هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    علماء يكشفون سبب فيضانات الإمارات وسلطنة عمان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دستور السودان الإنتقالى لسنة 2005م: (دِموكتاتورية) (فزاعة طير) الشمولية .. بقلم: أمين محمّد إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 20 - 01 - 2011


(1)
ونبدأ بتعريف عبارة فزاعة الطير، الواردة فى عنوان المقال – ويقال لها (الهامبول) فى عامية أهل السودان، و (خآل المآتة) عند المصريين – و هى كما يعلم أهل الزراعة، عبارة عن مجسم خشبى فى شكل آدمى، يصنعه المزارع ويحشوه بالتبن والسعف والقش، ليضعه فى الحقل، على هيئة إنسان يقف على قدميه، مجلبباً ومعمعماً، لمنع الطيور والحيوانات آكلة الحشائش، من الإقتراب من الزرع و إتلافه أو إتلاف ثمره. وهناك أيضاً لفظة (دِموكتاتورية) و رمزنا بها، لزئف ديمقراطية الدستور الإنتقالى، و يراد بها نقيض الديمقراطية أو مسخهها المشوَّه، و (مستعارةً من وصف أحد الكتاب الأفاضل، هو على الأرجح د. الأفندى، لسناريو مهزلة إنتخابات إبريل 2010 م، و ما تمخض عنها من نتائج سياسية ودستورية). أما كيف يصبح هامبول الديمقراطية هذا، (فزاعة طير)، لشمولية حكم المؤتمر الوطنى القابضة، فهذا ما يبيَّنه المقال، بإستعراض بعض الملامح الرئيسية للدستور، فى إيجاز بالغ، مع عرض موجز أيضأً لما تمخض عن نفاذه و سريانه، من نتائج عملية تعكس ما قصده منه صانعوه،على وجه الدقة والتعيين. فالعبرة من التشريعات ليست فى نصوصها و أحكامها، المضمنة فى متونها الباردة، بل فى تطبيقاتها العملية، التى تحوِّل هذه النصوص إلى ممارسات و أفعال حيّة ومحسوسة. فما يهم المواطن من التشريع ليست نصوصه المدونة فى الورق، أو كلماتها وألفاظها كما تقبع فى مخيلة صانعيه، بل ما تحققه على أرض الواقع المعاش من تجسيد لمضامينها سواء كانت كفالة حقوق أو فرض قيود عليها أو ترتيب إلتزامات أو واجبات أو سن قواعد ناظمة لممارسة السلطة العامة، أو و ضع قيود علي تلك الممارسة.
و بعد هذه المقدمة التعريفية الضرورية، نلخِّص فى إيجاز ظاهرة التناقض، بين الخصائص الإيجابية المائزة، للحركة السياسية السودانية، و إخفاقها و تعثرها فى ترجمة تلك الخصائص إلى طاقة إيجابية فاعلة، تمكنها من إنجاز صياغة إرادتها الجماعية، فى شكل وثيقة دستورية، ناظمة للعلاقات السياسية والإدارية والحقوقية، لمكونات الدولة السودانية، من شعوب وقوميات و طبقات و شرائح إجتماعية مختلفة. أما من حيث ما تقدم ذكره، من ملامحها و مميزاتها الإيجابية اللافتة للنظر، فثمة عاملان رئيسيان فى تقديرنا، أكسبا الحركة السياسية والإجتماعية، المعاصرة فى بلادنا، وعياً ذاتياً مبكراَ و مرموقاً، بصفاتها و خصائصها النوعية المائزة، المتمثلة فى قدراتها الخلاقة و طاقاتها الحيوية وعبقريتها الفريدة، فى إحسان إنجاز مشاريعها الوطنية الكبرى، كثورة الإمام المهدى التحررية، و ثورة 1924م، و مبادرة مؤتمر الخريجين، و معركة تحقيق الإستقلال و تفجير ثورة أكتوبر الشعبية 1964م وإنتفاضة مارس/إبريل 1985م المجيدة، و مقاومة شمولية دولة الإسلام السياسي الحالية... إلخ، وهى مآثر سياسية و إجتماعية تاريخية مايزت حركة شعبنا بحق – و باعتراف الآخرين - عن مثيلاتها و أضرابها فى محيطيّها المحلى و الإقليمى، والدولى أيضاً إلى حد كبير:-
أولهما: فى تقديرنا هو، استنادها إلى إرث تاريخى قديم، من التطور الحضارى و المعرفى، المقتدر و المؤثر والفاعل لشعوب السودان المتنوعة، ممتد منذ ما قبل التاريخ، مروراً بتفاعلها الإيجابى، مع كل عناصر التجديد الوافدة إليها، وإستجابتها لدواعى و ضرورات التجديد، و تطورها فى سياق جدل الحوار بين القديم والجديد، المفضى فى المحصلة إلى جدة و إغتناء و منعة، محتوى الناتج الحامل لجينات أفضل مكوناتهما أى القديم والجديد. وغنى عن الذكر بالطبع، أن هذا الإرث التاريخى - السند، عميق الجذور ومتعدد المصادر و المراجع و متنوع المنابت، و من ثم، غنى المحتوى.
والآخر: هو تزامن ميلاد ونشؤ الحركة الوطنية السودانية، بمنظماتها الحديثة من أحزاب سياسية ونقابات واتحادات و جمعيات و منظمات المجتمع المدنى المختلفة، مع ذروة النهوض الجماهيرى، الثورى العارم والجارف، الذى انتظم العالم بأسره، قبل وفى فى أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م) و أعقابها ، ودشّنت به الشعوب عهد إنتصار إرادتها على النازية والفاشية ودحرهما، وإستشراف أفاق التحولات الثورية، تحت شعارات الإشتراكية و العدل الإجتماعى.
و معلوم أن ألوية هذا النهوض الثورى، حملها رأس الرمح المتمثل وقتها، فى تحالف شعوب المعسكر اللإشتراكى الوليد، ومنظمات حركة الطبقة العاملة فى البلدان الصناعية، وحركات التحرر الوطنى، فى البلدان المستعمرة، فى قارات آسيا و إفريقيا وامريكا اللاتينية. وبما أن حركة شعبنا التحررية، كانت ضمن مكونات الضلع الثالث، فى هذا التحالف الثورى الواسع، فقد كان من الطبيعى، أن يطبع هذا النهوض الجماهيرى العالمى، حركة شعبنا التحررية، من كل بد بطابعه الثورى، و يوسمها بالضرورة بميسمه التقدمى، و لو كره الرجعيون والظلاميون، لا سيما وأنها شكّلت حينها، كما أسلفنا القول، جزءا لا يتجزأ، من هذا النهوض والصعود الثورى الهائل. و يمكننا القول بأن الحركة الوطنية السودانية حافظت على جذوة مدها الثوري المتصاعد متقدة وحية، على مدى العقود الممتدة من قبيل منتصف أربعينيات القرن الماضي حتى بلغ منتهى ذروته وقمة عنفوانه، عشية الاستقلال. و بعده ظلّت هذه الجذوة متقدة وحية فى مأثرتي ثورة أكتوبر والإنتفاضة، و لا تزال وستظل هكذا و شعبنا يعد عدته لمنازلة شمولية الإسلامويين و هزيمتهم، وإجبارهم على التراجع النهائى والتام عن مشروع دولتهم الظلامية الخائب والبائر.
