في اطار نشاطها الشهري أقامت كلية التربية - جامعة الخرطوم محاضرتها بعنوان نماذج من تاريخ أغنية الحقيبة ، تحدث فيها الدكتور عبد الله صالح يوسف أستاذ التاريخ بالكلية. وقدم للندوة وأدارها الدكتور محمد سعد محمد سالم. استهل الدكتور محمد سعد محمد سالم بتقديم المتحدث قائلاً: «أقدم لكم الأخ الصديق الدكتور عبد الله صالح وهو من القلائل الذين يعرفون تاريخ أغنية الحقيبة، وسعدت كثيراً وهو يحدثني عن تفاصيل دقيقة عن شعراء الحقيبة وروادها بل عن حياتهم الشخصية، وكأنه يتحدث عن أفراد أسرته الذين يعرفهم ويعيش معهم، وهو موسوعة في تاريخ أغنية الحقيبة في السودان وأتمنى ان يرفد المكتبة السودانية بكتاب يؤرخ فيه لتلك الأغنية». استهل دكتور عبد الله صالح: ان أصل اغنية الحقيبة جاء من منطقة كبوشية والبجراوية وازدهرت وانتشرت في مدينة أم درمان، وسوف اتبع في هذه المحاضرة المنهج التاريخي وهو تتبع مسيرة هذه الاغنية منذ مرحلة الطنابرة والعوامل التي ساعدتها على الازدهار والانتشار ، ثم هذا الخلود التي تحظى به حتى يومنا ، هذا التناول التاريخي للغناء هو جزء من التاريخ الثقافي والاجتماعي والوجداني. وسأحاول في هذه المحاضرة القاء بعض الضوء على تطور أغنية الحقيبة. بدأت أغنية الحقيبة عام 1919م وتوقفت عام 1947م عندما توفى الفنان كرومة، أما الذين غنوا الحقيبة فيما بعد ورددوا ما قاله الرواد في أواسط الاربعينيات. ودخلت الاغنية السودانية مرحلة جديدة من مراحل التطور، وهي ظهور الغناء الوتري على يد عبد الحميد يوسف، ابراهيم الكاشف، وحسن عطية. ان أول أغنية حقيبة هي «ببكي وبنوح وبصيح» وآخر أغنية حقيبة هي «هل تدري يا نعسان». تاريخياً وخلال الفترة التي سبقت عام 1920م كان الدوبيت هو الشكل السائد من النظم والغناء في العاصمة أم درمان، والتي سكنتها كثير من القبائل والاعراق. الحاردلو أمير الدوبيت في السودان منح الدوبيت زخما وسلوى كبيرين. كان للدوبيت شعراء ينظمونه ويعطونه للمغنيين من الرجال، ومن ابرز شعرائه في تلك الفترة: محمد عثمان بدري، أبو عثمان جقود، يوسف حسب الله، أحمد محمد صالح المطبعجي، عبد الرحمن خالد، عبد الله سليمان العشوق، صالح عبد السيد أبو صلاح، خليل فرح. وهؤلاء هم الاوائل والرواد. من أشهر هؤلاء الشعراء: ابراهيم العبادي في أم درمان، وخليل فرح في الخرطوم، وصالح عبد السيد أبو صلاح في الخرطوم بحري. بالاضافة للدوبيت كان هؤلاء الشعراء ينظمون الرميات تؤدى بواسطة المطربين؛ والرميات ثلاثة أنواع: ثقيل، وسطاني، وخفيف. ومن أشهر الذين يؤدون هذه الرميات عبد الرحمن شيخ سعيد، وأكثر الطنابرة شهرة عبد الغفار الماحي الهواري، بالاضافة إلى هؤلاء كانت هناك مغنيات شهيرات كن يغنين في بيوت الأفراح، كما عرفت العاصمة بعض أنواع فنون الغناء القبلي والنسائي في مختلف المناسبات والطقوس الاجتماعية بحكم التنوع العرقي الذي كان يسكن المدن الثلاث. وأم درمان