بسم الله الرحمن الرحيم أتحفنا الأستاذ القدير شوقي بدري بسلسلة طويلة من المحن السودانية، التي تثير العجب والحيرة والغرابة احيانا، واظنها لن تنتهي طالما ظلت عوامل رفدها متوفرة أي البيئة الثقافية والإجتماعية والسياسية،التي تتركك أثرها ليس علي السلوك الفردي فقط، وإنما حتي علي تقييم هذا السلوك لدي المجتمع المنتج له، وتأتي المفارقات عندما تخضع هذه الممارسات للعقل والمنطق المجردين، او تتم مقارنتها بقيم حديثة أبنة مجتمع حديث، كل منظموته قائمة علي العلم والمعرفة والجدل والنقاش الحر المفتوح. ولكن تظل أكبر محنة تعرض لها المجتمع السوداني الحديث(زمانيا) وساعد المجتمع نفسه علي تفشيِّها هي ما يسمي بالحركة الإسلامية! ومن ثم سلوكها!! الذي يستهدي بالنصيحة الماكيافيلية الغاية تبرر الوسيلة، ويا ليتها كانت غايات نبيلة! تخفف الوطأ علي إنتهاك نبل الوسائل! وقد توَّجت هذه المحنة بقيامها بالإنقلاب العسكري، الذي أحال البلاد الي مجرد خرابة، ونشر الظلم والظلام والإحباط في كل أرجائها، ومَثَّل نقطة تحول حقيقية خلال مسيرتها، أي من دولة واعدة مطمح وأمل الجميع(سلة غذاء العالم) لإمتلاكها كل إمكانات الصعود والتقدم، إذا ما أحسنت إدارتها وأستثمرت ثرواتها بصورة جيدة! الي دولة متفجرة تعج بالصراعات المتناسلة والفتن والحروبات المتواصلة، وتُهدر مواردها، وتُفتح ابواب الفساد والنهب علي مصاريعها، لعصابات الداخل والخارج، وما أخطرها عندما تتزيَّا بالبدل وتتحدث اللغات الأجنبية وتستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية! لتتحوَّل الي دولة فاشلة بكل المقاييس، يُوشِك أن يذهب ريحها، ولولا لطف الله لإنتهي أمرها منذ أمد ليس بالقصير! وكل ذلك ليس بسبب الإنقلاب فقط، ولكن لأن الإنقلاب إستند علي تنظيم مشوّه الفكرة والبرامج وعاجز تنظميا وقاصر سياسيا وأخلاقيا(يشهد بذلك كمية الفساد غير المسبوق علي كل المستويات) وهو تنظيم الجبهة الاسلامية كما ذكرنا سابقا، وسبب التشوه في إعتقادي يرجع للخلط ليس بين الدين والسياسة فقط، وإنما للخلط بين الحداثة والتقليد من جانب والإستعجال والتعالي والتفكير في السلطة وليس الشعب من الجانب الآخر! فهو تنظيم حديث كما يسمي في الأدبيات السياسية السودانية كالحزب الشيوعي، وهي توصيفات تحتاج الي مراجعات بعد تحديد أسس الحداثة نفسها ومن ثم تطبيقها عليها، المهم لفظ الحديث ركز علي مكونات التنظيم او قاعدته(طلاب، خريجي ثانوي ومعاهد عليا وجامعات) من ناحية ومن الناحية الأخري كمقابل للأحزاب التي تعتمد علي قاعدة طائفية، أكثر من تركيزه علي أسس قيام التنظيم وطريقة إدارته وغاياته والشرائح او الطبقات التي يستهدفها ونوعية القضايا التي يتبناها وتُكسِبه طابعه ولونه، وطريقة وصوله الي السلطة وكيفية التعامل معها، وبقول واحد غياب الأسس التنظيمية غير الإجرائية، اي عدم حضورها في وعيهم وتاليا إنعكاسها علي سلوكهم، ويظهر ذلك بوضوح في عدم وضع أسس دستورية عليا اي حاكمة للحزب ومكوناته، بمشاركة كل او معظم القاعدة( الأعضاء المؤسسون لوجاز التعبير) وهو دستور يشكل مظلة