ومن الظاهر للعيان أن، طوفان هذا المد الثورى الجماهيري الوطني، قد ظلّ يشكّل مضمون الظاهرة الأكثر دلالة على فعالية وحيوية وديناميكية، الحركة السياسية والاجتماعية، فى التفاعل مع والانفعال بالقضايا المصيرية التى واجهها واقع السودان منذ ما قبل الإستقلال وحتى وقتنا الراهن. كما ظل تفاعل و إنفعال حركة الجماهير الحيوى والديناميكى بهذا المد الثورى يلعب الدور الأكثر تأثيراً فى حسم أمهات القضايا الوطنية. فإذا أخذنا معركة الإستقلال كمثال، نجد أنه وبدفع من هذا المد وبتأثيره، لعبت القوى السياسية المختلفة و التنظيمات النقابية والمدنية، التى تصدت وقتها لقيادة حراك القوى الوطنية بكل أشكاله، دوراً بالغ الأهمية فى تحديد الوجهة الأساسية، لمجرى تطور الأحداث نحو تحقيق حلم الاستقلال، من خلال تطويع توجهات القوى السياسية المتباينة الرؤى والمختلفة المصالح، وإخضاعها للالتزام بالإرادة الوطنية الغلابة. فاستجابت كلها لرغبة الشعب الداعية إلى توحد الحركة الوطنية، بأحزابها ومنظماتها المختلفة، حول مطلب حق تقرير المصير، والدفع بها للسير قدما للالتفاف حول مطلب إعلان الاستقلال، من داخل البرلمان، كما حدث بالفعل، مخالفاً لكل الإرهاصات والتكهنات التى سادت وقتها. فإعلان استقلال السودان من تحت قبة البرلمان، كما جرى فى أرض الواقع، حدث لم يكن يتوقعه أكثر المراقبين تفاؤلاً لحظة استقلال السودان، وذلك من فرط تباين و إختلاف روئ القوئ الفاعلة، والمساهمة فى الصراع ضد المستعمر، حول كيفية تحقيق و إنجاز الإستقلال. فلا غرو إذن أن سيطرت، خلفيات هذا التباين والاختلاف فى الرؤى، على أذهان المراقبين وقتها، على سند من واقع، إرهاصات الشعارين الأكثر استقطاباً لجماهير الأحزاب التقليدية، والمتمثلين فى وحدة وأدى النيل تحت التاج المصري، (الأحزاب الاتحادية)، والسودان للسودانيين مع ارتباط ما بالإنجليز، (ألأحزاب الاستقلالية). الأمر الذي أعتبر معه إتفاق الأقطاب المتنازعة، على هجر شعاريهما و إعلان الإستقلال من تحت قبة البرلمان، مأثرة من مآثر وطنية وثورية الشعب السوداني، المتميّز بحق وحقيقة. وقد أثبت تاريخ شعبنا الممتد من إنتصار الثورة المهدية، وما تلاها من إنجازات وطنية لاحقة، كثورة أكتوبر 1964م وإنتفاضة مارس/إبريل 1985م، وتشمل بالضرورة مقاومته الباسلة والعنيدة للشمولية الثالثة (1989م - ....) والممتدة بإذن الله، حتى النصر المؤزر، أن هذه المآثر العظيمة قيم أصيلة و باقية فيه وليست عابرة، كما يظن البعض توهماً.
فإذا كان ما تقدم من صفات التميّزٍ و التفرُّد التى يتسم به شعبنا، و كان ما نواجهه الآن، من واقع سياسي و إجتماعى محتقن و إقتصادى متصدع، ناتج عن أزمة وطنية عميقة وشاملة وشائكة ومتشعبة، و يهدد بكارثة قومية وشيكة تعصف بوحدة البلاد تراباً و شعباً، أوليس من المفارقات المحيّرة والمربكة، ألا يزال شعب السودان ، بكل ما عرف عنه، من وعى وحيوية وديناميكية، حتى نهاية العقد الأول، من القرن الواحد والعشرين، عاجزاً عن الوصول للصيغة المثلى المقبولة لدى أوسع أقسام مكوناته، للتأسيس الدستورى و الإدارى و الحقوقي و السياسي لدولته. أو ليس غريباً و محيّراً، أيضاً، و الأمر كما بيّنا، أن يظّل شعبنا يراوح مكانه، دون معالجة قضايا ما بعد الاستقلال، وفى مقدمتها تعزيز الاستقلال السياسي بانجازه التحرر من التبعية لدوائر الاستعمار الحديث، وتحقيق الاستقلال الاقتصادي، والتغيير الاجتماعي والنهوض الثقافي .... الخ وهى القضايا المتعارف عليها بمهام التحول الوطني الديمقراطي. فبعد جلاء المستعمر فى أول يناير من العام 1956م، ونيل بلادنا استقلالها السياسي، ورغم تصرم العقود و الحقب المتتابعة، التى تجاوزت نصف قرن من الزمان، تعاقبت قوى وشرائح اجتماعية متعددة، خلالها على كراسي الحكم، بساستها وعسكرها وتيكنوكراتها، نخباً تلو نخب، فرادى ومؤتلفين، ممثلين لإرادة الشعب حيناً ومنتزعين الحكم، غلاباً واغتصاباً وتعدياً، على إرادة الشعب فى أغلب الأحيان، فلا يزال الملمح الرئيس للمشهد السياسي، فى حاضر السودان اليوم، هو أزمة الحكم المتطاولة المتفاقمة والعميقة، والشاملة والمستحكمة والمستعصية، فى آن واحد. وبالنتيجة تظل حركة شعبنا تراوح مكانها، فى أحسن الفروض، دون تسجيل أي تقدم يذكر، عما كان عليه وضعه عشية الاستقلال. مما يجعل الصراع السياسي الإجتماعى، الدائر بين مختلف القوى السياسية، ينصب على كل قضايا ومهام ما بعد الاستقلال، دونما أي استثناء يذكر. وينهض هذا دليلاً وبرهانا كافياً على أن نخب الحكم المختلفة، لا تعير قضايا بناء الوطن وتنميته وتطويره، إلتفاتاً أو إهتماماً بل تنصرف عن ذلك إلى إيلاء مصالحها الخاصة همها الأكبر. و يؤكد ذلك صراع النخب الحاكمة، فى أغلب الأحيان، على محض أسلاب و غنائم الحكم من سلطات و وظائف و مراكز و إمتيازات وموارد مالية.... إلخ. فالسلطة فى نظر بعض القوى السياسية، هى مصدر القوة والنفوذ، المفضيين إلى السيطرة على مفاتيح دنيا المال و إكتناز الثروة، فهما إذن وسيلة الثراء و أداة حمايته والحفاظ عليه معاً. أنظر كيف يفعل الإسلامويون اليوم لترى أسوأ نماذج، (الربح فوق الشعب)، كم يسميه الكاتب والمفكر الأمريكى نعوام تشوميسكى، لترى كيف إتخذ فقراء الأمس و معدميه جهاز الدولة كحصان طروادة إلى دنيا الإغتناء الثراء و الفاحش و العريض بالسلطة، وكيف يوظفون سيطرتهم و هيمنتهم المطلقة على ذات الجهاز لحماية ثرائهم الفالت و المشبوه. وهنا يكمن تفسير ظاهرة المنافسة المحتدمة، بين مختلف القوى السياسية، حول جهاز الدولة، بأذرعه المختلفة، والحرص البالغ الذى تبديه، كل فئة منها، لفرض سيطرتها و هيمنتها الكاملة عليه، بغرض الإنفراد به وتوجيهه لتحقيق مصالحه الفئوية الخاصة، سواء كانت النخبة الحاكمة حزبية منتخبة ديمقراطياً، أو عسكرية دكتاتورية سطت على الحكم بقوة السلاح.
و ما أن تفرض هذه النخب الحاكمة، سيطرتها وهيمنتها على جهاز الدولة، فسرعان ما تبدأ بالإنتهاك الفظ للمبادئ الدستورية، السارية والنافذة، و إهدار الحقوق التى تتضمنها، ثم الخروج على ما إستقر عليه العمل، من مبادئ الدستور، وسيادة حكم القانون (سابقة جوزيف قرنق و آخرين /ضد/ حكومة جمهورية السودان) نموذجاً للدكتاتورية المدنية. و فى حالة الإستيلاء على الحكم بالقوة فسرعان ما تبادر الطغمة العسكرية، بإعلان ما تسميها أوامر جمهورية/دستورية جديدة، تبدأ بإيقاف العمل بالدستور وإلغائه وإلغاء مؤسسات الحكم القائمة و فى مقدمتها السلطة التشريعية، و هى المناط بها منذ إستقلال البلاد، مهمة وضع دستور دائم اللسودان. ولهذا جاءت تسمية البرلمان السودانى المنتخب والشرعى، بالجمعية التأسيسية
.(The Constituent Assembly)
أنظر دستور الإنتقالى سنة 1956م.
