رشيد الخيُّون تحاول الأحزاب الدينية التنصل من مصطلح الإسلام السياسي، على اعتبار أن الإسلام يجمع بين السياسة والعبادة، مع أن إخوان الصفا وخلان الوفا قد ميزوا مبكراً بين الدِّين والمُلك، ولم يجتمعا عندهم إلا لنبي، فذهبوا في إحدى رسائلهم إلى القول: إن النُّبوة بمكة والمُلك بالمدينة (رسالة في الآراء والديانات). بمعنى أن الإسلام بمكة دين وبالمدينة ملك، ونفهم مِن رسائلهم أن جمع الدين والملك، أي الدِّين والسياسة، إذا علمنا أن المُلك هو السياسة، لا يكون إلا لنبي مرسل، فبوجود النبي أن الدين أساس المُلك والمُلك حارسه(المصدر نفسه). أقول: ليس هناك مِن دولة تدين الإسلام لا تتقيد بمعاملات الشريعة، دون السياسة، وما يمكن تطبيقها منها بما يناسب الزَّمن، لأن الشريعة عبارة عن قوانين أو أعراف كان لها زمنها ومبررها، وهذا ما يذهب إليه العديد من علماء الدِّين، الذي لا يعترضون على تطبيق الرجم مثلاً أو قطع اليد. لا نناقش الحق في اتخاذ الدِّين واجهة سياسة أم لا، إنما نناقش المصطلح، وهو وصف الأحزاب الدينية بالإسلام السِّياسي، ونراه معبراً عن جوهر الظَّاهرة. فليس أصعب عليها مِن وصفها بهذا الوصف، على اعتبار أن المصطلح مِن أقاويل خصومهم الذين يريدون عزلهم عن حاضنهم المجتمع المسلم. لهذا جهدت الأحزاب الدينية إلى إطلاق صفة الإلحاد على مَن يتبنى فكرة فصل الدِّين عن السِّياسة أو عن الدَّولة، على أساس أن التحزب الدِّيني يُسقط عملية المنافسة. وبالتالي لا جدوى للانتخابات إذا كانت المنافسة مع الله، فتلك الأحزاب تدعي تمثيل الله على الأرض. فحسب ما قاله وكتبه شخوص الإسلام السِّياسي: أن الإسلام عبادة وسياسة في الوقت نفسه، ومَن يحاول التجزئة أو عدم خوض السياسة عبر شعار الدِّين يُعد خصماً للدِّين في عرفهم! سأل أحد أبرز قادة حزب "الوفد" المصري فؤاد سراج الدَّين (ت 2000) مؤسس الإخوان المسلمين الشَّيخ حسن البنا (اغتيل 1949) في شأن ممارسة السِّياسة عبر الدِّين قائلاً "عايز أعرف أنتم جماعة دينية أو حزب سياسي؟ إحنا ما عندناش مانع أبداً أنكم تكونوا حزب سياسي، أعلنوا على الملأ أنكم بتشتغلوا بالسِّياسة، وأنكم كونتم حزب سياسي، ولا تتستروا بستار الدِّين، ولا تتخفوا في زي الدِّين. أما أن تتستروا تحت شعار الدِّين، والله أكبر ولله الحمد، وفي نفس الوقت تقوموا بالعمل السِّياسي، وتباشروا الحزبية، فهذا غير معقول، لأنه يخل بمبادئ تكافؤ الفرص بينكم وبين الأحزاب السِّياسية. أنا كرجل سياسي حزبي لا أستطيع أن أهاجم جماعة دينية تنادي بشعارات دينية سامية"(يوسف، الإخوان المسلمون وجذور التَّطرف الدِّيني). حينها ردَّ مؤسس الإخوان رداً علمانياً، إذا كانت العلمانية تعني فصل الدِّين عن السِّياسة، قائلاً "نحن لم نُفكر في العمل بالسِّياسة، ونحن رجال دِين فقط، ورجال فكر ديني، وإذا قد صدر مِن بعض رجالنا، أو مِن بعض شُعَبنا أي عمل يُخالف هذا الخط، أو يدل على اتجاه سياسي فأنا استنكره، وسأوقفه عند حده فوراً"(نفس المصدر السابق). كان ذلك العام 1942، قُبيل تبني الإخوان سياسات الاغتيالات بمصر، والتي طالت زعماء الدولة آنذاك. بمعنى أن الشَّيخ البنا ميز بين الدِّين والسِّياسة، ولو ظاهرياً، على اعتبار أنها مِن المتغيرات بينما الدِّين يُعد مِن الثَّوابت. فماذا يعني الجمع بين الدِّين والسِّياسة؟ أليس يعني الإسلام السِّياسي، المختلف في مقاصده عما يخص الدِّين بعباداته ومعاملاته الشَّرعية، وفي أُصوله وفروعه؟ ولا أجد تعبيراً عن الإسلام السِّياسي أدق مِما أجاب به أحد قادة العباسيين عند القضاء على حركة محمد بن عبدالله (145ه) المعروف بالنَّفس الزَّكية، وما رواه ابن جرير الطبري (ت 310 ه) في "تاريخ الأمم والملوك". قال "حدثني علي بن إِسماعيل بن صالح بن ميثم، قال: حدثني أَبو كعب، قال: حضرتُ عيسى (اِبن موسى) حين قُتل محمداً فوضع رأَسه بين يديه، فأَقبل عليه أَصحابه، فقال: ما تقولون في هذا؟! فوقعوا فيه، قال: فأَقبل عليهم قائد له، فقال: كذبتم والله وقلتم باطلاً، لمِا على هذا قتلناه، ولكنه خالف أَمير المؤمنين، وشّقَ عصا المسلمين، وإن كان لصواماً قواماً. فسكت القوم"! أقول: لماذا يستنكر أعيان الأحزاب الدِّينية تسميتهم بالإسلام السِّياسي، وقد عبر عن ظاهرة الأحزاب الدِّينية بعمق ودقة؟ أليس مِن حق مئات الملايين مِن المؤمنين، مِن غير المتحزبين تحت شعار الدِّين، التميز عن أهل الأيديولوجيا واتخاذ الدِّين وسيطاً إلى السُّلطة! أما عن تاريخ المصطلح فهناك مَن أشار إلى أن الشَّيخ محمد رشيد رضا (ت 1935) قد استخدم مصطلح الإسلام السِّياسي "في التعبير عن الحكومات الإسلامية التي سماها" (عمارة، الإسلام السِّياسي والتَّعددية السِّياسية مِن منظور إسلامي). وهناك مَن ينسب التسمية إلى هتلر (انتحر 1945)، قالها عند لقائه بمفتي القدس الشِّيخ أمين الحسيني (ت 1974). صحيح أن الإسلام يجمع تحت رايته المسلم السِّياسي وغير السِّياسي، لكن عند التفرع تفرقهم السِّياسة، فهناك إسلام يخص الجميع، وإسلام سياسي يجمع كلَّ الحركات التي تتخذ مِن الدِّين في تحركها السِّياسي أيديولوجيةً، ترنو إلى تطبيقها عند الوصول إلى السُّلطة وفي أثناء التَّحرك إليها، وهي بالتالي لا صلة للدِّين بها إنما هي من صنع الرِّجال. بدأت بإخوان الصَّفا وما ميزوه بين الدِّين والمُلك، واشترطوا بين الدين والدولة وركوب غمار السياسة في بحره بشرط أن يكون القائد أو الرئيس نبياً، وهذا المستحيل بعينه. بينما جماعات الإسلام السِّياسي يجعلونهما واحداً يعبران عن الحاكمية الدائمة التي صارت لخلفاء النبي، وأحزاب الإسلام السياسي تجد في قادتها هم الخلفاء الأوصياء. واختم بإخوان الصفا فنراهم يميزون ويفصلون بأكثر وضوح بين الدِّين والسياسة عندما يقولون في الإمامة: "واعلم، أن الإمامة إنما هي الخلافة، والخلافة نوعان: خلافة النُّبوة وخلافة المٌلك"(رسالة في الآراء والديانات). قبل إخوان الصَّفا وخلان الوفا ذهب الجاحظ في إشارته، التي وردت في كتابه "الحيوان" إلى سلطتين دينية تخصُّ مهام الدِّين، واجتماعية تخصُّ مهام إدارة المجتمع، فالحكم في الدين أي الفصل في الأُمور الدِّينية ليس غير، ولا يعني الحكم في الصناعات، وتدبير المعاش وإدارته، وترتيب الأبواب والفطن إلا إدارة الاقتصاد والسياسة. ميدل ايست أونلاين