بروفيسر/ نبيل حامد حسن بشير [email protected] قسم المبيدات والسميات جامعة الجزيرة الجندب (صرصور الغيط cricket) من حشرات رتبة مستقيمة الأجنحة Orthoptera و هي نفس الرتبة التي يتبع لها الجراد بأنواعه المختلفة ، و الصراصير المنزلية. كل مجموعة منها تنتمي إلى عائلة حشرية Family مختلفة اكثر تجانسا فيما بينها. ينتمى الجندب لعائلة كبيرة تسمى جريليدى . Gryllidae تضم هذه العائلة بدورها عدة أجناس Genera، لها صفات تصنيفية محددة، و سلوكيات معروفة و مدروسة بالتفصيل. هذه الأجناس منتشرة على مستوى العالم كلة. تختلف الأجناس فى الحجم و اللون و بعض التركيبات التشريحية الخارجية و الداخلية، و فى بعض الملامح الوظيفية (الفسيولوجية). الجنس الذي ظهر بمدنى وضواحيها هو الجنس المعروف فى السودان و الدول المجاورة، بل أغلب دول العالم، هو الجنس جريلاس Gryllus . يقع داخل هذا الجنس عدة أنواع Species منها النوع domesticus (الأليف). يتواجد هذا النوع بمنازلنا و حدائقنا المنزلية و مزارعنا طوال العام، و من منا لم يسمع صوت الجندب فى كل أنحاء القطر الواسعة، و عندما تسال ما هذا الصوت؟ يقول لك أي شخص هذا صوت الجندب أو أبو القرنبع. يرتبط هذا الصوت عندنا فى السودان ببدايات الخريف. الحشرة تتغذى على أوراق (محاصيل أو حشائش). الصوت الصادر عن الجندب ناتج عن احتكاك عرق بالجناح أكثر بروزا من العروق الأخرى مع بروز آخر يوجد فى السطح الخارجي لفخذ الأرجل الخلفية حيث يعملان معا كما يعمل القوس مع آلة الكمان. النتيجة إصدار صوت أو صرير chirp or song بذبذبات و ترددات يتعرف عليها الجنس الآخر الذي يحاول الوصول إلى مكان مصدر الصوت حتى يتم التزاوج و التلقيح و استمرارية النوع. لم يعرف عن هذه العائلة إفراز كيماويات للتفاهم بين الأفراد (فيرومونات)، كما هو الحال فى حالة الجراد أو رتبة حرشفية الأجنحة (الفراشات و أبو الدقيق). من ناحية عامة و علمية من المعروف بيئيا و احيائيا أن لكل كائن حي ظروف مثلى بيئيا (حرارة، رطوبة نسبية، إضاءة.. الخ) و احيائيا (توفر الغذاء، غياب الأعداء الطبيعية، غياب المنافسين، توفر الملجأ.. الخ) . هذه الظروف عند توفرها تتسبب فى حدوث ظاهرة تسمى outbreaks، يقابلها باللغة العربية كلمة انفجارات سكانية بالنسبة للإنسان (انفجارات عددية)، وفيها يصل تعداد الكائن الحي إلى أرقام فلكية. ثم تتداخل عوامل أخرى (أيضا بيئية و أحيائية) حتى تعيدها إلى وضعها الطبيعي (التوازن) فى حدود المتوسط المتعارف علية لهذا النوع. هذه الانفجارات تحدث على فترات تتكرر على مدى التاريخ مثل ما كان يحدث فى الجراد الصحراوي الذي كانت اسرابة تحجب الشمس فى الخمسينات و الستينات من القرن الماضي. كما يلاحظ المزارع ان هنالك أعوام تكثر فيها أعداد آفة معينة و تختفي فى غيرها من الأعوام. يستطيع المزارع ان يفسر ذلك طبق لملاحظاته الخاصة و ربطها بمعدلات الأمطار أو الحرارة.. الخ من العوامل المناخية، أو بعض الممارسات الزراعية الخاطئة (عدم إزالة الحشائش، التجهيز السئ للتربة الزراعية، عدم إزالة بقايا المحاصيل السابقة.. الخ). فى العامين السابقين بدأ موسم الخريف فى الجزيرة مبكرا و انتظمت الأمطار من يولية و أغسطس و قرب نهاية سبتمبر، ونمت الحشائش و المحاصيل الزراعية نموا جيدا، ووجدت كل الكائنات نباتية التغذية ما تشتهيه من أنواع الغذاء بما فى ذلك دودة الصرفة التي ملأت الشوارع و المنازل و المكاتب و المنتزهات و أكملت جيلها و دخلت فى طور سكونها حتى الخريف القادم ان شاء الله. مثلة مثل الصرفة، فقد وجد الجندب الظروف البيئية المناسبة من رطوبة نسبية و وفرة الغذاء و عدم وجود منافسة من آفات أخرى مع غياب الأعداء الطبيعية، وجدت الحوريات (الأطوار غير البالغة) ما يكفيها من الغذاء و يزيد و أصبحت حشرات كاملة و توالدت بحرية و بنسب و معدلات خصوبة و فقس و حياة أعلى من المتوسط السنوي بكثير ثم فجأة توقفت الأمطار فى المناطق المجاورة لمدينة ودمدنى و فى المدينة نفسها لفترة قاربت الشهر، فتشققت الأرض الزراعية التي كانت تعتمد على الأمطار. هذه الشقوق هي الملجأ المفضل لهذه الحشرات أثناء النهار الساخن و ليلا بعد ان تأكل ما يكفيها. لم يتحمل المزارع و إدارة مشروع الجزيرة عطش المحاصيل و بدأت عمليات الري الصناعى. النتيجة الطبيعية أن تهرب هذه الحشرات من الغيط حفاظا على حياتها. السؤال هو : لماذا مدينة ود مدني و ضواحيها؟ الأجابة بسيطة، وهى ليست مؤامرة من عشيرة الجنادب على سكان المدينة ، أو حقد ضد أبناء آدم ممثلين فى سكان مدينة مدني العريقة. ببساطة تنجذب الحشرات ليلا إلى مصادر الضوء، خاصة تلك التي تحتوى نسبة عالية من الأشعة فوق البنفسجية!!! هذا يتوفر فى لمبات النيون الموجودة بل السائدة فى كل المنازل و المصالح الحكومية والأسواق و لمبات أعمدة الشوارع. و من حظها السعيد فأن المدينة بها من النباتات و الحشائش ما جعل الرعاة يرعون داخل المدينة. علية فكل الظروف كانت مواتية و عبارة عن دعوة صريحة من المدينة لبنى جندب للحضور و مقاسمتنا سبل الحياة كما هي عادة السودانيين عامة تجاه كل لاجئ. حضر الضيوف بالمليارات، و دخلوا كل البيوت و المصالح الحكومية و البنوك و المدارس و المساجد و احتلوا الشوارع و الأركان و الشقوق، و جعلوا البساط احمدي. بما أن المدينة وسكانها لا يعرفون شئ عن عادات و تقاليد هذا الضيف الجديد فلم يكونوا مستعدين لاستقباله بالطريقة التى تناسبه، خاصة و أنة لم يرسل وفد مقدمة، و لم يتبع البروتوكولات المتعارف عليها. كما أنة لا يتبع لمفوضية اللاجئين. احتلت قبيلة بنى جندب المدينة و استباحتها. أكلت حتى شبعت. بعد الأكل لابد من إخراج الفضلات!!! مليارات من الجنادب التي تأكل ما يعادل وزنها يوميا تريد (بل هي مجبرة) أن تتخلص من فصلاتها، لكنها و بحكم ثقافتها لا أظنها قد سمعت عن بيت الأدب. لا ألومها، فهنالك الكثيرون فى مدينتا لم يسمعوا به بعد؟؟!! إذا ما قدرنا وزن الصرصور الواحد بحوالي 10 جرام، و اخرج فى اليوم الواحد 2 جرام فضلات (بول + براز معا) مضروبة فى المليارات، فستكون النتيجة عدة مليارات من الجرامات، أي عدة ملايين من الكيلوجرامات (عدة آلاف من الأطنان) من هذه النفايا الغريبة الجديدة على المواطن الذي لم يتعرض لها من قبل، و لم يتعامل معها جهاز مناعته، ستكون النتيجة أن البعض سيكون حساس لها، خاصة الذين عرف عنهم ان لديهم حساسية ، و هم كثر فى مدينتنا منذ ظهور بنى خفاش منذ قديم الزمان. مثلها مثل أي عشيرة من عشائر الكائنات الحية، فهنالك نسبة موت طبيعية تحدث يوميا. أضف إلى ذلك ما تقتلة السيارات وغيرها و المبيدات المنزلية..الخ، و يترك فى مكانة دون ان يكنس أو يجمع ثم يحرق. هذا الصرصور نتيجة تغذيته المتكاملة و المتوازنة (ياريتة حالكم جميعا بنى وطنى) فهو مكتنز بالدهون و البروتينيات. عند موتة تتحلل هذه الدهون و منها ما هو عبارة عن "أحماض دهنية متطايرة" و تسبب الحساسية، أما البروتينيات فمن بعض نواتج تحللها بعض "الأحماض الايمينية" (ليست الأمينية imino acids) و المعروف عنها تسبيب الحساسيات. بالنسبة لمقاومتها للمبيدات فهو ادعاء مردود علية حيث أنها لم تكن آفة رئيسية فى يوم من الأيام، و بالتالي لم تتعرض لأي معاملة بالمبيدات حتى تكتسب أي درجة المقاومة. و من أبجديات اكتساب المقاومة المعاملة المتكررة و لفترة زمنية طويلة. فيا أهل مدني الصابرين فقد انتهت زيارة الضيف الذي توسم فينا الخير و لم يكن يقصد ان يسبب لنا كل هذه المشاكل (جيل واحد) و قد انتهى. و هذا لا يمنع تكراره العام القادم (حيث أنه ترك بيضه بتربتنا بالمدينة) إذا ما توفرت له نفس الظروف. لكننا نحن (من المفترض) لن نتعامل معه بنفس السلبية حيث أننا (فى اعتقادى) قد تعلمنا الدرس. أرجو أن لا يفاجئنا العام القادم كما نفاجأ كل عام بالخريف و الفيضان و رمضان والعيد وبداية العام الدراسى.