ومقصود بها الهيئة نواب الشعب المنتخبين للتأسيس الدستورى والإدارى والسياسى للدولة السودانية المستقلة. أى أن مؤدى هذه التسمية هو، أن هذه الجمعية التأسيسية، هى السلطة التشريعية الممثلة لإرادة الناخبين السودانيين، و المخوَّلة بموجب هذا التفويض، لصياغة وإجازة الدستور التأسيسى والدائم لجمهورية السودان المستقلة. بيد أن هناك دائما من لا يطمئن للركون إلى نتائج خيارات الإرادة الجماعية للشعب، ويتوجس خيفة ألا تلائم هذه الإرادة خياراته، ويشك فى أن تتفق خيارات الشعب مع مصالحه الذاتية الموغلة فى الخصوصية، فيسعى دوماً للحيلولة دون تحقيق غايات هذه الإرادة، مدفوعاً بتناقض مصالحه الخاصة مع المصلحة الجماعية الكلية للشعب. الأمر الذى يدفعه لبذل كل طاقته و إمكاناته لمنع، هذه الهيئة من إداء مهمتها و وظيفتها الدستورية، و من ذلك حرص الإنقلابيين الدائم و المقيم، على إبتدار بيانهم الأول بحل و إلغاء هذه الهيئة المنتخبة من الشعب، رغم حديثهم الكاذب والخادع فى حيثيات البيان، بأنهم جاءوا من أجل من إنتخبها. و يلفت ما تقدم ذكره بعاليه، النظر إلى ما نسميه بالبروز الواضح للمحتوى الحقوقي والقانونى للصراع السياسي الاجتماعي، الدائر فى السودان، ويتجلى فى ثنايا ما يطرحه الصراع من أسئلة: مثل من يحكم السودان؟ بمعنى أى القوى السياسية (منفردة أو متحالفة) هى الأكثر تأهيلاً وقدرة على تولى إدارة شئون البلاد، بما يحقق مصالح غالبية أهلها. وكيف يحكم السودان؟ بمعنى على أى أساس من التشريع يمكن لهذه القوى أو تلك، أن تدير تلك الشئون؟ و هما سؤالان محوريان فرضا وجودهما فى مقدمة أجندة مختلف القوى الاجتماعية - السياسية المتنازعة، وشكلا مع غيرهما من إستفهامات، أهم وأبرز موضوعات الصراع الاجتماعى - السياسى والفكرى، عشيّة الاستقلال، وبعده فى سياق إجتهاد مختلف القوى لابتدار، مشروع التأسيس الدستورى، والقانونى للدولة السودانية المستقلة. و لا يزال هذان السؤالان يحتلان موقعهما المتقدم فى قائمة كبريات قضايا الوطن، ويشغلان أذهان المهتمين والمعنيين بتلك القضايا، ويلحان فى طلب التوفر عليهما، بالنظر والتمحيص والتدقيق، و من ثم، شحذ الفكر وكدح الذهن كدحاً فاعلاً و خلاقاً، لإيلائهما ما يستحقان من نظر و جهد وبذل، سعياً حثيثاً ومسئولاً للبحث عن إجابات شافية كافية لهما.
إتفاقية نيفاشا و دستورها الإنتقالى مطايا
الإسلامويين لشرعنة دولتهم الشمولية واستدامتها.
(2)
فى هذا الجزء نواصل، ما إبتدرناه فى الجزء الأول، من المقال المنشور فى العدد (2295 وتاريخ 28/11/2010م) من هذه الصحيفة، تحت عنوان (الدستور الإنتقالى دمكتاتورية "فزاعة طير" الشمولية")، و موضوعه هو تقصى مقصد مشرّعيى الدستور الإنتقالى، و ما أفضى إليه عملياً سريان و نفاذ مقصوده، من نتائج و مآلات، تتمثل فى الواقع والوضع دستورى الراهن، و هو النقيض التام و المطلق، لتوقّعات غالبية السودانيين، و مطالبهم و أحلامهم و أشواقهم المشروعة، فى العبور من قيد و سجن، دولة أيديولوجيا الإسلام السياسي، الشمولية القابضة والقامعة، إلى آفاق و رحاب و سعة، دولة المواطنة والحريات الديمقراطية، الكافلة للمساوة والعدل والإنصاف، و الباسطة لحقوق الإنسان وسيادة حكم القانون.
و عند الحديث عن الدستور، تتداخل و تختلط عادةً، جوانبه السياسية، من حيث هى تأريخ لصراع الأفكار و الرؤى والأطروحات، بجوانبه القانونية، من حيث هى تشريعات، حتى يكاد يتعذّر فك الإرتباط، فى التناول والعرض، بين الجانبين المذكورين. و يرجع ذلك فى تقديرى، لاتصال الجانبين ببعضهما البعض، إتصال قرار، كما يقال، أى إرتباط كلٍ منها بالآخر، إرتباطاً عضوياً لا إنفصام معه، يصعب معه الحديث عن أحدهما، بإستقلال أو بمعزلٍ عن الآخر. و لهذا السبب بالذات، باءت كل محاولاتى، للإختصار والإيجاز فى المقال، بالفشل الذريع، لا سيما وقد تبدى لى جلياً و ساطعاً، أن بعض مشرّعيى دستور السودان الإنتقالى لسنة 2005م، لم يقصدوا بتشريعه، ما يقصده المشرّع المحايد والمنصف والعادل بالدستور، بل قصدوا به (تحصيل الحاصل) و هو تعزيز وتعضيد، مكاسبهم السياسية والإقتصادية، المتحصل عليها بقوة السلاح، فعمدوا إلى جعل الدستور حارساً، لما حققوه من مكاسب، طوال مدة إستئثارهم بالحكم، وإنفرادهم بإدارة شئون البلاد والعباد، بتكريس ذلك الإستئثار والإنفراد، و إكسابه شرعية ظل يفتقر إليها منذ ساعتهم الأولى فى الحكم.
فليعذرنى القارئ العزيز إذن، إذا أثقلت عليه فى عرضى للخلفيات السياسية، بإستهلالات مطوّلة، مع الإفاضة والإسهاب فى بعض الجوانب، و لتشفع لى عنده، أنها ضرورات إقتضتها كلها طبيعة المقال، و حرصى الزائد و الأكيد، على تغطية ظاهرتين بالعرض والمناقشة، رأيت لزوماً عليّ تغطيتها تفصيلاً، فى ثنايا المقال لأهميتها البالغة، فى إيضاح كافة جوانبه ، ويمكن تلخيصها فى:
(*) خلاصة أبعاد و ملامح الصراع الفكرى والسياسي، حول صيغة التشريع الدستورى، الأنسب للدولة السودانية، منذ ما قبل الإستقلال.
(*) أثقال الحمولة الأيديولوجية، التى ظل يرزح تحت وطأتها دائماً، تفكير النُخَبْ الطامعة فى الإنفراد بالحكم، والساعية، من ثم، للحلول محل المُشَرِّع، بغرض صياغة مصالحها الخاصة و أحلامها و أطماعها، وتخريجها فى ثوب تشريعات، شوهاء و قاصرة و معيبة، كالدستور الإنتقالى، بقصد فرض إرادتها، و بسط سلطان حكمها، بديلاً لإرادة وسلطة الشعب، أو بالأحرى نفياً كلياً لها.
كنا قد توقفنا، فى الجزء الأول من المقال، عند القول بضرورة البذل و النضال، و وجوبه اللازم حتماً من أجل فتح الطريق، أمام القوى الوطنية لاستكمال بناء و تأسيس، الدولة السودانية هيكلةً وتشريعات، و قلنا أن التحدى الأساس، الذى ظل يواجه، القوى السياسية والإجتماعية المختلفة، فى بلادنا منذ نيلها الإستقلال فى العام 1956، وحتى لحظتنا هذه من يومنا هذا، هو واجب إنجاز التشريع التأسيسي للبلاد، و هو الإتفاق و التواثق، على التشريع الدستورى و القانونى، الأنسب والأفضل للسودان، لتأسيس وطن موحد، يسع كل تعدد و تباين مكونات شعبه، الحضارية و الاثنية والدينية والثقافية واللغوية، المتنوعة والمتباينة؟؟ و يشهد تاريخ السودان السياسي، منذ فجر الحركة الوطنية، بأن كل الأزمات العواصف، والتحولات الكبيرة التى تعقبها، تضع القوى السياسية، أولاً وقبل كل شئ، أمام هذا التحدى، وجها لوجه، مما يضطرها إلى اللجوء لمعالجات إستثنائية عجولة، ذات طبيعة مؤقت، لا تكتسب صفة الدوام والإستمرارية، حتى كاد الإستثناء أن يكون هو الأصل، كما سنوضح لاحقاً.