مشغولة بالدوبيت وهذا الضرب من الغناء، إذ قدم إلى أمدرمان شاب في مقتبل العمر لعب دوراً مهماً في تطور الأغنية في أم درمان وهو محمد ود الفكي وكان ذلك عام 1908م ، محمد ود الفكي من كبوشية ينحدر من أسرة دينية حفظ القرآن الكريم وكان يؤدي المدائح وكان مغنياً بارعاً خاصة في مجال الطنبور وكان متمرساً على فنون الاداء وجاء إلى العاصمة للبحث عن العمل وتحسين ظروفه الاقتصادية، وكان يقيم ويعمل مع أهله الجعليين في السوق، وسرعان ما انتشر أمره وكان الناس يدعونه للحفلات لاعجابهم بطريقته وأدائه وجمال ألحانه ورقة كلماته. ولكن والده في كبوشية انزعج لنشاطه هذا فأرسل إلى كبير الجعليين بأن يبعثه إلى كبوشية، فرجع ود الفكي إلى كبوشية مسقط رأسه، ولكنه اقنع والده بالرجوع إلى الخرطوم فعاد إليها عام 1915م حيث عمل في سوق الخضار بالخرطوم ، في عام 1916م سمع العبادي شابا يترنم بالدوبيت ويتغنى بأغاني ود الفكي فأعجب به وألحقه بفرقة محمد ود الفكي فاستمر مع ود الفكي إلى عام 1919م حيث احجب الطنابرة، فغنى سرور برفقة الأمين برهان وشهد ذلك العام نهاية الطنبرة. وقد أرخ العبادي لتلك المناسبة بقصيد يقول فيها: جزاهم الله خير كان الحساب حسبو لنا جابو لنا الكراسي وفي الوساع نصبوا لنا من جهة التكرم كادوا آت يحبو لنا ما خلونا شي إلا الطنابره ابو لنا تعتبر ببكي وبنوح وبصيح أول أغنية على نمط الحقيبة حيث نقل الاغنية من مرحلة الطنبرة والبداوة إلى مرحلة الغناء الحديث أو ما يعرف بغناء الحقيبة واستطاع سرور والأمين برهان اقناع عبد الله الماحي وعلى الشايقي للانضمام إليها. بجانب العبادي ظهر شاعر آخر ساهم في أغنية الحقيبة هو محمد ود الرضي، منذ ذلك الوقت وحتى منتصف الاربعينات دخل في مجال أغنية الحقيبة عدد كبير من الشعراء وهم ليسوا من قبيلة واحدة أو مدينة واحدة أو اثنية واحدة، وهذا يعني ان أغنية الحقيبة أغنية قومية ليست قبلية وهذه من المميزات التي منحتها الذيوع والانتشار ، ومن الشعراء الذين اسهموا في غناء الحقيبة ابراهيم العبادي المؤسس الحقيقي والأب الشرعي للحقيبة، محمد ود الرضي، سيد عبد العزيز، عبيد عبد الرحمن، صالح عبد السيد أبو صلاح، عمر البنا.. وبقية شعراء الحقيبة. ومن الفنانين الذين تمكنوا من تسجيل اسطوانات الحاج محمد أحمد سرور، كرومة، الامين برهان، عمر البنا، عبد الله الماحي وآخرون. لأغنية الحقيبة خصائص ومميزات، أولاً تعتمد على الكلمة المغناة أو الشعر ، ثانياً استخدام الموسيقى، ثالثاً لحن الحقيبة لحن خماسي وكان يتبع كلمات الاغنية، رابعاً المجاراة حيث كان الشعراء يجارون بعضهم البعض، خامساً لزوم ما لا يلزم، وأخيراً الاقتباس من القرآن الكريم. وقد ساعدت شركات التسجيل وكذلك الخريجون في انتشار أغنية الحقيبة. وختم دكتور عبد الله صالح حديثه بأن الفن كان هواية، وأغنية الحقيبة مستمدة من البيئة السودانية ولولاها لأصبح في السودان فراغ ثقافي كبير.