تحيط بكل القوانين ولا يناقضها او يسمح بتجاوزها، او يشكل بوصلة تحدد إتجاه حركة الحزب، وتوضع اللوائح والقوانين التي تحكم عمل الحزب، وتشكل المرجعية للعمل داخله، وتحدد مهام كل منصب داخل التنظيم، ودور الأعضاء وطريقة الترقي والفصل وغيرها، من طرق وأساليب عمل الأحزاب الحديثة التي يعلمها بصورة أفضل أصحاب الشأن، لأن ذلك المنهج لو أُتبع بالصورة السليمة والتقاليد المتعارف عليها في النظم الديمقراطية، لا يخدم الحزب وأعضائه فقط، بقفل باب التنازع والخصومات، ولكن يخدم الدولة نفسها، لأن ذلك النهج سيتحول الي ثقافة ووعي يحكم سلوك الفاعلين السياسيين، ويترك أثره الإيجابي علي مجمل العملية السياسية والحياة الحزبية، ولكن التمسك ببعض الإجراءات، وتكوين أمانات فارغة المحتوي كأمانة الشباب والمرأة، وتكوين لجان هوائية لأ يعتد بقراراتها وتوصياتها، كاللجنة الإقتصادية واللجنة(الفرتكانية، ولجنة فحص الجراد ولجنة تعبئة النبق) وغيرها من اللجان والمسميات الجوفاء، لا تسمن من رغبة المشاركة الفعلية، ولا تغني من جوع الطموح الشخصي، وحتي الإصرار علي إستخدام كلمة الشوري، في كل لحظة وأوآن بغرض الهروب من الإستحقاق الديمقراطي، لا تغطي علي عجز التنظيم وسيطرة الفرد عليه كأملاكه الخاصة، وما يستتبعه ذلك من خضوع وخنوع لمشيئة وإمرة السيد الرئيس. الدكتور غازي صلاح الدين العتباني هو ابن شرعي لهذا التنظيم الشيطاني، المسمي كذبا وبهتانا إسلامي، وتربي في أحضانه وهو جزء أساسي من مسيرته الظافرة!! بل كان من أصحاب الحظوة والمكانة الخاصة لدي رئيسه في فترة من فتراته! وهذه بالذات كانت اكثر فاعلية وأثر في صعوده داخل التنظيم، من كل ما يقال عن حدة ذكائه او ما يقوله هو عن نفسه، عن كسبه ومجاهداته، وما أنفك يذكرنا ببطولته بدار الهاتف ومقاومته للدكتاتور المخلوع الراحل نميري، وثورة المصاحف وفرضهم للنهج الإسلامي علي الحياة العامة، أي أسلمة المجتمع والإقتصاد والسياسة وغيرها من الأوهام والترهات، التي تشكل وعي ونفسية هذه الفصيلة المستعلية، التي يتملكها إحساس الأفضلية والوصاية علي مجتمع جاهل لا يعلم عن إمور دينه ودنياه شئ، او علي أحسن الفروض لا يقوم بها بالصورة المثالية، وبالطبع هم من يمثل ذلك المثال، الذي يجب أن يتبع في خطواته وممارساته صحوه ومنامه، اي وعيهم و سلوكهم يمثل الشرعية الدينية والدنيوية وما دون ذلك لغو وضلال وتيه! وجه المحنة في حالة الدكتور العتباني، في أنها محنة مركبة ومتعددة المستويات والأبعاد، فمجرد مشاركته والعمل داخل التنظيم(المحنة) اي التنظيم الإسلامي، وما سببه من كوارث للبلاد والعباد، دون إحساس بهذا الجرم، بل إعتباره مجاهدة يثاب عليها في حالة الصواب بأجرين وفي حالة الخطأ بأجر واحد! فهذه محنة ويشترك فيها كل أعضاء التنظيم، أما محنته الأعظم فهي محاولته الظهور بمظهر المصلح، داخل تنظيم غير قابل للإصلاح، وهو جزء أساسي من فقدانه القابلية للإصلاح، بسبب مشاركته الفاعلة في هذا المصير المظلم الذي آل اليه التنظيم والدولة من جهة، او بمعارضته الخجولة الخافتة التي لا تفقده نصيبه من الأمل