قبيل كارثة انشطار و تشظي البلاد، بانفصال دولة جنوب السودان، عن الوطن الأم، كتبت مقالاً مطولاً، تحت عنوان، الإسلامويون يتكذِبون بالدين، و يتكسَبون به، نُشرته وقتها صحيفة الميدان، في أجزاء متسلسلة. كما نشرته كاملاً، صحيفتا سودانايل و سودانيزأونلاين الإلكترونية. و ذكرت في المقال المذكور، أن غاية أهداف نظام الإسلامويين، و (صيغة منتهى اشتهائهم) من اتفاقية نيفاشا و دستورها المؤقت لسنة 2005م، هي اتخاذهما مطيتان لاستدامة حكمهم، و توطيد أركانه، على سند من شرعية متوهمة، يفتقرون إليها، و طالما تاقت إليها نفوسهم، و تعلقت بها أفئدتهم. وثبت فيما بعد، صحة قولنا أن كل غايات الاسلامويين، قبل نيفاشا وبعدها، هي استغفال الشعب و الاستهانة بوعيِه بقضاياه المصيرية، و إدراكه مطالبه الرئيسية، والمتاجرة بها و الالتفات عليها، بتوظيف تسوية نيفاشا و دستورها الانتقالي للاستثمار في عاهات الوطن المستديمة، و التكسب من جراحات شعوبه النازفة، لإسباغ شرعية – مفقودة – على حكمهم، تؤمن استدامته و تعزز توطيد أركانه، عن طريق وثائق – دستورية في الظاهر – ظاهرها الرحمة، و باطنها العذاب. و لا يحتاج ما قلناه بالأمس، عن نيفاشا و دستورها الانتقالي، في يومنا الحاضر، إلي إقامة الدليل و سوق البرهان. فمواد الدستور التي أعطت المؤتمر الوطني، السلطة والثروة و الوظائف والسيادة، سرى نفاذها و طبقت بحذافيرها، في التو من لحظة سريان الدستور، و حتى يومنا الحاضر. أما مواد وثيقة الحقوق، فمعدومة الأثر الدستوري – القانوني، فيما يلي حقوق، غير المنتسبين للمؤتمر الوطني، ومن شايعهم من الأرزقية و الانتهازيين واللصوص، و المؤلفة قلوبهم. فنيفاشا كما رأينا، لا أرضا أبقت و لا سلاماً حققت، لأنها صيغت ونفذت بسوء طوية وخبث مكر، و المكر السيء لا يحيق إلا بأهله. و اشرنا في السياق ذاته – و الشيء بالشيء يذكر – إلي أن شح نفس الإسلامويين، و نهمهم لسلطة الحكم، و شرههم للتمتع بملذات الحياة المادية، كلها صفات أججت رغبتهم المتأصلة للانفراد بالحكم، انحيازاً و تغليباً، لمصالحهم الحزبية الضيقة والأنانية، مما حجب عنهم، و منعهم من النظر المسؤول و السديد، إلي اهتبال سانحة تسوية اتفاقية نيفاشا، و دستورها الانتقالي، – على علتيهما – كسانحة تاريخية نادرة، قد لا تتكرر بسهولة للوطن، أو لهم على أقل تقدير، للتوفر بالتفاوض و الحوار ، مع الآخرين المعنيين – وهم في رأينا كافة السودانيين – حول ازمات الوطن المستعصية، و قضاياه المصيرية، و التوفر عليها بالدراسة و التمحيص و الفحص، توطئةً لتسويتها بالحلول التي يشارك في صنعها، المعنيين جميعاً، بالاتفاق و التراضي الحر و الطوعي، و من ثم تنال قبولهم و رضاءهم. و اسمحوا لي أن أعود اليوم، إلي مضمون ذات العنوان أعلاه، لنرى معاً نماذج أخرى، من ظاهرة تكذَبهم بالدين، و امتهانهم له و تكسبهم به، في مجال توظيف الدين كسلاح في الصراع السياسي و تتخذه كأداة رئيسة في الدعاية والترويج، إما لمعتقداتها السياسية، أو لتصفية و دحض معتقدات خصومها. و الغرض من اشهار الإسلامويين، سيوف التكفير و الخروج على الدين، في و جوه، كل خصومهم الفكريين و السياسيين، هو استثارة العاطفة الدينية ضدهم، و تأليب أصحابها المسلمين، و هم الأغلبية في السودان – لكنهم لا يوالونهم – لمواجهة خصومهم و حسمهم دينياً، حتى يكفون أنفسهم، مؤونة مواجهتهم في الصراع، الفكري و السياسي الدنيوي. وهم يقصدون بذلك هزيمة خصومهم بيد غيرهم، حتى قبل أن تبدأ المعركة. ولم يسلم بالطبع، أحدٌ من خصوم الإسلامويين، من اشهار سيف الاتهام بالكفر و الإلحاد، في وجهه، بما في ذلك، قادة و أنصار، الأحزاب الطائفية الكبيرة، كحزب الأمة و الحزب الاتحادي الديمقراطي، وغيرهم من