بقلم : جبير بولاد [email protected] يا سودان أذا ما النفس هانت.. أقدم للفداء روحي بنفسي في الثامن عشر من يناير سنة 1985م ، دفع السودان و السودانيين فداءا عظيما ..كانت الأيام تنصرم بنظام الديكتاتور النميري و لكنها أنصرمت بمشهدٍ كان الأكثر مأسوية ..إعدام الأستاذ "محمود محمد طه" ،في مشهد شنق فيه و إعدم الفكر علي منصة الهوس الديني في مزاوجته مع نظام شمولي له تاريخ في إفقاد السودان شوامخ مفكريه –أختلف الناس حولهم أم أتفقوا- و قبله كان الأستاذ عبد الخالق محجوب ، كذا صورة لمفكر آخر كان له صولات و جولات ليشنق هو الأخر في يوم بارد الطقس و الدم . ..يناير هذا الشهر ..هذا الوجه الذي يطالعنا مقدم كل عام ، أصبح هو وجه الحزن عندنا نحن السودانيين ، فيه نجتر ذكرانا الحزينة و فيه بتنا ننتظر فواجع جديدة ..يا له من شهر صادقنا بوجه الحزن فيه و بأقصي تواقيع الفقد . .. فمن يناير الكليم الذي قص جذوة الفكر بمقتل الأستاذ محمود و مشروع كامل غُيّب عن أبناء السودان ..مشروع كان جدير بأن يخلصنا من أشكالاتنا مع تراثنا و مع روحنا الي باحات التصالح معها و القدرة علي النهوض بعقلنا من تهاويم الخرافة ..مشروع يحررنا من الركون لسلاسل و قيود المفاهيم التقليدية البالية الي سُوح الفكر في أعظم تجلياته ، فكرُ يضوع أنسانية و يملك القدرة علي الخروج بأنسانية المسلمين من خانتها الضيقة المحشورة فيها حشرا الي باحات المشاركة و المحاورة الذكية ، بل و ضخ المزيد من الروح لأنسانية القرن الواحد العشرين فلا كرامة أبدا لدين أو منهج أو نظرية جُلّ دعوتها هي تقتيل الناس لأختلافهم معها، و لا أحسان أبدا في تقديم جهد للناس لا تكون غايته هي تلطيف حياة العباد و ملئها بالشعور. ..لم تمر بضعة سنوات (ينايريات) حتي أصاب الفن السوداني مُوجعة أخري ..رحيل الفنان الفذ "مصطفي سيد أحمد" ..قامة في الفن و ملاحة في الروح و أشعاع في المكان ..مصطفي ، كان صاحب مشروع أيضا علي سياق آخر و لكن له كبير علاقة بموضوعات الفكر أيضا ..أذ أن الفكر له تمثلاته في أنساق الحياة و أقانيمها و أبداعات الأنسان الأخري ..الأدب ، النحت ، التشكيل ، المسرح ، الموسيقي ....الخ . مصطفي و مشروعه الفني أيضا جُوبهَ بضراوة المؤسسات الشمولية البغيضة ..جوبه بذات الغيلان التي تسرح و تمرح في عهود الأنحطاط الفكري و الفني و الأدبي و التي تجد لها دوما أمكنة مهيضة في سروج السلطة ..و لولا صلابة عود الأنسان المبدع في شخصية "مصطفي" لكان غاب كل هذا الجمال و لما كان لنلاقيه أبدا . ..رحل المفكر ..و رحل صوت المغني حزين و لكن بقيت الفكرة صدّاحة ، تؤقظ سبات الغافيين و تقلق مضاجع أهل الدهاليز و معاقل الغيلان ..بقي صوت المغني أنشودة تغذي ثنايا الروح و التاريخ و تهفو اليها النفوس عند إنسداد الأفق بغبار هياج الغيلان .."رحل صوت المغني حزين و لسة الصوت صراع زمني" . ..اليوم في ينايرنا هذا ..كنا مؤقنيين بأنه شهر الفواجع و لكنا لم نكن ندرك من أين تأتي الفاجعة هذه المرة ..و ما أن بزغت أوائل خيوط فجر اليوم 17/يناير حتي أتانا الناعي ينعي لنا رحيل مغُني آخر و هو محمود عبد العزيز، أو كما يحلو لمحبيه – و هم كُثر - بالحوت .."الحوت" لم يكن صاحب مشروع فكري مقُلق لأصحاب الكهنوت و السلطة ، و لكنها جاء في زمن رحل عن سوداننا العظام في مجالات شتي و ظن الغيلان أن الدنيا آتتهم منقادة ، و لا مقلق لهم اليوم في صبواتهم و لا نفاد لنعيم مرحلتهم الجديدة مرحلة صياغة المجتمع لوضعه كله تحت وصايتهم و خدمة لمشروعهم ، مشروع الخواء . ..