في رئاسة التنظيم المتهالك من الجهة المقابلة، والأدهي والأمر أنه اتانا اليوم يشهر مقالاته الناقدة بشجاعة يحسد عليها، وهو يحملها إعتذاراته المبطنة، ويحكي لنا عن مجاهداته المستميته للإصلاح ومناصحته لأصحاب الشأن، بعد أن تم فصله وتجريده من إمتيازاته وحلمه بالرئاسة وحكمه للبلاد! خاصة وهو يري نفسه لا يقل شأنا عن رئيسه السابق الدكتور الترابي(أعلي مرجعية في الوعي الكيزاني) وهذا إذا لم يتفوق عليه، اليس هو مفكر!! والترابي مفكر! ألا يملك الذكاء الحاد مثل شيخه الترابي، بل هو أفضل منه والدليل المشاركة في إبعاده! والخلاصة ان محاولة الدكتور غازي للظهور بمظهر من دفع ثمن مواقفه البطولية، في وجه النظام المنبوذ الذي يمر باضعف حالاته، ويوشك علي المغادرة الي مزبلة التاريخ، وبعد مرور الاربع والعشرون عاما حسوما، من خدمة هذا التنظيم التخريبي، الذي لم يجعل هنالك شيئا صالحا لكي يحكم، وكل ذلك حتي يجد له موطئ قدم في المستقبل وتحقيق حلمه او مرضه بالرئاسة والحكم، ليشكل بفعله وطموحه هذا أكبر محنة يمكن ان يمر بها فرد، واكبر مهزلة يمكن أن يتعرض لها وطن وشعب، والتي لو حدثت لعكست مدي ضعف ذاكرته وسذاجته وحبه لتعذيب نفسه عندما يسلم مصيره لأمثال غازي وصحبه! درس غازي كلية الطب وهي كلية مرغوبة ومرموقة، ليس لطابعها الإنساني كما يفترض فقط، وإنما لمكانتها الإجتماعية ووقعها الخاص في نفسية المجتع السوداني، وكمدخل لجني المال من أكتاف شعب منهك وله قابيلة عالية للمرض، بسبب سوء التغذية والضغوطات الإقتصادية في بلاد أرض الخير والنيل! ليأتي معظم الأطباء ويجهزوا علي ما في أيديهم من فتات وجسدهم من عافية، واحيانا أصبحت مهنة الطب تمكن من الحصول علي الوزارة، وإمتلاك الجامعات الخاصة والمستشفيات الخاصة! وتحول بعض الأطباء الي رجال أعمال من الدرجة السياحية، يتقاسمون ثروات كل القطر، ما ظهر منها وما استشفوه في رحم الغيب، مع إخوانهم في الله، الراسمالية الإسلامية الوطنية العابدة اقصد القابضة! ليدخل غازي الي هذا التخصص او يغزوا هذا المجال، ليس لمعالجة أوضاعه المختلة! وإلا لإستمر في مهنة الطب بروح إنسانية كالبروف الإنسان جعفر ابنعوف، او حاول معالجة هذه الأوضاع عبر مدخل السياسة، التي أفني فيها زهرة شبابه وحيوية كهولته وحدة ذكائه الموصوف به، ولا نعلم ما قيمة الذكاء والمواهب، إذا كانت نتائجها هذا الواقع المزري، الذي نرزح تحت آلامه وفجائعه التي شارك فيها بفاعلية وتبرير عنيد، فارسنا الهمام الدكتور غازي العتباني، والمفارقة و أحد أوجه المحنة في عهد المحن هذا، أن مدخل الدكتور غازي للعمل السياسي بل معظم كادر التنظيم الإسلامي، علي الرغم من تبنيهم المشروع الإسلامي، ليس جامعة أمدرمان الإسلامية (او المعاهد الدينية سابقا) او العلوم الإسلامية والشرعية والفقهية واللغة العربية وعلوم الحديث، مع ان ذلك كان متاح لهم في الداخل او الخارج، وينسجم مع منهج التأصيل خاصتهم! ولكنهم فضلوا جامعة الخرطوم او غيرها من الجامعات العلمانية إذا صح هذا الوصف لها، وذلك لأن تلك الجامعات وبالأخص جامعة الخرطوم، كانت