متصِّل بما قبله: اشرب الكوكا وكسِّر الطوريًّة والمعنيون هنا ليسوا أهل البلد. أهل البلد فطاحلة لا يعانون من شعور بالضياع ولو كانو بأمسِّ الحوجة للكثير من طارِىِ المتاع ممن جلبته قضبان الحديد ودوّاسات البنزين , ولكنهم كانوا في غنىً عمّا تطفل على حياتهم من كولا وكوكا و"وكوتشينات" و "شكلاتات. وكان المعنيون هم بني طبقتي من الموظفين الذين قُذِفَ بهم في البوادي شموعا تضيئ لتحترق. مدرسون وحرس صيد وحراس غابات وأطباء, وجدوا رخاء معيشيا غير معهود في مراكز تأهيلهم ف "توّهطوا" له ونهلوا ثم نهلوا حتى غيّر النهلُ جميع ما جًبِلتْ عليه أجسادهم وأدمغتهم. الناس كائنات عجيبة: لا يأتون بخيرٍ كامل النصاع, أغلبهم يحمل في إبطه اليسرى شيئا من نتَن يطلقه تجاه أنفك ولا تَسْلم وإن سلّمتك يمناه كنزا عظيما, شيفرون, تتعلم منها استخراج الذهب الأسود وركوب الموتر الصحراوي ولكنك ستبيع ثورك الأسوش وركوة جدّك وتتعود على "مشمشة" مؤخرتك بمناديل الورق الناعم وتبَدِّل اللبن البارد بالشعير الصاعق (مثلّج). وتتململ جثامين "أبّا علي والمَعَلي ودودي" لأن عيالهم سفّوا صفق القشة التي يعافها الجداد وشربوا بول الشيطان, و "غَدَبَ اللهْ عليكو, من يوم الخواجة التعيس جي وفتح دُكَّانا هِنِي , العيال تِلْفُو, طَلَق فينا عِيال ابليس وكمان بناتا, بيقرطسهم في ورق الشاي". والأفندية, نفعونا وبتّنْ قَبَّلوا بهدلونا, وِلْ (ولد) عمْتك نضِيري/ة نجح وشال دار صباح وحتَل هناك, قالوا خِسِر, والدّواس عّلّقْ فطّومة والجَوّز لي مرّة مجربة, اليتها بالجرب الجُبالي" وما زالت الجثمانين تتململ تستغرب من لعلعلة الرعود صيفا, جيم ثِرِي, جيم فور , كلاش. "البلد خِرِب, أحسن انحنا مُتنا بدري ما حضرنا زمن الصولات والجولات, الذي تحدث به هدّاي البحر(شاعر الشمال) ودْ دوليبْ. أالهرج يُصِّمُّ آذانَ الأحياءِ ويُسْمِعُ من في القبور؟! والأفندية أنفسهم انقسموا فرقاً الناجية منها ما استطاعت أن تستلهم من واقع الناس فتشارك معهم في تطوير كسب عيشهم. فها هو م. م. مهدي يستأذن الشيخ في قطعة أرض زراعية فيستقطع له من الحبال (يقاس به أضلاع المزرعة) ما شاء ويتستأجر العمال من أهل البلد ويتقرب منهم بالمشاركة في "النفير" وبإشراك أولادهم في الزراعة وبالتهليل والتكبير وسائر "الجلالات تنتج عمالة الأطفال أرادب من الفول والسمسم والذرة, وعن طريق تلامذته يكون قد اخترق المجتمع المحليّ بالتمام فيؤاخي التاجر وكاتب الدونكي والخفير وست العرقي وينيب عن الإمام في الصلاة. أخطبوط. ولا ينهي بعض اللهاث المُراوغ إلا "عنقريب" بنت شيخ الحِلّة وبسنّة الله ورسوله. "ودربو مرق", وفق رؤيته, وسيركّز على أبنائه وبناته من الصُّلب. هؤلاء سيكبرون ويتوظفون ويقطنون المدائن حيث البُنيّات في رشاقة دمي الملابس الأفرنجية (المانيوكانات) وفي رؤوسهن حلوى وفي أنفسهن استعلاء إبليسي. ثم يشيخ الاستاذ الشاطر ليتناوبه الثلاثي الذي ضُبط مُنِّبِهُ ساعته للدّقِّ بعد ستين عاما تماما. يطير النعاسُ و "تتعسّم, تتخشب" عظام الظهر وتجفُّ الحويصلة (تّقِطْ) ولا يُحَدِّث بالرَّخْوِ ولكن أسمعتهم زوجاتهم ما استّدلوا به في ما بعد على سبب توعك سيعاني منه الشاطر: كانت فيهن من تقول في وجه حليلها" وإنت زاتك ربطوك زي الأفندي, ما تتعب, من زمان قلن ليكم "التِّدِّكِكْ دا وراءه عمل (سحْر) " صار يتعثّر في الإيلاج ويستعين بفرجة اصبعيه للتثبيت ويدفع نحو الفوهة الخامدة بأصابع الأخرى . , وفي أحد الأيام افتقد المصلون الشاطر كان يصلي في الصف الأول لثلاثين عاما ولا يتأخر , ورأوه بعد أيام في الصف الثاني وازدات الوتيرة وانتهت بالغياب. بعد الصلاة خطبهم الإمام وسألهم الدعاء لصاحبهم بالشفاء وتفريج الكربة, على أن يزوروه حوالى الساعة الثامنة . ثم دلف الإمام ناحية