و تتبادر إلى الذهن هنا، العديد من الإستفهامات الحائرة والمربكة، من قُبَيْل لِمَ إمتنع و إستعصى أصلاً، على شعب كشعب السودان، رغم تصرّم ما يربو على نصف قرن من إستقلال بلاده، إنجاز ما أنجزه غيره من الشعوب، بسهولة ويسر و فى وقت قصير ؟؟ و ما هى التعقيدات و الصعوبات الفعلية، التى حالت، و تحول دون إنجازه هذه المهمة حتى اليوم؟! و دونما تبسيط و إستسهال للمهمة، أو أى ميل لإنكار العقبات و الموانع الحائلة دون إنجازها، أو أى محاولة للتقليل من شأن التعقيدات المحيطة بها، يمكننا القول بأن إجماع سواد السودانيين، على دستور ممكن ومتاح من الناحية الموضوعيةً، ليس هذا فحسب، بل هو متحقق الثبوت بالعهود والمواثيق، ما لم يلجأ البعض، إلى النكوص والإزورار عما خطه، بيمينه نهاراً جهاراً، لينكره حينما يدلهم الليل. و أول أدلة الإثبات هو الإتفاق الطوعى للأغلبية الغالبة من السودانيين، فى أحزابهم و نقاباتهم وإتحاداتهم، و سائر منظماتهم المدنية الفئوية والإقليمية ....إلخ، فيما تطرحه على الناس من رؤى و أفكار و برنامج، علي دستور الدولة المدنية، الديمقراطى الطابع و العلمانى السمات، القائم على المساوة التامة تأسيساً على حق المواطنة، و عدم التمييز بين مواطن و آخر بسبب، الدين أو العرق أو الثقافة أو اللغة .... إلخ. وثانى الأدلة هو دستور السودان الإنتقالى، (صنع الإسلامويين مع الحركة)، و قبله ميثاق أسمرا للقضايا المصيرية (صنع المعارضة)، ، ثم دستور 1998م (صنع الإسلامويين منفردين)، رغم ما يشتمل عليه من نصوص، حمالة أوجه و مفخخة، و يعتورها غموض و إلتباس مقصودين لذاتهما، من لدن مشرّع سيئ النية والطوية.
و يلحظ أنه لم يخالف ما أجمعت عليه، هذه القوى السياسية المختلفة، أو يخرج عليه، في كل المراحل السابقة منذ الإستقلال، أحد سوى الإسلامويين، مهندسى الدستور الإنتقالى الحالى، وقبله دستور 1998م، و هما وثيقتان تقران فيما يرى القارئ، التعددية الفكرية والسياسية والدينية، وحرية الإعتقاد والرأى، كما تقران بحق غير المسلم، فى الولاية العامة والخاصة. و لا يسبعد بالطبع ، أن يكونوا قد أظهروا فى كلتا الوثيقتين، كدأبهم دائماً عكس ما يبطنون. بيد أن مجرّد قبولهم و إقرارهم النظرى بهذه المبادئ، يعنى أن رفضهم لها فى السابق، لم يكن على سند من الدين و ثوابته، بقدر ما كانت تعبّر عن تكتيكات خادمة لمصالحهم السياسية، هذا من جهة، و من جهة أخرى، فإن العبرة فى التشريعات – و منها الدستور - بظاهرها، وليس بما يبطنه و يحرص على إخفائه، مشرّع الإسلامويين من قصد، لا سبيل إلى التعرف عليه إلا بإستنطاق، خبايا نفسه الخبيثة، وفض مغاليق صمته المنافق.
و يحدثنا هذا الظاهر الماثل اليوم، (بلسان وشفتين)، أن نصوص التشريعات الدستورية، التى توصلوا إليها و هم فى الحكم، منفردين أو مؤتلفين مع غيرهم، و سواء كان بطوعهم و إختيارهم، أو مجبرين مكرهين، مطابقة فى سمتها و ملامحها العامة، لذات نصوص تشريعات دستور، الدولة المدنية التى تكفل الحقوق على أساس المواطنة، لا الدين كما يزعمون فى دعايتهم للكسب السياسي، كما تقر صلاح و كفاءة غير المسلم على المسلم فى الولاية عامها و خاصها. إذن فدستورهم لا يختلف عن غيره، من الدساتير المدنية فى شئ، إلا بمقدار ما عرفوا به دائما، من ذهول عن الحق، و إلتواء عن الصدق مع النفس والآخرين، و مجانبة الإستقامة على جادة، التقوى و سراطها المستقيم، و من أمثلة ذلك النص على حقوق لا يؤمنون بها، مع تبييت النية على عدم كفالتها لمستحقيها للتمتع بها، بل و ردع كل من يطالب بها، ( الحقوق الواردة فى وثيقة الحقوق فى الدستور الإنتقالى). و تجدر الإشارة هنا إلى السمة المائزة لتشريعات الإسلامويين، التى أصدروها خلال حكمهم، وهى ظاهرة تفخيخ النصوص، و حرصهم الدائم على دسهم السُمٍ، فى دسم نصوص التشريع، لتفخيخها بالإمعان فى إخفاء المعنى المراد منها، تحت ركام من (عويش) اللغة الرخوة الفضفاضة، التى تعنى كل شئ، ولا تعنى شيئاً فى ذات الوقت، لإستغلال و توظيف غموض النصوص، و ضبابيتها عند الإقتضاء، لمصلحتهم السياسية الدنيوية.
و فى تقديرنا أنه يجب إنتباه و تفطن الناس جيداً، إذا كانوا معنيين بأن يستقيم أمر البلاد و العباد، إلى مثل هذه الألاعيب الشيطانية، التى يمارسها الإسلامويون بمقدساتهم الدينية، و أن يسعوا إلى وضع حدٍ فاصلٍ، بين مقدسات دينهم، من جهة، وممارسة الإسلاميين السياسية، الموسومة بالأخطاء والقصور والعيوب، كغيرها من أفعال البشر الخطاءين، من جهة أخرى. و أن يحولوا دونهم و دون العبث بثوابت معتقدهم، بمنعهم من توظيف وتسخير الدين، لخدمة أغراضهم الدنيوية و مكاسبهم السياسية، التى لا علاقة لها بمقدساته و قيمه العليا و مثله السامية، بل لا علاقة لمسلك و خلق أصحابها الإسلامويين، بالإستواء البشرى المعتاد، حتى بمعيار الممارسة السياسية المسئولة و الراشدة.
وهكذا وبإستخدم شعارات الحاكمية لله التى إستعاره منظروهم من أيديولوجيا حكام بنى أمية، وتحت غطائها حالت قوى الإسلام السياسي، دون وصول القوى الوطنية، إلى الإتفاق والتواثق على التشريع الدستورى، الأنسب والأفضل للوطن، بتمترسهم المتعسف المتزمت و المتعنت، فى خندق برنامجهم و شعاراتهم، رغم خطلها و عوارها الباين، و إبتزازهم المنظم تحت رآياتها لقيادات وقاعدة، الحزبين الطائفيين الإتحادى و الأمة، لإرهابها بالدين و ترويضها و إستقطابها، بالمزايدات عليها، بخطاب ديماغوغى مخادع و مراوغ، ظاهره التمسك بالشريعة الإسلامية، كدستور لدولة دينية، تُحْكَمُ البلاد بموجبه، وفقاً لديانة أغلبية السكان، كما فى دعوتهم، و دون أدنى مراعاة أو إعتبار لديانات و معتقدات أقليتهم، وبالتجاهل التام لواقع السودان، المعروف بالتعدد و التنوّع العرقى والدينى والثقافى و اللغوى .... إلخ لسكانه. أما باطنه فقد كشفته التجربة العملية، وهو إقامة دولة الطفيلية الإقتصادية الإسلاموية، كالقائمة اليوم فى السودان، لتكريس الظلم والإثم والعدوان، على الشعب، و الإغتناء و مركمة المال، بنهب ثرواته و إفقاره و تجويعه، تحت حراسة و حماية جهاز الدولة البوليسية، المنشأ خصيصاً لهذا الغرض.
و من نتائج هذه المخاتلة والإزدواجية الماكرة، أن إحتدم الصراع والنزاع بين، أنصار الدستور العلماني المدني و (الديمقراطي) الطابع، من جهة، وأنصار الدستور الديني (الثيوقراطي) السمات، من جهة أخرى، طوال سنى ما بعد الإستقلال، وفى أتون هذا التناحر والتجاذب بينهما، فشلت مختلف النخب السياسية، التى تعاقبت على الحكم فى السودان، بمختلف مكوناتها سواء كانت منتخبة أو مغتصبة للسلطة، منفردةً أو مؤتلفةً، فشلاً ذريعاً فى صياغة وإجازة دستور دائم للسودان، يتواثق عليه أغلبية السودانيين، ويحظى برضائهم الطوعي، وقبولهم الاختياري. فكان أن تميز تطور تاريخ السودان الدستوري، بظاهرة لم يشهد لها تاريخ الشعوب ودساتيرها، فيما نعلم، مثيلاً أو شبيهاً، وهى أن ظل السودان محكوماً منذ قبيل الاستقلال حتى تاريخه، إما بدساتير انتقالية ومؤقتة، أو بتعديلات تعديلاتها الانتقالية المؤقتة أيضاً، فى أفضل أحوال أوضاعه الديمقراطية، تتخللها أو تتقاطع معها بالأحرى، عهود النظم العسكرية، التى انقلبت على خيار الشعب و إرادته، لغير ما سبب سوى الخروج على الشرعية الدستورية، ولإبطال أحكام هذه الدساتير الانتقالية وإلغاء العمل بها بقوة السلاح، وإعلان الرجوع مرة أخرى، إلى الحكم بما يعرف، بالأوامر الدستورية/ الجمهورية و غيرها من الأحكام العرفية الإستثنائية.