توصف في الوجدان السوداني المستلب بفعل التغريب، والإنجذاب الي الآخر المتفوق حد نسيان الذات، بأنها المكان المناسب واللأئق لأصحاب العقول النبيهة والقدرات الخارقة والمواهب المتعددة، وأنها أفضل معمل لإنتاج قادة المستقبل علي المستوي السياسي والثقافي والإجتماعي، بمعني آخر أن غازي وصحبه وبإحساس التميز والذكاء العالي الذي يغمرهم، بالمقياس الأكاديمي البحت! وحصولهم علي أعلي الدرجات، يستحقون هذه الجامعة المميزة التي يرتادها المتفقون عباقرة المجتمع السوداني! ومن ثم تتيح لهم إمتلاك كل الفضاء الوطني وصبغه بطابعهم، علما بأن معظم جهدهم كان مكرسا للأداء الاكاديمي، ولم يشغلوا بالهم وزمنهم كثيرا بالجانب الثقافي او الفني او الرياضي(كلها في عرفهم كانت لهو لا ينسجم مع مظهر التدين الذي يتلفحون به ويستثمرونه في حاضرهم و منافعهم المؤجلة)، أو الإنشغال بهَمّ البسطاء والغلابة الذين يشكلون محيط هائل من البؤس والمشاكل المعقدة، يحيط بجزيرة قلاعهم العلمية المرفهة، وتدفع الغالبية من الفقراء المعدمين ثمن هذا الترف، من فقرهم وعوزهم وحاجاتهم الماسة، بل حتي الجانب الإجتماعي الذي نشط فيه الإسلاميون، قاموا بتوظيفه في الإتجاه السياسي الذي يلبي لديهم أشواق القيادة والحكم، أي المكانة التي يستحقونها في هيكلية الدولة السودانية، بوصفهم أهل إستقامة وعلم ودراية وكفاءة وعبقرية تتدفق من ثنايا رؤوسهم والسنتهم، وتستمد الهامها وفيضها من العقيدة الإسلامية المحتكرة لديهم، وممثليها الحصريين والمسؤولين عن تبليغها الي الآخرين.إذا صح ما ذكر أعلاه، فهذا أمر يخصهم ويعنيهم، ولكن ما لا يعنيهم ولا يملكونه، هو فرض هذا التصور والإحساس علي الآخرين، والأسوأ من ذلك هو فرضه عليهم بالإرهاب او الإنقلاب او مس وإستغلال جانب القداسة في الآخر المستهدف، علي الأقل هذا ما لا يجوز في مفهوم القداسة ذاته حتي لغير المتدينين. المهم تخلي الدكتور غازي عن مهنة الطبابة وتخيف آلام المرضي، وفضل الإنخراط في العمل السياسي والتفرغ له وهذا شأن يخصه, وكذلك إنتمائه للإتجاه الإسلامي، ولكن السؤال ما هي الإضافة التي قدمها لبلده وشعبه ونفسه من خلال هذا الإنتماء الكارِثي! فهو انخرط بكلياته في ذلك الإتجاه، وأبلي بلاءً حسناً داخل منظومته وترفع بسرعة داخل البيت الإسلامي حسب تقييم شيخه ومساعدته كما اسلفنا، الذي كافأه بمزيد من المناصب والإهتمام، ولكن بما أن الغايات عظام وكرسي السلطة مغري، وللقيادة ورئاسة الدولة سحرهما وفتنتهما، لم يكتفِ بذلك القدر، وتمكن مع بعض رفاقه في التنظيم الذين لا يقلون عنه طموحا للرئاسة وبريقها(أظنها تربية داخلية وغايات مكبوتة لدي معظم الأعضاء، تتستر بمزيد من التعظيم للسيد الشيخ/الرئيس حتي يأتي اوآن أزاحته، لتنفجر المشاعر الحقيقية من الغيظ والغضب والكره، راجع تعاملهم مع شيخهم بعد المفاصلة وقارنه بما قبلها من نفس الوجوه ) من إزاحة شيخهم (المغرور الأعظم) والعقبة الكأدا، أمام اي طموح يتجاوز المسموح به اي ما دون الرئاسة، وصاحب اليد الطولي في تكسير أجنحة كل من يربي الريش ويحاول ان يُبدي نوع من