رجلٍ نحيلٍ جلبابه مبرقع ببقع بنيّة وبقعٍ باهتة الخضرة, وعلى جبهته – فوق العينين الجاحظتين أثر جُرح قديم يؤشر تجاه الجلحة التي ترفض الاندساس تحت الطاقية الخضراء. كان المدعو "ثائب" ينتعل زحلاقة إسفنج ثُبِّتّ طرفُها الملاصق للإبهام بسلك ألومونيوم قديم. وعلى غير المعتاد اقترب الإمام من ثائب, وبعد التحية تجاذبا الحديث وفي نهايته سأله في تودد وتردد: " يا ود الشيخ, انت زول متعلم وجيت البلد قُبالنا كلّنا وبِتعرف كتير, عيالنا قالوا لينا, بدون شك, دايٍر أسعلك: إنت الرَّبِطْ دا بِرَقِّد سيدو؟" ويستوضحه ثائب : " ربّط شنو, ماهو أبونا الشيخ كل يوم بيربط المجانين في الركيزة وكُرْباج كُرباجين , يقوموا زي البومب". " لا يا خوي, الربط بتاع السِحِر. "وأنا شِنْ عرّفْني, ما إنت شيخ وعارف, في الكتاب ما لقيتو؟!". "يا خوي الكتاب دا ما بنكشف للناس كلهم, إلا من رحم ربك". وإنت الله ما برحمك؟!" وجد الأفندي العجوز فرصته في الرجل الذي أشاع في الناس مناداته ب "سكران ديمة" ثائب وفد القرية وهو في عنفوانه. كان عصيّا صارم الوجه ينظر إليك بعينٍ واحدة تكاد تخرق "ود عينّك , بؤْبؤْها) والأخرى شبه مُغْمَضة, إلا إذا كنت طفلاً أو سيّدة فإنه سيبسط لك وجهه وراحته, أما إذا كنت كنت مُسِنّاً أو مُعْدَماً وقورا لا تسأل الناس فإنًّ نظراتكما لن تلتقيا أبداً, سيخفض رأسه وكأنه يتأمل في شِراكِ نعْلِه, ويستودعك بانسحابٍ لطيفٍ, ولمّا يبتعد عنك بمسافةٍ يشرع في التبختر رافعا الرأس كمن يتطلع في الأفق ولا يتوقف إلا في بيت أمينة, في طرف القرية الغربيِّ. أمينة امرأة فارعة القوام رجراجة يتقدم جسمها صدرٌ مندفع الرّمانتين وفي قاعدته كشحٌ بالغُ التخصر لم يعهد الشّبَع. ولما تخرج في الصباح للتّسوُّق تصحب معها بنت التاسعة شبه المحتجبة, تحمل القُفّة (السّلّة) ولأن أمينة لا تلفت في مشيْها يجد الجميع فرصا للتتبع الواجم, ويتوقف التنفس وتتدلّى (تتدلدل)كلاثيمهم (الجلاضيم) كقطع القديد الأخضر (الشرموط) عُلِّقت على الحبل في التوِّ, لا ينبسون بكلمة, فالمرأة مهابة وكانت لقّنت "البِتشاويج, رأس الشرطة درسا في الأخلاق: "أمشِ يا كلب الحكومة, إنت جابوك هنا تخدم الناس ولا تعاكس بنات الناس؟!" نكّس العسكري أشرطته ومضي في شأنه. وكان ثائب رآها في السوق , نظر فيها مثلما ينظر للرجال, وفسح لها المجال لتشتري ما تريد ولم يلاحظ أن الجميع "كسْكسوا , رجعوا إلى الخلف" لما قدمتْ, وانصرف الجزار من طاولة البقري لطاولة "الضاني, وهو يعلم أنها لا ترجع بلا نصف خروف وكامل الكبدة و "أم فِتْفِت, المعدة الهشّة" ولا تُجادعه (تجادله) في السعر. فإذا احتج أحدٌ قال له, وسكينه تعمل في الفخذ "يا زول دي الحكومة, بِتًعْرف الحكومة يعني شنو؟" جمعت حاجيّاتها وساقت ابنتها وانحرفت تحييِّ ثائبا بابتسامة, وكانت هذه هي المرّة الأولى التي تبتسم فيها أمينة لأيٍّ ذقنٍ متذبذبة. "اختارت الغريب" وشوّت نار الغيرة أكثرهم وبدأ مسح الأوجه بالأكف وهصر الوجه من عاليه لسافله في ما يشبه حلب الشاة من جانب الحنك الأسفل. وتوالت اللقاءات ولم يعدموا الحيلة في التواصل, حتي إذا ما دخل ثائبٌ دار أمينة حتل (حثل) فيها إلى يوم المتاب. . "عوووك", تمهّل. وقبل أن يفترقا استطرد ثائب الحديث مع الإمام: "الزول كان "أُمْ عاشّة بِدَت تِتلم في بوله, دا بيكون أول علامات الربط إلا كان اقدامُهْ اتوَرَّمن بيكون "وَرَلُهُ صَقَّع" دنا أجله. يقولون أن الورل يرى ملك الموت فيرفع رأسه للسماء, ويتشاءمون به, ويتشاءمون بالبومة لما تنعق ونهيق الحمير يعني عندهم حضور "سِمِلَّاهي" تحاشيا لاستضافة الشيطان, وللثعبان يقولون "الحبِل" خشية أن يسمعَ فيَحْضُر, وسيأتي خبر كل ذلك في فصله!! ونواصل الجوبكة عبدالماجد محمد عبدالماجد الفكي [email protected]