طالعتنا صحف الخرطوم مؤخرا بخبر مثير ومدهش ومستفز في آن واحد، مفاده أن السودان ثالث دولة في العالم و الأولى في أفريقيا تستقبل الهاتف الأسطوري الجديد ( جلاكسي إس 4 ) الذي يأتي على رأس الهواتف الذكية ، ولم يخبرنا مصدر الخبر المتمثل في شخص مدير المبيعات بشركة سامسونغ في الخرطوم عن الدولتين اللتان تجرأتا و احتلتا المركزين الأول و الثاني وبسببهما حرم السودان من موقع الصدارة في هذا الفتح العلمي و الإنساني الكبير . وحتى نقف على أهمية هذه الخطوة التي أمتلك بها السودان ناصية التكنولوجيا ، لابد من الإشارة إلى بعض المعلومات المهمة حول منتج شركة ( سامسونغ ) الكورية الجنوبية الذي هز أركان أعتى شركات الهواتف المتنقلة في العالم من لدن أبل الأمريكية التي تحظى حاليا بحصة 20 بالمئة من سوق الهواتف الذكية في العالم ، فقد حصل ( جلاكسي إس 4 ) على الموافقة الأمنية من وزارة الدفاع الأمريكية ( البنتاجون ) وهو أول جهاز من صنع سامسونغ يحصل على هذا الاعتراف ، وهذه الميزة لم تتوفر لمعظم المنافسين وهي الخيط السحري لاكتساح الأسواق وحصد الأرباح . وكانت الشركة الكورية الجنوبية قد كشفت عن هاتفها الجديد في الخامس عشر من مارس الماضي لزيادة الضغط على منافسيها ، ووصل الجهاز إلى أسواق منطقة الشرق الأوسط في السابع و العشرين من ابريل ، وبلغ سعر النسخة المتوافقة مع شبكات الجيل الثالث ( 3G ) أكثر من 700 دولار ، على أن تتوفر النسخة المتوافقة مع شبكات ( 4G ) الأكثر تطورا في مايو الجاري بسعر 790 دولارا أمريكيا . إذا صحت تصريحات المصدر بأن السودان ثالث دولة عالميا و الأولى أفريقيا تستقبل هذه التقنية المتطورة في الهواتف الذكية ، فلا تحسبوه هينا ، لأن له الكثير من الدلالات و المفارقات في بلد يتذيل القوائم عالميا في مستويات التنمية البشرية و الاجتماعية و الإنسانية ، ويحقق مراكز متقدمة ضمن الدول الأكثر فقرا ، و الأقل نموا حيث يعيش سكانه على أكثر من دولار بقليل في اليوم ، وتبلغ نسبة التضخم و الفقر والبطالة مستويات مخيفة ، وتنعدم الشفافية و الحوكمة الرشيدة ، وينخر الفساد في جسده ، و تتسع بؤر النزاعات و الحروب و تزداد أعداد النازحين داخليا و اللاجئين الهاربين من وطأتها إلى دول الجوار ، وتتكدس جموع المهمشين و الفقراء حول العاصمة ليكونوا سياجا من البؤس و الشقاء و التردي الصحي و البيئي و التشرد و الحرمان . وعندما تقرر شركة كبرى في حجم سامسونغ اقتحام أسواق بعينها فإن اختيارها لا يتم عبطا ، بل تسبقه دراسات جدوى و مسح لتلك الأسواق وقوتها الشرائية ، ومدى استيعابها واستقبالها للتكنولوجيات المتطورة ، ومواكبتها لمثل هذه الطفرات الهائلة و قدرتها على تسويق المنتج بصورة يحقق الربح المطلوب ، ولا شك أن كل هذه الشروط قد تحققت على الساحة السودانية ما دفع الشركة إلى جعل السودان من أوائل الدول المستقبلة لهاتفها الجديد . ولكن من أين لشعب يعيش جله على الكفاف وتحاصره الأزمات الخانقة من كل اتجاه أن يمتلك أفراده مثل هذه الهواتف باهظة التكلفة ، حيث يساوي ثمن الوحدة منه دخل أكثر من عشرة أشخاص في الشهر ، وبهذه الحسبة التقريبية تستحيل عملية امتلاكه لدى شعب خارت قواه في سبيل السعي وراء كسب العيش و أنهكه المرض لصعوبة الحصول على ثمن الوصفة الطبية ، ويتسرب تلاميذه من المدارس نتيجة لعدم القدرة على توفير المستلزمات الدراسية ، و القابضون منهم على مقاعد الدراسة بعضهم يتلقون العلم ببطون خاوية وأذهان شاردة . ورغم هذه التحديات اليومية و الظروف غير الطبيعية تنتشر ظاهرة امتلاك الهواتف الذكية بين السودانيين كالنار في الهشيم ، ولا اعتقد أن هناك شعبا في العالم حتى في الدول الأكثر تقدما يحمل أفراده في قبضة اليد الواحدة ثلاثة هواتف و أربع شرائح وخمسة أرقام و عددا لا بأس به من السماعات . اتصلت بي قبل أربع سنوات إحدى قريباتي وطلبت مني إرسال هاتف بثلاث شرائح ، عقدت الدهشة لساني لأني في دولة تدار حكومة إماراتها السبع الكترونيا ولم اسمع بهذه التقنية الجديدة ووعدتها خيرا ، ولما ذهبت أبحث عنه في سوق الله أكبر ذهلوا مثلي ، ولم استطع تلبية رغبتها إلا بعد سنة كاملة . بماذا يفسر هذا السلوك الاستهلاكي البذخي و المظهري في السودان رغم الأوجاع و الإعسار الشديد لدى غالبية الشعب ؟ لا شك أن هناك العديد من العوامل ساهمت في انتشار هذه الظاهرة منها اتساع رقعة الطفيليين الذين أثروا على حساب عامة الشعب من خلال مداخل وطرق كثيرة ساهمت في تقنين النهب المصلح و التجني على حقوق العباد و البلاد ، إلى جانب الثغرات الواضحة في القوانين و عدم الرقابة و المحاسبة ما شجع على التعدي على المال العام وأصبحت حرمته في مهب الريح ، و انتشار مظاهر التقليد الأعمى خاصة بين الشباب . إضافة إلى التسهيلات التي تمنحها شركات الاتصالات السودانية للمشتركين في خدماتها خاصة من خلال تخفيض أسعار المكالمات و الإغراء بالعروض المستمرة ، واستعار حدة المنافسة بين الشركات في هذا الصدد حتى تأثرت به اقتصاديا وعجزت عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه المساهمين و التجني على أرباحهم بصورة مستمرة ، و انهارت أسهمها في أسواق الأوراق المالية المحلية والإقليمية بعد أن كانت تتربع على عرشها بلا منازع الشيء الذي سيجعلها تتراجع عن الكثير من هذه العروض وتعود إلى صوابها و مقتضيات السوق عاجلا أم آجلا . بالتأكيد نحن لسنا ضد امتلاك ناصية التكنولوجيا الحديثة و النفور عنها ، فالسودانيون عرفوا بمواكبة التطور و الحداثة بجميع أشكالها ، و الكثير من الوسائل التقنية و التكنولوجية عرفت طريقها للسودان قبل الكثير من الدول المجاورة ، لكن يجب ألا يكون هذا على حساب أساسيات و ضروريات الحياة، وقيم و شمائل الشعب السوداني العظيم . [email protected]