سيدة في الأربعين من العمر تهرول فيتلاعب الهواء بثوبها فيكشف عن ساقين سمراوين ناحلين، وشيخ يجري وهو يحاول الأمساك بعمامته حتى لا تطيح من رأسه، وشابة تحمل حقيبتها وتجري فلا يسمح لها "الأسكيرت" الضيق باللحاق بالسابقين، وأخرى يبدو أنها طالبة وقفت تبحلق في الذين يتقافزون من حولها، وآخرُ بدا وحيداَ وعلى وجهه آثار السنين يحمل مظروفاً لعله نتيجة فحص ما، وقف حائراَ في انتظار الفرج القريب، وشابٌ يعمل جاهدا على ألا ينزلق منه البنطلون أطلق ساقيه للريح، وآخر تقافزت حقيبته المدرسية على ظهره، وعامل ينوء بحمل (عدة الشغل) يسابق الآخرين، وفتىً يقود ضريراً- أو يجره جراً - إن صح التعبير، وآخرون كثر يمموا صوب الحافلة القادمة، فلا يعبأ أحدهم بالركشة التي خرجت فجأة من وراء سيارة ، ولا بحافلة أخرى تحاول تفادي الحشود المتدفقة، ولا بِبِركة المياه التي غطتها الأكياس الملطخة بالطين. لا هذا يبطئ ولا ذاك يتحسب للمخاطر الماثلة أمامه من فرط لهفته و (شفقته). كلهم تزاحموا عند باب الحافلة المغلق. وبفتحةٍ صغيرة ينزل آخرُ النازلين إلى محطته ويغلق الكمساري الباب وينطلق السائق بحافلته فيصيب الحشود الهلع والذعر فتجري وراء الحافلة في ماراثونية عجيبة. يتوقف السائق على بُعد أمتار من المكان الأول ويفتح الكمساري الباب بعد أن أغلق ما استطاع من نوافذ. تكالبت الأجساد عند الباب فلا تكاد تميز بين الكبير والصغير، ولا الرجل ولا المرأة ، ولا الشاب ولا الشابة، ولا الصحيح ولا العليل، ومع ذلك فهدفهم واحد. الكل يسعى للظفر بمقعد في الحافلة ولو على أجساد الأخرين. صبيٌ في عمر المراهقة يقفز بخفةٍ من الشباك ليستوي على أول مقعد يصادفه فتعلو وجهه ابتسامة. وسيدة تضع رضيعها في مقعدٍ يجاور الشباك، والرضيع يبكي فتقول لأحد الفائزين "خلي لي بالك". وآخر يقفز فيسقط حذاؤه فيجد نفسه نصف في داخل الحافلة والنصف الآخر معلق بالهواء، وأخرى تضع حقيبتها لتحجز مقعداً وتغلق زجاج النافذة كإجراء احترازي، وآخر تلو الآخر فتمتلئ الحافلة ولا تزال أضعاف ذلك العدد تتزاحم عند باب الحافلة. صارت البوابة المزدحمة مرتعاً خصباً لأصصحاب الأيدي الخفيفة ليمارسوا هوايتهم المزعجة ليسهموا بصب المزيد من الزيت حتى تكتمل الصورة، فلا ينجو موبايل في حقيبة أو في جيب، أما الأموال فتنسرب بكل سهولةٍ ويسر. تتحرك الحافلة وقد تكدست الأجساد البشرية عند الباب وتشبثت بكل ما أوتيت من غريزة البقاء، ففوات هذه الحافلة يعني الغوص في المجهول وانتظار ساعات قد تطول. الكمساري لا يزال على الأرض ليفسح المجال لأكبر عدد من خلق الله لينحشروا في علبة الصفيح تلك، إلا أن الحافلة تفاجئه بالتحرك فيجري عدة أمتار، لاهث الأنفاس، ليجد له موطئ قدم. وبعد قفزتين ثلاثة وجد لقدمه اليُمنى فُرجة في الباب فدسها فيها بكل براعة- فهو خبير في مثل هذه الأزمات! وأمسك بحافة النافذة بكلتا يديه. إنه الآن في مآمن. هذه الدراما تتكرر بصورة يومية عند انبلاج فجر يوم جديد مشرق ندي وعند رحيل ذلك اليوم. فلا تسعفك العبرات ولا الزفرات ولا الصداع المفاجئ في محو تلك الصورة المذلة المهينة للبشرية. في مثل هذه الأزمات يلجأ التاجر لدفاتره القديمة، فتذكرت مقولة (العذاب ولا الأحزاب)، فدعوت- في سري- لهؤلاء ودعوت على أؤلئك، لأنني أيقنتُ أن الله يستجيب........ ولو بعد حين. يوسف الجزولي [email protected]