أما الوثيقتان الدستوريتان، اللتان أراد لها أصحابها، نفى صفة الانتقالية عنها، والتمسا لها إكتساب صفة الاستمرارية و الديمومة، فقد صدرتا من هيئات لم ينتخبها الشعب، ولا تمثل إرادته الجماعية و تفتقر إلى التفوّيض الشعبى، بل شكّلتها وصنعتها، أبشع أنواع الحكم العسكرى الشمولى، وأكثرها استبداداً وعنفاً ودموية. وكانت أولاهما الوثيقة المسماة، بدستور السودان الدائم العام 1973م، وأرد بها أصحابها محض تكريس حكم الفرد المطلق، فألقى الشعب بها وبهم معاً فى مزبلة التاريخ، فى انتفاضة مارس ابريل 1985م الشعبية. أما الثانية وصدرت عام 1998م وكانت حصاد التكذب للتكسب بالدين، لما يربو على نصف قرن من الزمان، من خداع الناس بشعار الإسلام دستور الأمة، بينما قصد به أصحابه، كما يؤكد واقع الحال اليوم، تكريس الحكم الشمولي لدولة الطفيلية الاقتصادية الاسلاموية. فلاقى دستور 1998م، الموصوف بالدائم، زوراً و بهتاناً، نفس مصير دستور 1973م، و ذلك عندما نكث غزله واضعوه أنفسهم بأيديهم صاغرين، فى ملابسات التراجع والنكوص، عما يزعمون أنها ثوابت لهم، و تخليهم عن شعاراتهم معها - (و تمزيقهم فواتيرها)، كما يقولون بألسنتهم الزلقة السالكة، فى لغة سَوَقَةْ الطفيلية الرأسمالية ودهمائها - لأجل المواءمة السياسية، و محض البقاء فى الحكم.
و لعل و صول الإسلامويين، إلى إتفاق نيفاشا ودستورها الإنتقالى، يمثل أحد أبرز الأمثلة و أكثرها جلاءً، لكيفية توظيفهم مبادئ و شعارات دينية، بدعاوى و جوب التسليم التام بها، و الإمتثال المطلق لها، كتعاليم سماوية لا خيار للبشر فى رفضها، بل متعيّنُ عليهم فرضاً، تطبيقها على سبيل اللزوم الحتمى. ولكنهم و ما أن تواجههم معضلة دنيوية، تضعهم أمام خيارى التمسك، بما يزعمون أنها ثوابتهم الدينية، و خسران الدنيا ومكاسبها السياسية، حتى يتراجعون عن تمسكهم بثوابتهم المزعومة طوعاً و إختياراً، نزولاً عند مقتضيات المواءمة السياسية، و متطلبات الكسب الدنيوي المحض. و يستدعى مسلكهم فى التخلي هكذا عما يزعمون أنها، ثوابت لهم ، لا سبيل إلى تغييرها أو تبديلها، كدستورهم الإسلامى، تعيد إلى الأذهان، سناريو وقائع القصة المروية عن ضحك أمير المؤمنين، سيدنا عمر رضي الله عنه، فى حضرة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، عندما استدعت ذاكرته بعض أفعاله فى الجاهلية قبل دخوله الإسلام. ومنها اضطراره يوماً وهو يقطع بعض أنحاء صحراء جزيرة العرب، لالتهام معبوده – الصنم، المصنوع من العجوة، قطعة فقطعة، اتقاء خطر جوع داهمه، فى أرض وصفت بأنها، واد غير ذى زرع. وهنا و لئن التمسنا العذر، للفاروق فى جاهليته، سواء كان ذلك بمعايير وثنية معتقده حينذاك، أو تحت عمومية قاعدة، الضرورات تبيح المحظورات، فأين نجد العذر لمن يفعلون، بمبادئهم و ما ظلوا يرددونه من شعارات (كاذبة و مضللة) كتحكيم الشريعة، ( شريعة سريعة ولا نموت الإسلام قبل القوت)، ما فعله سيِّدنا عمر الفاروق بصنمه معذوراً، و بدلوها بغير عذر شرعى، و لمحض ضرورات التواءم السياسي، و دونما أدنى ضرورة (دينية) أو حتى شبهتها، بما أسموه بدستور السودان الدائم لسنة 1998م، و ما كانت نصوصه من آيات القران الكريم، أو أحاديث الرسول (ص)، بل كانت من صنع أيديهم، و لأجل تثبيت دعائم حكمهم و تحقيق دوامه، بموجب فقه الضرورة،. و ليس سراً بالطبع أن قد تضمنت بعض نصوصه، أحكاماً حاججهم فى شأن مخالفتها للقرآن و السنة، بعض أصحاب الفرق والطوائف الإسلامية، المنافسة لهم. أما بمعايير التشريعات الدستورية الوضعية، فإن دستور 1998م قد جاء مشوباً بالقصور و النقص و بعيوب، تعييّ عن الحصر، و إتسم بالتناقض كالنص على حق الإختلاف والتعدد والتنوع، وربطه بالتوالى أى موالاة الحاكم. و ليس غريبا بالطبع عجز و قصور دستور 1998م الظاهر، فهو ضعف موروث وملازم كالظل لفكر و ممارسة الإسلامويين، منبعه التناقض بين ما يدعونه من نسب بالإسلام وقيمه العليا، وخسة نواياهم و دناءة مقاصدهم الغارقة فى طمع الإغتراف دوماً، من ملذات الدنيا، والتمتع بأصناف طيباتها، بكل حيل التكذب بإسم الدين، والتكسب والإراتزاق به. تجدر الإشارة إلى أن اللجنة المكلفة بصياغة ديباجة، الدستور المذكور، قد تبرأت منها قائلةً: (أن المسوّدة سلمت إلى السلطان بقصره، تحوى دستوراً ديمقراطياً و قومياً، وخرجت منه دستوراً محرّفاً و مختلفاً، إستعاض عن إقرار التعددية الفكرية والسياسية، بالتوالى بمعنى موالاة الحاكم). و جاء فى حيثيات تبرؤ اللجنة المذكورة، من ديباجة الدستور، أنها بعد تحويرها و وتبديلها، لم تعد تمثل ما توصلوا إليه، و بالتالى فهى غير مسئولة عنها. وقد صرحت اللجنة بذلك علناً. ولا حظ الناس أن ديباجة الدستور التى خرجت من القصر، بعد السنسرة وإعادة الصياغة، لم تعد تلائم أحداً سوى السلطان وحزبه، و لا تحقق إلا إستمرار حكمهم، و لا تخدم إلا رغبتهم فى تكريس الشمولية والإستبداد. و لمن أرد المزيد من البينة على صحة ما نقول، فليرجع إلى مسوّدة دستور 1998م الصادرة من اللجنة المكونة برئاسة، رئيس القضاء الأسبق خلف الله الرشيد، أطال الله فى عمره، و نائبه المغفور له دفع الله الرضى، وعضوية كوكبة من رجال القانون.
و من حيث أنهم يتكذبون بإسم الدين، و يسبغون بالباطل صفة الشريعة الإسلامية، على تشريعاتهم الدنيوية البحتة، فيكفي القول، بأنهم منذ إدخال العقوبات الحدية الشرعية (الست)، فى سبتمبر 1983م، على نصوص قانون العقوبات السودانى لسنة 1974م، ظلوا يمزقون حناجرهم بالأكاذيب، بأنهم أقاموا دولة شرع الله، المحتكمة إلى القرآن والسنة، و يعنى زعمهم هذا أن دستور 1998م، - القانون الأساس للحكم - هو شرع الله أو مستمد منه على أقل تقدير، بيد أن هؤلاء المتكذبين، بشعار (لا تبديل لشرع الله)، عملوا به لبضعة سنوات فقط، ثم ما لبثوا إلا قليلاً بعد نفاذه وسريانه، حتى عادوا، ونكصوا على أعقابهم وبدلوه، لذات متطلبات الملاءمة السياسية الدنيوية، ودون أدنى ضرورة (دينية) أو أقل شبهة منها أيضاً، بدستور آخر من صنعهم أيضا، هو دستور السودان الإنتقالى لسنة 2005م.
