مرور عجلة الزمان وتوالي الخواطر وأجترار الذكريات على العقل البشري في حياة الإنسان، يطبعان ذكريات متباينة في دواخلنا ، تلك الذكريات تمثل احداث جثمت علي رصيف عجلة التاريخ من ما مضي من رحلة العمر ، البعض من يتوق استعادة شريط ذكرياته الي تلك الأيام الجميلة ويعيش مستمتعا بذكراها مع ثلة من اقرانه أو مع مناجاة مع النفس في لحظة صفاء، وأحياناً يخيم علينا الحزن عند اجتراح الذكريات الأليمة تأتي إلينا في صراع يمور في دواخلنا كمرجل يغلي فتدفع بعنوانها كبركان يثور الي عوالم الاكتئاب دونما استئذان بلا مقدمات في احساس يتملكنا لا ارادي ، يسير قطار الذكريات بين المحطات الجميلة والمريرة في خطين متوازيين في حيانا ، الأولي تجد متسع من البوح والصراح ، والثانية احفظها في اعماق نفسي . امتدادا لما خطته الذكريات علي مدارج ظعينا ، يدفعني الحنين الي تظاهرة فلق الصباح مع قعقعة الصفائح وخوار الأبقار علي الصعيد الشرقي من منزلنا حيث الدونكي الجنوبي ، فكان عالم بذاته رغم طول النأي و امتداد المسافة نسترق السمع لصدي الأصوات بكل قوٍة لم ادر ما سر اختفائها هل باحتلال المساحات بالغابات الأسمنتية التي ملأت حيز الميادين و الأراضي الخالية من أي ملامح توحي بالسكن ، أم تحضر المجتمع و استعمال صنابير المياه داخل المنازل حرم الدونكي من مرتاديه و مرديه ، نعم كلنا مريدين من أنسان وحيوان نشرب من مصدر و احد – الحوض – تجد فيه الروث و ما علق من اواني لحمل الماء يشكل خلطة للشراب لا نعرف معها سقام الدهر من التي تنتاب مجتمعنا من الآم الكلي وغيرها ، فحوض الماء ذاك المصدر الأحادي نأتي اليه كرهاً حتي عند التقاء الأحبة نشعر بالحياء أن تشرب المحبوبة كدراً وطينا ، حيث عبرت الأغنيات الشعبية خير تعبير عن تلك الذكريات ، ومن أكثرها شهرة أغنية (الزول ماعندو ذوق) المُشّيدة على لحن (الجراري) عند قبيلة المعاليه وشدي بها المطرب / أحمد شارف من مقاطعها : الزول ما عندو ذوق الزول منو زقاكي ألمي الحوض الزول منو ** *** كان للدونكي دور مجتمعي كبير في تعميق الوشائج والصلات الاجتماعية وتطويرها بين فئات المجتمع فنجد الراعي و المزارع وكل الفئات العمرية كبارا وصغارا فهو مكان يجتمع فيه كل أهل المنطقة جمعهم شريان الحياة (الماء) فمنح التآلف والتعارف بين الناس . قال تعالي :( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) . صدق الله العظيم . وكان عبارة عن وكالة انباء مركز للأخبار متقدم تتجمع عنده كل صورة خبرية و احداث عاجلة منها علي الصعيد المحلي كمناسبات الأفراح والمآتم ، ومنها الأخبار والقومية والدولية . هيجتني الذكري لمشهد الأمير / عبد العزيز مادبو ( في محطة البيطري) وعمنا المرحوم/ بابكر حسين ، وعمنا أجه محمود (أجّ) وآخرون لم أجد متسع لذكرهم ،كانوا ثلة من الكتبة في الدوانكي وهم يجلسون الساعات الطوال على عناقريب (هباب) دون كلل أو ملل هدفهم أن يرد المنهل الجميع رغم كثرة الزحام ، وبجانبهم المذياع – الراديو- من الماركات القديمة (الفليبس , ناشيونال .. الخ) ضبطت حركة مؤشره على تردد موجتين فقط اذاعة لندن واذاعة ام ادرمان المحلية التي تصفو ذبذباتها عند التاسعة مساءاً ، ورغم أن الكاتب مشغول بإدارة محطة الدونكي من متابعة ادارية و ضبط إيراد الخزينة الذي يشكل معظمه من العملة المعدنية غير إنه _ أي الكاتب - متابع لكل ما يبثه المذياع عبر الأثير حتى يحفظ تلك المعلومات الخبرية التي سمعها في ذاكرته بغرض الحوار وابتدار النفاش عنها في مجالس المنطقة , ويمثل كاتب الدونكي في كثير من الأحيان دور المثقف فكان قدوة لكثيرين في السلوك وغرس القيم الفاضلة حيث تعبر به الرسائل و الأمانات فيتم تسليمها لأصحابها وأحياناً يستقبل كبار الزائرين من المهندسين خلال الصيانات الدورية وبعض الموظفين – الأفندية- الذين يعملون بالمنطقة . احياناً الدونكي ملتقي للأحبة فكثير ما تمنع الفتيات لورادة منهله لحمل الماء علي رؤوسهن فنجد خير تعبير علي ذلك رائعة ( راقصين التوية) التي توسلت اليهم تلك الحالمة في ريعان شبابها ان يقنعوا والدها للذهاب للدونكي لتأتي فقط بقطرات ماء ( بحبة موية) لتطفئ ظمأها من العواطف الجياشة وتسعد برؤية فارس احلامها خلسة . راقصين التويا كلموا لي أبوي خلي النذور الدونكي أجيب لي قصعة موية ******* أخويا يا الطمباري قوم غني لي جراري أنا بركب اللوري بتابع القماري ******* هذا قليل من كثير ذكريات حبيبة الي النفس وجميلة في عالم الحياة فموضوع (الدونكي) يمثل محطة علي مداج الذكريات لدي الكثيرين من يعيشون في ربوع و طننا الحبيب تلك الذكريات تستحق احتفاء خاص بهذه المحطة التاريخية ( الدونكي) وكل الشخوص الذين لهم تمت بهم صلة ارتباط به عملا و مكونات مجتمع بكل شرائحه المختلفة [email protected]