[email protected] اذا كان الشاعر قديما قال في السفر خمسة فؤاد، فيبدو ان الفوائد الان ارتفعت الي خمسين او خمسمائة او ربما الي ما لانهاية ، انها ياقوم هجرة وليست اغتراب، فالاغتراب يكون بتذكرتين روحة- عودة للبلد يوما ما، اما الهجرة فهي تذكرة واحدة، سهم وانطلق من جوف القوس نحو الفضاء، انه خروج بلا عودة، والغربة كالقلعة من بداخلها يريد الخروج، ومن بخارجها يريد الدخول، شباب، كهول، مفكّرين، محاضري جامعات، اطباء، مهندسين، فنيين، عطالة، نشالين، (نِسوان) بمحرم ومن غير محرم، الكل يريد الهروب والسلام، وثلاثة الف تاشيرة خروج يوميا كما سمعنا، ياللهول!! فالحصار الذاتي للعقل السوداني الجامح للهجرة اصبح يفكر في اتجاه واحد السفر ثم السفر ثم السفر، تحت رزحيّات الضغوطات اليومية، والواقع المر، والمستقبل المحفوف بجملة تساؤلات مخيفة، الحاضر الكئيب بتداعياته القوس قزحية، وتساقط اوراق العمر، لا سيما وان الاخبار التي تاتي من السودانين الذين زحفو نحو اوروبا مُبشّرة، ويانعة مثل زهرة اللوز في عز الربيع. فالغربة قرار للوعي الشقي (العبارة لهيجل) وكثيرين يعتقدون ان الانعتاق من الواقع المحلي الي واقع اخر حتما سوف يكون ايجابيا بكل المقايس، ربما ولحد ما هكذا طرح صائبا، ولكن ليس بالمطلق، فهناك من هاجر يحمل تخصص جامعي في الهندسة مثلا، لكنه بهت عندما عجز لسانه عن نطق جملة انكليزية كاملة بشكل صحيح، وانتهي به الحال جرسون في مطعم، وهناك من لم يرتاد جامعة في حياته قط، وفض بكارة الهجرة واسس وضعه بالداخل من منزل خاص به، ومصروف شهري لافراد عائلته الكبيرة التي باعت اساور الذهب كي يطفش من السودان. اسواء لحظة تاريخية مرّت علي الهجرات السودانية نحو اوروبا كانت في الفترة الممتدة من 2004-2008م حيث شهدت هذه الفترة اضخم عدد من الوفيات المهولة للشباب السوداني غرقا وتترواح اعمارهم بين 20 سنة الي 40 سنة، ومنهم من دفن في مقابر المسيحين وكتب علي قبره (مجهول). واسواء ممرات الموت كانت المرافيء الليبية نحو مالطا او ايطاليا من جهة، وخط تركيا اليونان البحري والبري، اذ قدر البعض عدد ضحايا الشباب السوداني الذي فقد حياته قرابة الالفين متوفي. والمفقودين بال 500 شاب، ومازالت الهجرة مستمرة. القصص والماسي تحتاج الي حلقات وربما نفتح لها تحقيق مستقبلي، لكن امثلة منها ان القارب الذي يسع لعشرين شخصا يتم شحنه بستين ابن ادم، ولم يمضي هذا القارب الملكوم ثلاثة كيلو متر ثم يغوص في اللجُة ومن فيه في جو عاصف، وامواج كأنها الجبال، وهذا هو المسار الليبي نحو ايطاليا، والمحزن انه في اليوم التالي تبحر قوارب ممتلئة بالشباب السوداني بالرغم من المعلومات عن غرق الذي ابحر بالامس. اما الخط التركي اليوناني البحري فهو ذات الشيء، وذات القوارب، وذات القلوب المحطمة المنتحرة الباحثة عن جنة اوروبا، وكل واحد فيهم يردد في عمق اعماقه قول المغني (يا غرق يا جيت حازما). كل هذه القصص لم يتطرق اليها علماء الاجتماع بالداخل او المتخصصين في شؤون الهجرة بالبلد، او كل من له علاقة بالامر، لذلك نصيحة لله من اراد الهجرة، عليه ان يكون مُلما بخطط السفر، وان يضع خطة عمل، من فلوس كافية، ففي الغربة صديقك الوفي هو جيبك (الكاش) والعقل السليم الذي يفكر بايجابية، والاهم من كل هذا هو ان طبائع السودانيين باوروبا او بالعالم العربي تغيرت، ولم تعد كما هي قبل عشرين او ثلاثين سنة، حيث يفر المر من صديقه وربما قريبه، ناهيك عن الاحتيال والنصب والدجل الكجور.