صدمت إنتفاضة مارس/إبريل 1985م، والتطورات اللاحقة لها، الإسلامويين صدمةً عظيمة أفقدتهم التوازن، و أدخلت فى نفوسهم رعباً ما بعده رعب، لأسباب كثيرة منها، على سبيل المثال للحصر، أن الحكم الذى أطاحت به، الجماهير الثائرة، و ألقت به فى مزبلة التاريخ، هو حكم إمامهم المتدثر، فى أثواب الإسلامويين و المتبنى لكامل برنامجهم، والمسنود بقسم بيعتهم له، و إلتزامهم بطاعته فى المنشط والمكره. فإنتفاض الشعب إذن، كان ضد الصيغة الإسلاموية، من حكم الفرد المطلق، لا سيما و أنهم كانوا من سدنة النظام المايوى، (بأيديهم المرفوعة بالبيعة)، على قول الراحل الخاتم، حتى لفظهم لفظ النواة، قبل أسابيع من إندلاع الإنتفاضة الشعبية المجيدة، التى أطاحت بولى نعمتهم و إمامهم المخلوع، بينما ذمتهم (التى وسعت كل بيعة) لا تزال مشغولة ببيعته. و توالت عليهم الصدمات، و بلغ بهم رعبهم منتهاه، يوم عاد السيد محمد عثمان الميرغنى، من أديس أبابا يحمل ما عرف بإتفاقية الميرغنى – قرنق، فى نوفمبر 1988م وإستقبلته الخرطوم بالملايين، من الشماليين والجنوبيين، المؤيدين للسلام و الوحدة، على أساس التنوع الإثنى والدينى و الثقافى و اللغوى. يومها أدرك الإسلامويون وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم، أن التحالف الذى بدأت تتشكل ملامحه فى الأفق، تحت رايات إتفاقية الميرغنى – قرنق، إذا إلتأم و تحقق وجوده، فهو لا محالة واضع نهاية أحلامهم و طموحاتهم كتنظيم سياسي. فقرروا إستباقه بإغتصاب الحكم و الإستيلاء عليه، غلاباً و إغتصاباً، لقطع الطريق، على توحد قوى سياسية و إجتماعية واسعة خلف، إتفاقية سلام الميرغنى – قرنق 1988م، بالحيلولة بينها و بين تحقيق مقاصدها، و منها إنعقاد المؤتمر الدستورى، الذى قرر أطراف الإتفاقية المذكورة، إلتئامه فى ميقات معلوم، جاء إنقلابهم المشئوم إستباقاً له.
بعد عقد و نصف من حكم الإسلامويين الشمولي، توصل الخصمان الألدان المؤتمر الوطنى، والحركة الشعبية، إلى إتفاقية سلام نيفاشا، بعد طول إحتراب و إقتتال، بين أبناء الوطن الواحد، إشتعل أواره قُبيْلَ الإستقلال، و فاقمه الإسلاميون (بما إستطاعوا من تكذب و نفاق و إفك)، بإسباغ صفات الجهاد الدينى عليه، لتوظيف البلاد و أهلها و مواردها، لتصفية حساباتهم الأيديولوجية ضد الحركة الشعبية كخصم فكري و سياسي، ليس فى فضاء الصراع الفكرى والسياسى المعلوم، بل فى حرب حقيقية تدور رحاها، فى ميادين المعارك وبالأسلحة النارية و الذخيرة الحية. و لما خاب رجاءهم و وهنت عزيمتهم و خارت قواهم، لجأوا إلى الصلح والتسوية السياسية، مرغمين و أنوفهم فى التراب. فقبلوا التفاوض و التسوية السلمية، مع الحركة الشعبية. و لا شك فى أن ما استدعى ذلك، و فرض على الطرفين الوصول إلى الإتفاق، على ما جاء بإتفاقية سلام نيفاشا، و الدستور الإنتقالى لسنة 2005م، هو إستفحال و تفاقم أزمة الحكم، و إزدياد حدة التوتر و الصراع و الإستقطاب، بين محورى نظام الإسلامويين، من جهة، ومناوئيه ومناهضيه من قوى المعارضة، بشقيها المدنى والعسكرى، من جهة أخرى. و كان لإتساع نطاق جبهة المعارضة، و إستعار المواجهات العسكرية، بين أقسامها المسلحة، من جهة، والنظام، من جهة أخرى، دوره الفعّال، لإجبار الأخير بقبول التراجع مؤقتاً، و لو على سبيل الغش و الخديعة، عن دولة مشروعه الحضارى، التى كان قد إنتوى أن يحمل الآخرين علي الخضوع لها عنوة وعلى مراعفهم، لا سيما وقد صار نظامه محاصراً، بسيوف و رماح الثائرين عليه، من الجنوب والغرب والشرق.
و فى إعتقادنا أن إتفاقية، نيفاشا كانت سانحة عظيمة ، واتت البلاد و هى فى أمس الحاجة، إلي إغتنامها و إهتبالها كفرصة نادرة، لدعوة الجميع دون إستثناء أو إقصاء، للجلوس والتفاوض حول، كل القضايا السودانية المستعصية، و بحث حلولها وتسويتها سلمياً، ومن ثم الإتفاق والتواثق، على ما يتراضى عليه سواد السودانيين، من شروط تنظم وتحكم، تساكنهم الأخوى والإنسانى فى الأرض كشعب واحد، وتلبى كافة تطلعاتهم و طموحاتهم و أمانيهم. وما فوّت على السودانيين هذه السانحة، إلا سوء طالعهم المتمثل فى خضوع بلادهم، فى ذاك الوقت، لحكم الإسلامويين، فاختاروا بطمعهم و أنانيتهم وجشعهم المعهود، إستثمار أزمة الوطن و محنة شعبه، و توظيفهما و تسخيرهما بالكامل، لخدمة مصالحهم الحزبية الضيقة، فحرموا البلاد من فرصة غالية واتتها فى ظروف مواتية، فقط لأجل مواصلة إستئثارهم بالحكم، و إستدامة بقائه، ضد إرادة ورغبة الآخرين، وبالرغم من خيبة وفشل دولة مشروعهم الحضارى البائس الموؤد.
فبسبب تعنت المؤتمر الوطنى و إصراره، على التسوية الثنائية، المعزولة من السند والعضد الشعبى الداخلى، ذهبت أدراج الرايح كل محاولات القوى السياسية، لتوسيع دائرة المشاركة فى التسوية السلمية، الهادف إلى تمديد مظلة الإتفاقية، وتوسيع دائرة المشمولين بوارف ظلها، الذى كان بالإمكان أن يغطى الوطن بأكمله. و كان من شأن ذلك أن يؤمن لها الضمانات الأهلية المطلوبة، ولكن يبدوا أن تعوّيل طرفيها على الضمانات الدولية، كان أكبر من تعويلهما على الضمانات المحلية الوطنية. وربما كانت هذه هى المرة الأولى، منذ رحيل الإدارة الإستعمارية أن يرهن حاكم الإرادة الوطنية للأجنبى، بعدها تم تدويل كل شأن سودانى، و أصبح التفريط فى الوطن وسيادته، هو القاعدة. ورغم ذلك باركت القوى السياسية المختلفة الإتفاقية، بحسبان أنها أوقفت نزيف الدم، بين أبناء الوطن الواحد، وفتحت الباب أمام الحوار السياسي، لتسوية النزاعات المسلحة بين الحكومة والمعارضة، بالتفاوض السلمى لا بالحرب و الإقتتال.