الإستقلالية، او تظهر لديه تطلعات حتي لمجرد مشاركته جزء بسيط من الأضواء والنجومية! وبإزاحة شيخهم وكبيرهم الذي علمهم التنكر والخداع وفقه الضرورة، كحيلة دينية و أخلاقية للخروج من المطبات وتبرير التراجعات والتناقضات وتبدل المواقف، صعد نجم غازي أكثر وأكثر، وأتذكر ( ونحن في الداخلية البائسة متسمرين ومتحلقين حول تلفزيون أم درمان الأكثر بؤس، والمصيبة أنه يمثل الوسيلة الوحيدة المتاحة للترفيه! عن طلبة يعيشون ظروف النزوح في أصدق تجلياتها، واعتقد أن المنظمات الدولية المسؤولة عن حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية، لو علمت بحالنا في تلك الفترة، لخصتنا بجزء معتبر من عطفها وفضلها رافة بنا، وأعتذرت لنا، لطول جهلها بحالنا!) ظهوره في التلفزيون كملاكم فاز بالضربة القاضية علي خصمه، وهو يكاد يقفز من الشاشة ليستقر بجانبك، ويقدم لك عروض الغرور والإعجاب بالنفس كطاؤوس في قمة نشوته، والغريب أنه يؤدي ذاك الدور المرسوم بعناية، وهو يضع قناع الجدية والحزم علي وجهه بصورة تذهل ابرع الممثلين(إحتمال لديه موهبة التمثيل رغم الجمود الذي يطبع شخصيته، و التي ضاعت تحت ركام الطموح السياسي المولع بالرئاسة، أي شهوة السلطة وعلي راسها كرسي الرئاسة، التي لم تكسبه الأداء السياسي المميز المترفع عن الأطماع الخاصة ونيلها بكل الوسائل، وأضاعت عليه النجاح في ممارسة مهنة الطب التي درسها، وإحتمال ضياع مواهب أخري، فخسرها جميعا، وذلك هو الخسران المبين! وهذه بدورها محنة مؤسفة!)، و المقصود ذاك المشهد وهو يعلن فك الإرتباط مع شيخهم ووصفه بأنه يخالف التنظيم ولوائحه! او ما أشتهرت تسميته بالمفاصلة كتداعيات لمذكرة العشرة! ولكن بعد التخلص من كابوس شيخهم الذي ما زال يلاحقهم! وجد الدكتور غازي أن الطريق ليس سهلا كما صورت له أوهامه وطموحاته، ووجد أن هنالك شيخا آخر في الطريق(شيخ علي، وكلمة شيخ جزء من الإزدواجية والفصام التي يعاني منها المتأسلمون، وعَرَضْ لحالة الخلط بين التجديد و التقليد التي أربكة مسيرتهم العرجاء أصلاً)، وحاول ألا يصطدم به مبكرا، ولكن كان لابد من ذلك الإصطدام طالما أن الكرسي واحد ولا يمكن إقتسامه! وتسلم الدكتور غازي ملف السلام مع الحركة الشعبية وتوصل الي إتفاق إطاري مع الحركة الشعبية(بروتوكول ماشاكوس2002)، وهو لا يخفي تعنته ومزايدته بمشروع الدولة الإسلامية، حتي لو قادت للإنقسام وإستمرت حرب الجنوب مئة عام، من القتل والخراب لكل البلاد، المهم هو ما يسمي المشروع الإسلامي(الهلامي)، الذي في حقيقته إستغلال لمشاعر البسطاء من أعضاء الحركة الإسلامية والوطن، من أجل مآرب سياسية خاصة، بل شديدة الخصوصية ويتحدث به المرء مع نفسه فقط! وأهمها بالطبع كرسي الرئاسة! ومع اشتداد الخلافات مع الحركة الشعبية وتعنت دكتور غازي المفاوض الرئيسي والمتأسلم الاكبر، أوشك قطار الإتفاق علي التوقف والعودة الي مربع الحرب المرعب، وعندها إستلم الراية شيخ علي عثمان، وصعد الي منصة المشهد، بوصفه قادر علي (تجريع) دواء الإتفاق المر لبقية الأعضاء الرافضين له! خوفا من إقتسام الكيكة التي أصبحت