.. مصطفى محمد نور [email protected] كثيرة هي المطبات والمزالق التي إعترضت مسيرة حكم البشير وحزبه الحاكم منذ توليه السلطة ، فقد إستطاع البشير – وبإعتراف الكثيرين –في أغلب الأحيان تجاوز هذه العقبات والمزالق بذكاء وحنكة عالية . أبرز ما تميز به البشير هو قراءته لملعب الخصم ومعرفة نقاط قوته وضعفه ، ومن ثم إتخاذ الخطوة المناسبة التي تربك حسابات الخصم .. الأمثلة كثيرة للتدليل على ذلك ، لكن من أبرزها بلا شك تعامله مع قرارات محكمة العدل الدولية ومشكلة دارفور بكل تعقيداتها الداخلية والإقليمية والدولية ، وكذلك في تعامله مع الحروب التي قادها قطاع الحركة الشعبية قطاع الشمال ، حيث نجح البشير في تحجيم قوة الحركة وعدالة مطالبها ، بتركيزه على نقطة هامة وهي أنه دستورياً لا يمكن أن يكون هنالك جيشان في إطار الدولة الواحدة ، وأنه إذا أرادت الحركة قطاع الشمال الإنخراط في العمل السياسي السلمي في الشمال ، فعليها أن تضع سلاحها وتقوم بتسجيل نفسها كحزب سياسي لدى مسجل الأحزاب السياسية ، الأمر الذي لم تقبله قيادة الحركة ، وبالتالي تم حصارها بين خيارين هما إما الإستمرار في الحرب وتوسل الدعم من حكومة الجنوب ، أو العودة إلى حضن المؤتمر الوطني . خياران بلا شك لكل منهما عواقبه الوخيمة سواء للحركة الشعبية قطاع الشمال أو لحكومة الجنوب .. المثال الأخير الذي يعكس ذكاء البشير في تعامله مع المطبات والمزالق التي ظلت تعترض مسيرة حكمه ، كان معركة هجليج الأخير ، والتي إستثمرها البشير إستثماراً جعل الكثير من المتابعين يقرون بأن هذا الخطأ الذي إرتكبته حكومة الجنوب جُيّر لصالح البشير بل وسوف يتيح له ولحزبه الفرصة للبقاء في سدة الحكم لسنوات طويلة قادمة . على ضوء نجاح البشير في كل هذه الإختبارات والمحكات الصعبة ، كان يتوقع المرء أن يكون البشير أكثر ذكاءاً في تعامله مع المشكلة الإقتصادية التي أحاطت بحكومته من كل الأطراف وخصوصاً بعد فقدانه لعائدات البترول بعد إنفصال الجنوب ، وكان لها آثارها السلبية على حياة المواطن البسيط . كان يمكن أن تكون قراءة البشير لملعب الظرف الداخلي والإقليمي والدولي الراهن أكثر حصافةً ، بإعتبار أن دعاش ثورات الربيع العربي لا زالت نسائمه تصل إلى الشعب السوداني التائق للإنعتاق من حكم البشير ، ولكن كثير من الحواجز أعاقت تحقيق توقه هذا منها ، زهده في كل قيادات المعارضة الحالية الموجودة لتمثل البديل المرتجى ، وأن جراح إنفصال الجنوب لم تندمل بعد بصورة كبيرة ، بل وزاد ألمها الملح الذي أصررت حكومة الجنوب على وضعه في هذا الجرح بتصرفاتها الأخيرة مثل إحتلال هجليج وإيقاف ضخ النفط وكذلك الكثير من التصريحات المستفزة لبعض عناصرها . من الواضح أن الأزمة الإقتصادية ضربت بأطنابها على كل جنبات الحكومة وحزب البشير ، التي تعودت على صرف سياسي بذخي – بإعتراف الحكومة نفسها – في الفترة التي تدفقت فيها عائدات البترول ، ومن المتفق عليه بين معظم الإقتصاديين أن حزمة الإصلاحات الإقتصادية التي قام بتنفيذها حزب البشير والمتمثلة في أهم عنصرين وهما هيكلة إنفاق الدولة وإلغاء الدعم على المحروقات ، لا مناص من تنفيذها عاجلاً أو آجلاً حتى لا يستمر التشوه الإقتصادي الواضح على جسد الدولة السودانية .. ولكن كان من المتوقع أن يتعامل البشير وحزبه في تنفيذ هذه الحزمة بذكاء وحنكة أعلى من ضرورة أسلوب علاج الكي " لمريض سكر " – حسب وصف ضياء دين بلال – حيث كان من المتوقع أن يستثمر البشير التهيئة الكبيرة التي قام بها لتقبل المواطنين لأمر هذه الحزمة وذلك بتدريج تنفيذها .. فقد كان من الأجدى أن يقوم البشير بتنفيذ شد الحزام على بطن الحكومة المترهل أولاً ، وذلك بتنفيذ قرارات هيكلة الدولة وبصورة حاسمة وسريعة ، قبل تنفيذ إلغاء الدعم على المحروقات ، حتى يُقنع الكثير من شرائح الشعب أن الحكومة سوف تكون نفسها القدوة في حزمة الإصلاحات الإقتصادية ، خصوصاً بعد أن طفح سيل التسريبات عن حجم الرواتب والمخصصات الضخمة التي يتلقاها دستوريو وموظفو الحكومة ( آخرها راتب ومخصصات محافظ البنك المركزي ) ، وكذلك تُهم الفساد الكثيرة التي مثلت ضربة جزاء مضمونة ظل يستثمرها معارضو الحكومة لوقت طويل ، دون أن ينجح في صدها الكثير من حراس الحكومة اللذين ظلت تستبدلهم كما تستبدل ثياب ضرورات أي مرحلة أو أزمة تواجهها .. وبعد أن تطمئن الحكومة إلى أن العلاج بالكي الذي مارسته على جسدها المترهل والمتخم قد نجح وأقنع الشعب بأن مثل هذا العلاج ناجع بدليل تجرع الحكومة نفسه لها ، فقد كان من السهل على الشعب أن يتقبل تجرع نفس العلاج ، وإن لم يستطب طعم المر . قراءة بسيطة لدرجة الغليان التي وصل إليها الشعب ، كانت سوف تتيح للبشير وحزبه بحبوحة من الوقت في التفاوض مع حكومة الجنوب ومحاولة تنفيذ إتفاقية الدوحة بصورتها الكاملة ، وكذلك الإنتهاء بصورة كاملة من شوكة تحالف كاودا ، وهذا ما فشل فيه البشير وحاشيته بدرجة الإمتياز ، وقد يكون من المتأخر جداً الآن ، أن يخبرهم ترمومتر الشعب بأن عليهم إعادة محاولة القراءة .