بسم الله الرحمن الرحيم على مدى سنوات تقارب الربع قرن من الزمان ، تراكمت خلالها في نفوس جماعات الشعب السوداني طبقات من الأحاسيس والمشاعر السالبة . شكلتها ممارسات – أقوال وأفعال- عديدة ومتنوعة ، تعتبر في مجملها : أحدث ما وصل إليها الذهن البشري (الشرير) وعلى مستوى الكوكب المعمور من أساليب الحقد والإذلال . لقد نجح نظام الإنقاذ – القميئ – من تطبيق كل نظرياته على المجتمع السودانى وإنسانه المغلوب على أمره ، وما المشروع الحضاري إلا واحدة من نظرياته المدروسة بعناية . وليس صحيحاً أن نقول بفشل المشروع الحضاري ، المشروع مكن من مكن واقتلع من اقتلع . وظل المجتمع السوداني يتلقى ضربة تلو الأخرى ، من تلك الضربات القوية الموحهة من النظام بحقد متناهِ ، وكل ضربة تترك في نفس المجتمع طبقة ، حتى إذا ما تراكمت تلكم الطبقات وتكاثفت ، مترسبة في العقل الباطن للفرد ، وفي اللاوعي الجمعي للأمة، وبدأت تلك الترسبات في السيطرة على دفة سلوك الفرد خصوصاً والمجتمع بوجه عام . لقد سام نظام الإنقاذ الشعب السوداني أصنافاً منالظلم والإذلال والحرمان والكبت والرهق الممتد إلى حد العذاب المهين الموجع. وتفنن في تعذيب الشعب متجاوزاً الأجساد إلى النفوس . والشعب في حالة صبره الملائكي النبيل (!)، كامن .. ، وهو يرى ويراقب ويسجل – بدقة وحذر – مؤسساته الإقتصادية العملاقة يتم تدميرها وتخصيصها علناً وأمام أعينه ، وهو يرى ويراقب .. مؤسساته الخدمية تنقض حجراً خلف الآخر ، ويعتصره الألم وتتمزق أحشاءه حينما يرى .. قواته النظامية ، وعلى رأسها ، قوات الشعب المسلحة ، التي أوجدها - تأسيساً وتأهيلاً – بعرق الجبين ودم القلب ، يراها تنقلب عليه تنكيلاً وتقتيلاً ، وهي المعروفة لديه تاريخياً والمجرب إنحيازها لصالحه عند الملمّات . عذراً شعبيّ الأبي فقد تم حقن قواتك المسلحة بجرعات طهرت ( مؤقتاً ) عناصر المروءة والرحمة من صفوفها وكتائبها ، ورغم ذلك لم تتمكن من إنجاز ما أولكت إليها من مهام والتي ( تشكل إبادتك الجماعية جزءٌ منها ) فاستعان بالدفاع الشعبي ثم بالجنجويد وحرس الحدود ، فتمت إنجازات ما زالت محدودة في نظر أباطرة كافوري السادرين في غيّهم . والشعب الصابر – الكامن- يصور ويسجل ، سوقه مرغماً إلي إفناء بعضه بعضاً حيث الكل إما قاتلٌ أو مقتول ، الكل مجندٌ ضد الكل . الطالب ضد أستاذه والعكس صحيح ، والولد ضد أبيه والعكس .. ، والأم ضد فلذة كبدها – ولو رميها فى المرحاض - ، والأسرة ضد أختها ، والقبيلة ضد الأخرى ، إنه ماراثون الإستإصال والإستإصال المضاد ، فالكل يريد إزالة الآخر من على وجه البسيطة ، معارك ليس لها من مبرر إلا أن البلد محكومة إنقاذياً وكفى بذلك سببا . والشعب يسجل في طبقات نفسه كل تلك الآثام والجرائم التي فاقت في بشاعتها أسوأ وأبشع ما يمكن أن تمارسه حكومة في شعبها وذلك على طول التاريخ البشري . والدكتور مصطفى