لا تكفيهم وحدهم! ليكمل مراسم الإتفاق ويحوز علي كل الأضواء، ويوصف بانه رجل السلام وترتفع اسهمه، وفي تلك الفترة فضل دكتور غازي الإنزواء، حتي وجد الفرصة الذهبية بعد التطبيق المشوه لإتفاقية السلام الشامل نيفاشا، بوضع العصا في دولاب مسيرتها، حتي لا تصل الي نتائجها المرجوة، أي الدفع نحو حكم ديمقراطي ومشاركة كلية وفاعلة للجميع، والذي يعني عمليا فك قبضة التمكين الإسلامية الثقيلة من عنق الدولة، وتحرير المجال العام وفتحه أمام المشاركة الجماعية، كلٌ حسب قدراته ومواهبه وعزيمته، وأدي ذلك التعطيل المتعمد لتنفيذ بنودها بنزاهة وصدق، الي حصول الإنفصال وفقدان المورد الإقتصادي الأهم البترول، الذي يُسيِّر عجلة الدولة المعدمة، التي تخلت عن كل مواردها الأخري، بقصر نظر يشبه هذه النوعية من الأنظمة ذات الهاجس الأمني! إضافة الي عدم عودة العلاقات الدولية بمواردها الهائلة الي مجاريها بسبب تجدد النزاع في دارفور، ليقع اللوم علي شيخ علي، وهنا تأتي الفرصة للدكتور غازي للصعود وتجددت الأطماع القديمة بالزعامة والرئاسة، علي الرغم من وجود دكتور نافع في المشهد، ولكن دكتور غازي وبحسه السياسي يعلم، أن الدكتور نافع أقل المتطلعين الي الرئاسة حظوظا، بسبب الرفض العام الذي يجده، ليس من المعارضين فقط، بل حتي من أصوات متعددة داخل التنظيم الإسلامي! وذلك لإفتقاده لأي مواهب سياسية، إضافة لمدخله الأمني والعنفي(اللفظي والمادي) الي ساحات العمل السياسي، ومخاصمة الكارِزما المطلوبة للقيادة لشخصه! ومع المرض المتكرر لرئيس التنظيم المالك للدولة قسريا، وتجدد بوادر مغادرته للكرسي لأسباب مرضية وليست سياسية او نوع من التنازل وتقديم مصالح الوطن، كما يصور الحالمون والمخادعون الذين لا يخدعون إلا أنفسهم وتضللهم مصالحهم المهددة برحيله! تجددت الرغبة القديمة/الجديدة لدي الدكتور غازي، وساعده في ذلك طرح نفسه كمفكر للحركة بعد إنزواء عقلها المفكر(في الخراب) الدكتور الترابي إجباريا،(ولا نعرف اين كان ذاك الفكر أثناء وجود الشيخ؟!)، ومحاولته الظهور لشباب الحركة بمظهر الحادب علي مصلحتها، وأنه اكثر نزاهة ولم تلوث سمعته قضايا فساد مشهودة(ولا نعلم الخبايا وما أكثرها)، وظهوره بمظهر تمسكه بالدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة النقية (مية المية) التي يعلمها وحده! وكل ذلك أكسبه قدر من الإلتفاف من شباب الحركة، الذين لم ينالوا حظهم من السلطة والمال كسابقيهم، وهم يرون بأم أعينهم، تساقط أعمدتها وتفكك عراها وإنتهاء عمرها الإفتراضي، وتشتت شملها وتناثر مبادئها مع الرياح، وأنَّ لا حظ لهم في ظل نظام ديمقراطي، يعظم من حظ الكفاءة ويقدر الخبرة، ويزدري الوساطات والأساليب الملتوية في الحصول علي المناصب والمغانم! أي ان الدكتور غازي مَثَّل حل مثالي لتلك الشريحة الضائعة في الزمن الضائع، يقدم لهم الأمل بإمتلاك المستقبل، وهم بدورهم يقدمون له الدعم خلال صراعه الخفي والظاهر مع خصومه وهم ليس قلة! ولكنه في غمرة طموحاته وتخطيطه للصعود، حاول أن يقدم نوع من النقد الجرئ، ليكسب نقاط إضافية من قبل