و رغم علمنا بأن الدستور نفسه، كان نتاج أزمة حكم مستحكمة، و على درجة كبيرة من الشمول والعمق والإتساع، نقول أن نيفاشا كانت فرصة ذهبية لإقرار مبدأ الحوار والتسويات السلمية للنزاعات السودانية الشائكة، والإتفاق على حلول سياسية لها. و ذلك لثقتنا فى قدرة الشعب، إذا تحرر و ملك ذمام أمره بيديه و إتحد، فى الخروج كما عهدناه من أعقد الأزمات متماسك البنيان حول قيادته، و محتشد الصفوف خلف مطالبه و برامجه وأهدافه، فبوصلة الشعب تشير دائما إلى الإتجاه الصحيح، و لا يضل أبدا من يقرر السير في وجهتها. ففى ظل معطيات المشهد السياسي، التى ضاعفت من حدة الإستقطاب و الإحتقان السياسي والعسكرى معاً، حتى طالت كل جوانب الحياة، كانت حكمة الشعب ستشير حتماً، أن يكون أول ما يعالجه مشرّع الدستور الإنتقالى، هو إنهاء ما كان عليه الحال قبله، من وضع دستورى وسياسي مأزوم و مرفوض، و إبتدار الحوار مع كل أطراف المعارضة دون إستثناء، للوصول لحلول عادلة و منصفة لكافة قضايا الشعب بمختلف مكوناته، بما يضمن تحقيق التعايش السلمى بينها، على أساس من العدل والمساواة والنصفة. بحسبان أن ذلك هو السبيل الوحيد، لإزالة كل أسباب و مبررات، الإحتقان السياسى والإجتماعى والعسكرى، و وضع حد للصراعات المحتدمة، و الحروب المستعرة بين الشمال والجنوب، التى ما لبثت أن إمتدت نيرانها، لتغطى الغرب من دارفور وحتى جنوب كردفان، والشرق من جنوب النيل الأزرق، وحتى حدود كسلا و همشكوريب. ونضيف أن ما يفترضه الناس فى أى حاكم راشد و سوى - صرف النظر عن كيفية صيرورته حاكماً- و ما يفترض أيضاً فى كل إنسان مسئول، مهموم بمصلحة وطنه، وسلامة و أمن شعبه، فى مثل هذه الحالة، هو التفكير الجاد، و على سبيل الأولوية، فيما ينهي الصراع الدموى حول السلطة، و يمهد الطريق لتحقيق السلام و المحافظة على إستدامته، بتواثق و تعاهد الأطراف المتنازعة و المتصارعة، علي وثيقة تشريعية ناظمة و كافلة و ضامنة للحقوق المتنازع عليها بينهما، كمسوَّدة دستور إنتقالى مثلاً، تضع الخطوط الرئيسة، المتفق عليها، لإعادة ترسيم ملامح مستقبل الوطن، على نحو تقره و تقبله طوعاً و إختياراً، وبملء إرادتها، كافة مكونات شعبه، كأساس لتساكنها السلمى الأخوى والإنسانى فى البلاد، تحرسه و تحميه ضمانات دستورية، كافلة للأمن و السلام الإجتماعيين للشعب، وما إلى ذلك من ضرورات إسترداد الثقة، بين كافة عناصر مكوناته المختلفة، وبسط الطمأنينة والإستقرار فى البلاد، كشروط و متطلبات ضرورية لازمة، لإعادة بناء الوطن وتنميته وعمرانه.
و تجدر الإشارة أيضا، إلىً أن إستفحال و تفاقم أزمة الحكم، التى أعقبها صدور الدستور الإنتقالى، لم تكن تجربة جديدة، يخوضها شعب السودان لأول مرة، بل تعرض طوال مسيرته للكثير من مثيلاتها، وله بالتالى خبرات و تجارب ماثلة و حيّة، فى الإجتماع والتوافق على صيغ دستورية، أعانته على الخروج من الأزمات السياسية العصيبة، و أفلح فى تجاوز تداعيات تفاقماتها الحرجة، بالإتفاق الجماعى على تشريعات دستورية، فى الأعوام (1953- 1956 – 1964 – 1985)، مكّنته من العبور بها سالماً إلى بر الأمان، و حفظت للبلاد وحدتها وتماسكها.
بيد أن إصرار المؤتمر الوطنى، على ثنائية، التفاوض على الإتفاقية والدستور، و إستماتتة لقصر التسوية عليه والحركة الشعبية حصراً، دون غيرهما من مشاريكيهما فى الوطن، من قوى سياسية وإجتماعية ونقابية، وسائر منظمات المجتمع المدنى، كان يشير على نحو واضح، إلى أن ما بيّته المؤتمر الوطنى ، من قصد بإتفاقية السلام والدستور، هو غير ما إفترضناه بعاليه، وأنه كان يظهر شيئاً، ويضمر عكسه. ويؤسفنا تقرير أن نفس القول ينطبق، وإلى حدٍ كبير، على الحركة الشعبية، لا سيما وقد تنصّلت فيما بعد، عن كل مبادئها و شعاراتها، المنادية بالحريات الديمقراطية كحقوق عامة، و بالسودان كوطن واحد، و إنكفأت على الجنوب تروم فصله الإنفراد والإستبداد بحكمه، تماماً كما يحلم المؤتمر الوطنى، بالإنفراد والإستبداد بحكم شماله.
و فى تقديرنا والأمر كذلك، أن دستور السودان الإنتقالى، لا يعدو كونه إحدى المحاولات، التى إجترحت فيها قوى سياسية معينة، وثيقة دستورية حاكمة، فى ظروف موضوعية - خارجة عن إرادتها –، بغرض إحلالها محل أخرى، تراضياً أو كرهاً (كما فى حالة المؤتمر الوطنى)، لكون هذه الأخرى مصادمة لمصالح القوى السياسية المختلفة، و لا تلائم تطور الأحداث السياسية الماثلة، و لذلك لم تعد مقبولة لدى أغلبية الشعب، و لا تعبّر عن رغباتها و طموحاتها، و تتعارض مع المزاج و المناخ السياسي السائد. و بالتالى يستحيل بقاءها و إستمرار العمل بها. و مع أن تجربة صياغة و إجازة الدستور المذكور، جاءت فى ظروف أزمة سياسية أشدُّ خطورةً وأكثر تعقيداً، من سابقاتها المار ذكرها آنفاً، فإنها شذّتّ عن سابقاتها من تجارب الدساتير الإنتقالية، سالفة الذكر شذوذاً بيناً. و ذلك بسبب ثنائية صياغته و إجازته، و قصر تسوية الأزمة العامة المستفحلة، على مقاس قامة حزبين فقط، أحدهما فى السلطة، يديرها بقوة السلاح، والثانى ينازعه فيها بقوة السلاح أيضا. الأمر الذى يؤكد أن القصد من هذه الثنائية،
التى إستمات فى التمسك بها، المؤتمر الوطنى، هو فرض إستئثارهما وإنفرادهما بقطاف ثمار فوائد التسوية لوحدهماً، كمحاصصة السلطة والثروة، كما ورد فى الوثيقتين، أما بقية القوى السياسية والإجتماعية فخرجت خالية الوفاض، و لذا كان من الطبيعى، أن أفضى الدستور الإنتقالى، إلى نقيض ما أفضت إليه، سابقاته من الدساتير الإنتقالية، التى نجحت فى معالجة الأزمة الرئيسة ولو جزئياً، على مستوى الإتفاق على التشريع، الناظم لإدارة شئون الدولة، وبذلك حفظت و حدة الوطن و تماسكه.
و على خلفية ما تقدم عرضه، من مواقف سياسية، نحاول إذن إستكشاف و إيضاح مقاصد و نوايا الشريكين، بلإتفاق على الوثيقة المسماة، بدستور الإنتقالى لسنة 2005 م ؟؟ لنعرف إلى أى حال أو مآل، أفضت بالسودان و شعبه، هذه الوثيقة؟؟
و للوقوف على هذه المقاصد والنوايا، يجب علينا إبتداءاً، القراءة الفاحصة لما بين سطور أحكام ونصوص الدستور المعنى، للوقوف على حقيقة ما يعرف لدى فقهاء القانون بقصد المشرِّع، لنستبين مقاصد مشرِّعيى وثيقته، و هما المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية، اللذان إنفردا بعمليتى صياغته وإجازته ثنائياً، دون مشاركة القوى السياسية والإجتماعية الأخرى. فالإتفاق الذى هو إلتقاء إرادة المتفاوضين، يمكن إختزال مضمونه، فيما يتعلق بالدستور الإنتقالى، فى إملاءت رغبات و إشتهاءات المؤتمر الوطنى، فى فرض إقصاء ما عداهما من القوى السياسية، و حجب حقها المشروع، فى المشاركة فى صياغة وإجازة الدستور الإنتقالى، و إستجابة الحركة الشعبية المجانية له، و هكذا أقصى ممثلى قوى سياسية و نقابية و إجتماعية، تمثل الغالبية العظمى، من جماهير الشعب السودانى، من مناقشة وإجازة الدستور، على أهميته و خطورته، كوثيقة تشريعية حاكمة، لكل السودانيين دون إستثناء.