حجازي يحلل ويمحص ، ويخلص إلى ... سيكلوجية الإنسان المقهور ، ولقد أهدر الإنسان السودانى وبإسم الله . وتبدأ مناظر الفلم البركاني المنتظر ، وياله من بركان . بدأت المناظر بتمظهرات رفض الواقع المرير ، وبقدر المرارات المترسبة في النفوس ، جراء ما تمت الإشارة إليه أعلاه ( الإشارة فقط ، فالأمر فوق مقدورنا الوصفي ) ترفده الأوضاع الإقتصادية الجارفة للعلاقات الإجتماعية ، بذات القدر سيكون الإنفجار . وعلى ذكر الأوضاع الإقتصادية ، فكم من بكي لتضور طفلته وهو عاجز عن توفير ما تسد به رمقها ولو – بليلة فيتريتة – وكم من هو عاجز عن توفير جرعة دواء للوالدة الرؤوم وهي تحتضر ولا يملك إلا أن يحتضر معها نفسياً ، وكم من فارقت زوجته الحياة ورأسها بين راحتيه ولا يملك قيمة القيصرية ، كم وكم ، ليتنى مت وكنت نسياً منسياً ، قبل ان أشاهد ما شاهدته – حكايات وكأنها من الخيال – وهنالك من انطمست قسمات أفرات أسرته – عن بكرة أبيها – جراء التفحم الناتج عن إسقاط قنبلة برميلية على قرية لا تتعدى بيوتها العشرين ( قطية ) . والرفض يتمظهر ويتجلى كمناظر لفلم آت ، وقد يكون على نحو تشييع جثمان – المغفور له بإذن الله – الحوت ، وقد يكون التعبير عنه في إغتصاب القاصرات ، أو تحرشاً بالقصر ، وقد يكون التعبير عن الرفض بأساليب ووسائل لا يعرفها بل لا يتخيلها إلا الرافض ، ولكن الكل يرفض ويعبر عن رفضه ، وإختلال منظومة القيم تجلي من تجليات الرفض ، النهب المسلح ، القتل بدون أسباب ، القتل بوحشية ، الإقتتال القبلي الدامي ، كل ذلك وغيره ، ما هو إلا ترسبات الظلم والحرمان والمهانة والإذلال المتحولة مع الزمن إلى سويداء العقل الباطن ، وبالتالى تتحكم في 90% من جملة سلوك الفرد . ولا تقف المسألة – تجليات الرفض - عند هذا الحد ، بل تمتد لتشمل : الغلو والتطرف الديني ، إرتفاع حالات الطلاق ، إرتفاع نسبة العلاقات الجنسية خارج نطاق الزوجية وما يتبعها من إرتفاع نسبة المواليد غير الشرعيين ، الإعتداءات على المال العام ، السرقات الفردية والجماعية ، كلها أنماط لتجليات الرفض . وكلها مؤشرات ودلائل تؤكد دنّو ساعة الإنفجار ، مؤشرات آخذة في النمو المتسارع مخترقة محطة الإنحطاط الحضاري بأمراضه المعهودة . الكذب – النفاق – التسلط – عدم الثقة – عدم الصبر – الرياء – البخل – اللؤم – الجفاء- الغدر- ... ألخ ، أمراض حضارية كنتيجة طبيعية لحالة الإفتقار لأبسط مقومات القوت اليومي ، والخوف بل الذعر من كل شي- الخوف – المستقبل - من الغلاء – خوف الطالب من الرسوب – خوف الناجح من البطالة – خوف الحامل من لحظة الولادة – خوف – الذعر المسيطر على كل حركات الفرد وسكناته ، المتجلي في غرابة كافة تصرفاته . وكل هذا وذاك لا يعبر إلا عن شيئ واحد وهو هنا وهناك ( رفض الواقع ) تتعدد التمظهرات والرفض واحد ، الرفض الممهدللإنفجار . صلاح محمدي / بابنوسة [email protected]