الناقمين الجدد او أهل كهف التنظيم، وهو يظن أن الظروف تسمح به، او انه غير مؤاخذ علي صراحته المستجدة ونقده الحاد! والذي بالطبع يحمل بين أسطره رغبته الجارفة في السلطة والحكم والتحكم، وفي مقالته الأخيرة بموقع الجزيرة(مقالة جيدة) يُلاحظ فيها تشديَّده علي عملية الإختيار للقيادة، التي يجب ان تقوم علي المؤسسية، وبمزيد من التدقيق تلاحظ انه يتخذ من هذه المؤسسية غطاء ودوران حول رغبته او هو(غازي) الخيار المناسب لقيادة الأمة عبر إختيارها الحُر!! وذلك ليس حبا في المؤسسية والإختيار الحُر! ولكنها اللغة السائدة اليوم والتي تمكنه من تسويق نفسه! لأنه يعلم أن فكرة الرئيس القائد الملهم صانع المعجزات، قد ولي زمانها وأصبحت لا تساوي مثقال خردلة في اللحظة التاريخية الراهنة، وأن السيطرة للمؤسسية ومنظومة العمل المتكاملة التي يقوم فيها الرئيس بدور الموظف العام، ويتحرك من خلال خط مرسوم له وتحكمه قوانين، ولا يمثل غيابه او رحيله او حتي عزله إشكالية في عمل المنظومة او يربك أداءها، ولكن كل ذلك يتناقض مع، تملك رغبة الرئاسة المطلقة من نفسه وسكونها في لاوعيه! وهي تقفز من بين أسطره، والدليل انه لا يمكن ان تتنزل عليه هذه الخلاصة البديهية(حكم المؤسسية) فجأة وبعد تصريح البشير بنيته في المغادرة! وهذه بدورها تمثل محنة! وحقيقة رغبته في الرئاسة لا تمثل علة او عيب في حقه، ولكن التستر والإختباء خلف دعاوي إصلاحية و القيام (التلبس) بدور المفكر يشكلان نقاط ضعفه، ولو كانت الجدارة الإعلامية وتقديم مبادرات فكرية ونقدية جريئة هي السمات المطلوبة لكرسي الرئاسة، لكان احق بها رفقائه الدكتور عبدالوهاب الأفندي والبروف الطيب زين العابدين، لتبنيهم ذاك الخط منذ وقت مبكر ولا نقول من البداية، منبهين لكارثية التطبيق ومكر الوسائل وللأسف لم يتحدثا عن بطلان المنهج سبب كل العلل! وكانا أذكي من الدكتور غازي، فعرفا اين يبرعان وتمسكا بخطهم الذي يتلاءم مع ملكاتهما، و لم يغرقا في حلم بركة الرئاسة الآسنة، الذي سقط فيها الدكتور العتباني وغمرته بحصرم نتائجها، وعاد منها بخفي حنين وحسرة شيخه ويا لها من حسرة!! ليجد نفسه وبكل سهولة خارج حلبة اللعبة، لأنه لم يتعظ من شيخه، الهائم في ملكوت الثقة العمياء بنفسه وقدراته الخارقة، وإطمئنانه من ناحية تدجين أتباعه وكبح جماح تطلعاتهم، ولأن الدكتور غازي راهن علي الحلقة الضعيفة في التنظيم، أي الشباب الذين لايملكون سلطة ولا نفوذ او تاثير علي متخذ القرار داخل التنظيم، ولإنعدام التقاليد الديمقراطية داخل التنظيم، التي تعتمد علي الإقناع وحشد أكبر قدر في إتجاه برمج او افكار محددة للمتنافسين داخل التنظيم، أي ان الدكتور غازي صدق طموحه وأوهامه، واكذوبة انه ينتمي لتنظيم ديمقراطي مؤسسي يعتنق الشوري ويقدس المشورة، ويحتمل الراي والراي الآخر ويسمح بالمنافسة الشريفة، التي تنسجم مع قيم الطهر التي يبشر بها، مع ان الدكتور غازي علي الرغم من مجاهداته وتعصبه للتنظيم والدفاع المستميت عنه في المنشط والمكره، لم يصل يوما الي ما هو فيه عن طريق المنافسة الشريفة او الديمقراطية المفتري