بغتة ظهر "الحوت" شاب في مقتبل العمر ، لا يملك سواء صوت طروب و جسد نحيل ، و لكن كل ما فيه كان يضج بالتمرد و عَصيُّ علي قوالب الصياغة الجاهزة ..الفنان محمود عبد العزيز بحكم مكوناته الذاتية و تجربته الصعبة في البدايات لم يزعم لنفسه مشروع فني و كل ما أراده هو أن يموضع نفسه كنموذج يعبر عن ذاته أي كان شكل و مضمون هذا التعبير ، و كان كل ما يميزه هو تمرده علي الفترة التي أطّل فيها ، تلك الفترة الحرجة جدا من تاريخ السودان و التي جُرّف فيها تاريخه و أدبه و فنه و رموزه ..فترة أراد القائمين عليها مسح كل ما كان في السودان حتي الأسم طالته المجادلة ..أرادوا فرض كل ذلك من خلال القوانين و أذلال السياسيين و نحر المدنيين و أسكات الرأي و تحطيم نخوة المجتمع من خلال أخضاعه لبرنامج أقتصادي برنامجه الندُرة و الأفقار و سوق الناس للموالة من خلال تقديم كرامكتهم ثمن للعيش ، و كان الجانب الأكبر من كل ذلك "الرعنوت" واقع علي الشباب ..الشباب تلك الفئة التي عليها دوما يقع تشكيل مجريات التاريخ و مقارعة الواقع من خلال إنزال الأحلام الي خانة الممكن ، طاقة لا تعرف المستحيل ، كل هذا اُريد له من خلال القوانين و الحروب المفتعلة –حرب النفس ضد الذات- أن ينهار و ينهزم حتي تسهل قيادته . "الحوت" بحس الأنسان الفطري فيه تمرد علي كل ذلك ، بل و منح مزيدا من نكهته الخاصة في التمرد للحد الذي الهَم الشباب السوداني بنموذج الفنان السادر في غوائية فنه و كسره للتابو السلطوي و كافة أنسقته في الحياة السودانية (السلطة الأجتماعية وغيرها) ، فكان دوما هو الشارة التي تذكر معجبيه في كل المحافل التي يلتقونه فيها بأن كسر البديهي و السلطوي ممكن ..شعر الشباب بأن هذا النموذج هو نموذج معبر عنهم بقوة و هم في حوجة له لمنازلة هذا الزمن السوداني الأرعن ، فهاموا بأغنياته و تمثلوا طريقة رفضه و تحول الفنان الي رمزية المغني الكافر بزمن الكهنوت و المؤمن و المُبشر بزمن الجمال المُفاض ..غني للناس في أوقات ضعفه و غني لهم أيضا من داخل السجون قربان تحديه للتابوهات ، و عندما نضجت تجربته بعد سنوات راح يتبني بعض مشاريع خيرية ، مثل تكريمه لبعض رموز الغناء السوداني في كما في تجربته في النادي الدبلوماسي الأسبوعية حول تكريم فنانيين سودانيين قدموا لهذا الوطن و أنسانه دون أنتظار للتكريم من أحد ، مثل هذه النشاطات الأجتماعية و الأنسانية زادت من رصيد "الحوت" و وسعت من مساحة قبوله حتي في أواسط الناس الذين كانوا يقفون مسافة من تجربته بالنقد و المحاكمة . شعرت السلطة في زمن ما بخطورة دوره و وسط الشباب تحديدا ، هولاء الشباب الذي كانوا قبل زمان قريب وقود لحروب جهادية و مسكنون بفكرة الشهيد ، فأصبح لديهم الشهيد الحي هو نموذج الحوت ، فنان شاب خارج علي التابوهات بطريقته الخاصة و المتوسلة وسيلة الفن و جاذبيته ، حاولت السلطة أستمالته تارة بالترغيب و أخري بالترهيب ، و لكنه كان بالنسبة لهم نموذج يستعصي علي الترويض ، فلما ألمّ به المرض ظلوا يراهنون علي الزمن في تغيبه عنهم بالموت ، علهُ يكيفهم شر المراوحة بين الترغيب و الترهيب . ..اليوم فقط و برحيل هذا الفتي الذي شغل دنيا الشباب و حركّ فيهم مكنيزمات الرفض و التي ربما كانت لتقود الي بقاع أوسع في الرفض ..الأن فقط سوف ترتاح غيلان كثيرة ..سوف تثقل في النوم ضمائر لم تستقيظ أبدا و لكنها تغوص في نومها الطويل راضية بغياب هذا الصوت المقلق و الذي عبر المكان و وضع فيه بصمته و سوف يذكره الزمان كواحد من الذين رفضوا بطريقتهم الخاصة ..الا رحم الله محمود عبد العزيز رحمة واسعة ..اللهم بقدر ما أحبه الناس ، أغفر له و أدخله مدخل صدق عندك و أكرم منزلته أنك أنت الغفار ، الودود، الرحيم .