الجماعات الدينية، التي سبقتهم إلي ميدان العمل العام، و الدعوة إلي والتبشير بي قيم الاسلام. في صراعات الانتخابات التي تلت انتفاضة 1985م المجيدة، كان شعارهم الرئيس، هو أنهم حزب الله وشريعته، وأن ما عداهم، بما في ذلك الأنصار و الختمية، و أتباعهم و يمثلون أغلبية شعب السودان، هم أحزاب الشيطان، التي ترفض تطبيق شرع الله. ليس هذا فحسب، بل لقد شهروا سلاح الكفر و الخروج عن الملة في وجه بعضهم البعض، تصريحاً لا تلميحاً، في أعقاب مفاصلة القصر والمنشية، التي قصمت ظهر التنظيم. مثال آخر: عند سماعك، لفظتي الدين و السياسة، فإن أولُ ما يتبادر إلي ذهنك، هو أنهما أمران مختلفان، تمام الاختلاف. فالدين – كما هو معلوم – شأن سماوي تقرره نصوص مقدَسة، قوامها أحكام و قواعد، اعتقادية تشتمل على عبادات أو معاملات. وهي أحكام و قواعد ثابتة، لا يعتريها التغيير والتبديل. بينما السياسة أمر دنيوي، يتعلق في المقام الأول بفن إدارة مصالح الناس، و شئون معاشهم، و كافة جوانب حياتهم المشتركة، و قوامها نظريات و آراء و اجتهادات بشرية، متغيرة و متبدلة بحسب تغيير و تبدل الأزمان و الظروف، و هي بالطبع تحتمل الصحة كما تحتمل الصواب، لكونها اجتهادات و أراء، لا أكثر و لا أقل. و لذلك فعندما ترفع، قوى سياسية واجتماعية، معتبرة و مقدَرة في السودان شعار أو مطلب، فصل الدين عن الدولة، فإنها لا تقصد به فصل الدين عن المجتمع، كما يزعم الإسلامويون زوراً و بهتاناً. بل تقصد به فصله عن السياسة، و عدم إقحامه بنصوصه السماوية المقدَسة، و المتسمة بالثبات و عدم التغيير و التبديل، في الشأن الدنيوي الاجتهادي، والقابل للتغيير و التبديل، وفق مقتضى الحال، و بحسب ملابسات الظروف، و تغير و تبدل المصالح الدنيوية المحضة، المتغيِرة مع دورات الزمان، و اختلاف المكان. وعلى خلاف ما يزعم، تجار الدين و مستثمريه، فإن دعوة فصل الدين عن السياسة، هي أدعى لتنزيه الدين و مقدساته، عن صراعات المصالح البشرية، و أدعى لحفظه نقياً و روحانيا، لا تخالطه أطماع و رغبات تتعلق بالدنيوي المحض. ولعل من المفيد هنا، أن نورد بنموذج لتكذب الاسلامويين المصرين بالدين، و استغلالهم له وتوظيفه السياسي. فهم كما نعلم سلف و مرجعية أم بالنسبة للسودانيين و أساتذتهم، باعتراف الأخيرين، في شخصي الترابي و حسن مكي، بأن حركتهم عاشت طفولتها و صباها و شبابها، عالة على إخوان مصر تتكففهم الفكر و الثقافة و الأدب (إذا جازت التسمية)..... الخ. في الفصل الأول من مؤلفه: "حوار حول العلمانية" يذكر شهيد الفكر، الدكتور فرج فودة القصة التالية: " عندما رشَح الأستاذ أحمد لطفي السيِد، نفسه لعضوية البرلمان، تفتق ذهن منافسه، عن حيلة طريفة، فأخذ يجوب القرى و الكفور، معلناً أن أحمد لطفي – والعياذ بالله – ديمقراطي. فأخذ المستمعون يرددون وراءه عبارات من نوع، أعوذ بالله و أستغفر الله، بينما انبرى أنصاره لإنكار الأمر، مؤكدين أنه من أسرةٍ مؤمنة، لا يعرف عنها الخروج على العقيدة، أو انحراف الملة. ولكن موقف المدافعين عن لطفي كان عصيباً، أمام عبارات المنافس الحاسمة: " لقد سمعته بأذني يردد ذلك. و أقسم بالله أنني لو سمعت هذا، من غيره لأنكرته، و ها أنذا أعرض الأمر عليكم، و إن كنتم تريدون ترك الإسلام و اعتناق الديمقراطية فانتخبوه وهذا شأنكم، وقد بلَغت، اللهم فأشهد". و في اللقاء الشعبي الذي عقده في دائرته الانتخابية، اختصر أحمد لطفي حديثه، معلناً ترحيبه بتلقي الأسئلة، التي دارت جميعها حول مضمون واحد هو: " هل صحيح ما يشاع عن أنك ديمقراطي"؟؟ وبهدوء العلماء، و وقار الأساتذة رد: " نعم أنا ديمقراطي، و سأظل مؤمنا بالديمقراطية حتى النهاية. فهاج الحضور هياجاً شديداً و حرقوا السرادق.نواصل الميدان