مثل هذه الطفرة، ويعود هذا لأن القوم كانوا فى بداية حياة إستقرارهم فى أم درمان بمعنى أن الإرث على إطلاقه كما أسلفنا لم يكن تالداً. ولو لم يأت ود الفكى من كبوشية لبقيت كركرات الحلق تلك هى كل فن ام درمان وقد كان ما جاء به ود الفكى من كبوشية جديداً على مجتمع ام درمان، وود الفكى من أرض الشمال وهى أرض حضارة وإرث تاريخى وثقافى ملحوظ وموثق، ولذلك فليس بمستغرب أن تكون مبعثاً للفن دون أم درمان. وعلى قول الدكتور عبد الله حمدنا الله فأغنية الحقيبة مصنوعة فنياً مثلما أم درمان نفسها مصنوعة. إن شعراء تلك الفترة كانوا يتهافتون على ود الفكى يأخذون منه تقنيته الجديدة إن جاز التعبير منهم العبادى وود الرضى، والذين صاروا فيما بعد أعمدة للفن، وود الرضى نفسه مثل كثيرين غيره من الذين انسكبوا فناً لم تكن أم درمان هى الملهمة قلنا إن إرثها لم يكن كافياً لأثارة وجدان الشعراء فى تلك الحقبة، ومعظم هؤلاء وفدوها فى مرحلة عمرية متقدمة نسبياً.. كانوا مشبعين بروح غير روح أم درمان، فود الرضى هذا مثلاِ جاءها من العيلفون بعد ما رضع من ثدى البادية كل معانى الشهامة والتآلف والعفة والالفة مثلما سبقه ود الفكى. وحينما أعجب الناس بقول ود الرضى: الحشمة فى توب الزراق حرقت قلوب الناس حراق فإنه تعلّم هذا من أستاذه ود الفكى عندما كان يُردد فى حفلاته فى ليالى أم درمان المشدوهة بهذا القادم المجدد: رُوحى ملهوفة أسمعوا وُصُوفا بالنظر خِلاى سِتَّى كيُّوفة نفسى يا نفسى إنتِ مشغوفة.. وإمتدت الأىام بمحمد ود الفكى وتجاوز الأمدرمانيون حواجز الدهشة والانبهار وكركرات الحلق وصاروا يحاكون كلمات ود الفكى ولم يتوان هذا فى الغناء لهم.. العبادى وود الرضى وغيرهما. حتى ظهر سرور فى ما بعد وتلقفه العبادى ثُمّّ حذوا حذو ود الفكى مع بعض الاضافات المصنوعة أو التى أوجدتها الصدفة وليست العبقرية. نعم إن أغنية الحقيبة ليست عبقرية أم درمان وهى ليست أمدرمانية الصنع، قد تكون تطورت لاحقاً أو بالأحرى حُوِّرت لتناسب واقع أم درمان دون ذكر الفضل لأولى الفضل وهذا فيه اجحاف بحق الثقافة السودانية فى المقام الأول.