عليها داخل التنظيم، لأن الصعود داخل هذا التنظيم(المغلق والمتحكم فيه بواسطة الرئيس) بصفة خاصة والأنظمة المشابهة له بصفة عامة، يتم عن طريق القرب من الرئيس او عن طريق الترضيات والعلاقات الشخصية والأسرية والإجتماعية والقبلية او الجهوية، او حسب موازين القوي الداخلية التي تمنع إنفجار الصراع، الذي يخسر بسببه الجميع. أعتقد أن السبب في ظهور محنة الدكتور غازي المستطيلة الآن، أن العمر أصبح يسرقه وأن الزمن قد لا يسعفه في المستقبل البعيد لنيل مبتغاه، فبدأت تتحرك جواه نوازع السلطة والسلطان، وتعبر عن نفسها في شكل دعوات للأصلاح لأن ذلك يخدم غرضان، اولهما أن فكرة الإصلاح قائمة علي إفتراض صحة المنهج او البرامج او الطريق وأن المشكلة ترجع لسوء التطبيق والمُطَبِق له، وبالتالي هو(غازي) الحل لقدراته الفذة علي تطبيق ذاك المنهج، بما يملكه من مواهب فذة مفتقدة في الآخر سبب التدهور، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخري أن التشكيك في المنهج يمثل تشكيك فيه هو نفسه، وهذا لا يستقيم مع من يعد نفسه لميراث النهج والتنظيم، وثانيا أن دعوات الإصلاح ترفع عن كاهله تناقض أخلاقي لطالما سفه دعاويهم وشكك في صدقيتهم، أي ما بين رغبته الذاتية في السلطة المطلقة والسيطرة المستديمة، وصراعه ضد الآخرين داخل التنظيم من اجل السلطة، وبين شعارت وأهازيج، لطالما رفعوها ضد التيارات المنافسة المخالفة لهم سياسيا، والمدموغة بانها علمانية تتصارع من أجل السلطة، التي هي في عرفهم مفسدة وفتنة منكرة وهم يعتبرونها وسيلة فقط لتنزيل قيم السماء، ولا تستحق هذا الصراع وانهم لا يعطونها لمن يطلبها، من عينة هي لله هي لله لا للسلطة ولا للجاه! ولا لدنيا قد عملنا نحن للدين فداء!! المهم مع تقدم العمر إزداد شغفه بالرئاسة، مما شوش علي تفكيره وتركيزه، وجعله لا يحسب خطواته بدقة وتأني وهدوء، وساعده في ذلك حالة التململ داخل الكيان الإسلامي، وأوضاع البلاد التي وصلت الحلقوم والكل ينظرون اليها وهم عاجزون. في الختام دكتورنا العزيز غازي، أصالة عن نفسي وإنابة عن ضحايا كل الوطن من قتلي ونازحين ومشردين ومحبطين ومهجرين مشتتين في قبل الأرض الاربعة، بسبب تنظيمكم وطموحاتكم الأنانية التي سلكت مسالك غير مشروعة لا دينيا ولا وطنيا، وما سببتموه للوطن من خراب يعجز الخرب نفسه عن الإتيان بمثله، وفساد يسد عين الشمس، وبكم الاذي الهائل الذي سببتموه للمواطنين زرافاتا ووحدانا، نقدم لك بكل إعتزاز، ما يعبر عن مشاعرنا ويجول في خاطرنا تجاهك وتجاه تنظيمك وجماعتك الضالة، مقطع من أغنية بعد أيه للشاعر الفذ المرحوم إسماعيل حسن التي ابدع في تلحينها وغنائها مطرب الوطن والجمال المرحوم الموسيقار وردي عليهما الرحمة. بعد ايه جيت تصالحني(الشعب) بعد ما ودرت قلبي الكنت فيه(المخدوعين) جيت تشكي جيت تحكي جيت تبكي لية ليه اعتذارك مابيفيدك ودموعك مابتعيدك العملتو كان بإيدك انا ما لي ذنب فيه ليه جيت تشكي ليه جيت تحكي ليه جيت تبكي لية ليه! كان الله في عون السودان وشعبه وأعانه علي تجاوز محنته! عبدالله مكاوي [email protected]