بعدها عُرِضَ الدستور الإنتقالى، على ما يسمى بالمجلس الوطنى، (أداة المؤتمر الوطنى لتغيب ونفى إرادة الشعب)، كمحض إجراء شكلى، لأجل إسباغ شرعية شكلية عليه. و أجازه المجلس المذكور، بعد إعادة تشكيله، وفقاً لنسب محاصصة التقسيم، الواردة فى كلٍ من إتفاقية نيفاشا والدستور، وهى (52%) للوطنى، و (28%) للحركة الشعبية و (16%) المعارضة الشمالية و (4%) للمعارضىة الجنوبية أو نحو ذلك... إلخ. و يلحظ أن الدستور وضع عامداً و قاصداً، فى يد المؤتمر الوطنى، نصاب أكبر من الأغلبية البسيطة/المطلقة (50+1%) المطلوبة لإجازة مسوّدة الدستور، أو أى تشريع آخر، يرغب فى إجازته و تمريره، بأغلبيته الميكانيكية فى المجلس. و مفاد هذا هو، أن نسب برلمانيى الحركة، والمعارضة الشمالية والأحزاب الجنوبية الأخرى مجرّد (عدد فى الليمون)، و أن تمثيلها وو جودها تحت قبة المجلس، وقت التصويت على الدستور أو أى تشريع، و تصويتها لإجتازته أو العكس، هو والعدم سواء بسواء.
إذن فالمؤتمر الوطنى، لم يضع نسب المحاصصة عبثاً، و إنما بحسابات دقيقة و بعد دراسة
و تمحيص، بحيث تمكنه لوحده من الإبقاء على ما يطيب له، من أجهزة و قوانين و تشريعات، يعلم أنها كانت مثار نزاع، و صراع بينه و خصومه المعارضين، قبل الإتفاقية و نفاذ الدستور، وهذ يؤكد نيته المبيتة على عدم المساس، بأجهزة و قوانين الدولة الشمولية. و يعلم أقل الناس فطنةً و أضألهم حظاً فى الوعى السياسي، أن التحوّل الديمقراطى، المنصوص عليه فى الدستور، يستحيل تحقيقه بذات جهاز الدولة الشمولية، و قوانينها القامعة والنافية لأبسط الحقوق الديمقراطية.
و لإظهار فساد وعوار الدستور الإنتقالى، يمكننا التطرق عامةً إلى قسمين، من أقسام الدستور الإنتقالى لسنة 2005م، تضمن أولهما نصوص و أحكام (صفقة محاصصة) السلطة بمفهومها الشامل ، الثروة وكافة موارد البلاد، بين المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية حصراً وتعييناً.
ولا يشق على القارئ مطلقاً، أن يقرأ بصمات المؤتمر الوطنى الواضحة، فى هذا الجزء من أحكام الدستور.! و أنظر كيف إتبعوا حرفياً، فى هذه القسمة التى لا تماثلها أو تشابهها، إلا قسمة و توزيع، أموال و أصول و موجودات الشركة المفلسة،على دائنيها عند التنازع، نهج تقسيم أموال المهزومين، كغنائم وفئ، على سيوف و رماح مقاتلى الجيش المنتصر، وفق أعراف القبائل العربية فى جاهليتها، والتى تبناها الإسلام دون تعديل يذكر، كما جاء فى الأثر.
والشاهد أن السودان ليس شركة مفلسة، وشعبه ليس جيشاً مهزوماً، حتى تقسم دولته والسلطة فيها وموارد وطنه، هكذا فيئاً وغنائم، محاصصة بين حزبين سياسيين، لا يمثلان كل السودانيين، بل لا تمثل جملة عضويتيهما الفعلية أو المفترضة، ربع عدد سكانه، حتى بإفتراضنا تجاوزاً أن الحركة الشعبية تمثل كل الجنوب، و بإفتراض أن عدد سكانه لا يقل عن ثمانية مليون نسمة، كما إدعت الحركة، وقت التعداد السكانى المضروب (شراكةً). المؤتمر الوطنى يعرف قصر قامته و ضاءلة حجمه، وضمور نفوذه بين السودانيين، وهذا بالذات هو ما يلجئه إلى التزوير، فى أى إنتخابات تنافسية، من مستوى الجمعيات الطوعية وحتى البرلمان والرئاسة، مستخدماً جهاز الدولة بقضه وقضيضه، وقوانينه الفاشية القامعة. و لا يفعل منتسبوه ذلك، بحسبانه من أخطاء البشر الضعفاء، بل بإستغلال الدين كغطاء شرعى يبرر جنوحهم للأساليب والوسائل الفاسدة والباطلة، فيستصدرون الفتاوى بشرعية الغش والتزوير والخداع، فى التنافس الإنتخابى فى مجال تنظيمات الطلاب أو النقابات أو البرلمان، تحت قاعدة الحرب خدعة وجواز التخذيل بين منافسيهم الفكريين والسياسيين، والسعى للإنتصار عليهم بكل وسائل الغش و الغدر والإحتيال و التزوير والنصب. و قد ظللنا نردد هذا القول طوال عقود، و لا يقابلوه إلا بالإنكار العريض. حتى جاءتهم تأكيدات من إنشقوا عن تنظيمهم، من قياديين سابقين فيه، بشهادات تفصيلية موثقة، دخلت مدونات تاريخ السودان الحديث، نذكر منها، مثالاً دون حصر، كتابات عمار محمّد آدم و المحبوب عبد السلام.
أما الدستور فصحيحٌ أنه، يقر فيما يقر من مبادئ حقوقية، حق الأفراد والجماعات فى تكوين منظماتهم الحزبية والثقافية والنقابية ..... إلخ، و يكفل حق هذه التنظيمات فى التنافس على كسب ولاء المؤيدين، بالطرق السلمية التى يرسمها القانون، ويكفل حقها أيضاً فى الترشيح للتمثيل النيابى عنها. و صحيح أنه يكفل هذه الحقوق مجردة، لكل المواطنين على قدم المساواة دون تفضيل أحدهم على الآخر، لكنه فى كل الآحوال، لا يكون دستوراً ديمقراطياً عادلاً و منصفاً، إذا نص على تقسيم ما يشتمل عليه من حقوق (كقاضى الميراث) أو (كتاجر التجزيئة أو المفرق أو القطاعى) على (المنظمات) أحزاباً كانت أو غيرها، بالموازين والمكاييل والنسب المئوية، كما هو الحال فى الدستور الإنتقالى. و ما جدوى النص فى الدستور، على المساواة والعدل وعدم التمييز، بين المواطنين بسبب العرق والجنس والإنتماء السياسي، إذا نص ذات الدستور سلفاً على قسمة السلطة السياسية والإدارية والتنفيذة والتشريعية، على حزبين سياسيين دون غيرهما من الأحزاب والقوى الإجتماعية الأخرى، حتى إذا تجاوزنا عن حقيقة، أن الحزببين لا يمثلان كل أهل السودان، و أن حق هؤلاء الأخيرين الدستورى، لا يسقط لمجرّد أنهم غير منتسبين للحزبين !، من جهة، و إذا تجاوزنا أيضاً، و من جهة أخرى، عن واقعة أن أحد الحزبين المحتكرين للسلطة دستوراً، لا يمثل فى أحسن إفتراض 2% من تعداد الشعب، ومع ذلك يمنحه الدستور الإنتقالى، نسبة 52% من السلطة التنفيذية والإدارية والتشريعية، و هى أكبر بكثير من نصيب الأسد. و ما جدوى النص إبتداءً، و الحال كهذا، على حق الشعب فى إنتخاب، حكومته ومجلسه النيابى؟؟، و من جهة ثالثة ماذا يعنى، قول الدستور بأن الشعب هو مصدر جميع السلطات، فى ظل محاصصة نصوصه البلاد، بين حزبين أحدهما يحمل الأسلحة الميرية، التى إستولى بها على الحكم، والآخر يحمل أسلحة المعارضة، لمنازعة الأول على الحكم ؟؟.
و صفوة القول أن نصوص الدستور، المتعلقة بمحاصصة السلطة والثروة، بالنسب المئوية الواردة بين دفتيه، بين حملة الأسلحة فى السلطة والمعارضة، تؤكد أن نوايا مشرِّعيه، قد ذهلت بالكلية، عن الشعب و إرادته الحرة كمصدر للسلطات، و إنصرفت إلى بنادق النظام والحركة الشعبية، بديلاً عن إرادة الشعب. الأمر الذى يصح معه القول، أن الدستور المذكور لم يأت بجديد، بل أبقى الحال على ما هو عليه، مع إجراء عملية (تلتيق) كايكاتورى بضم الشتيتين، و فرض لقائهما على مضض لتشكيل نادى الحكم، ثم أدخل بعض التعديلات الشكلية لنظامه، لا تمس جوهر الأزمة، و لا تسهم فى الخروج منها. بل تعيد إنتاجها، و يقينى أننا لا نجانب الصواب، و لو بمقدار خردلة، إذا قلنا أن عام 2005م، شهد تدشين المرحلة الثانية، من إنقلاب 30 يونيو 1998م. أى أعاد إنتاج شمولية حكم الإسلامويين نسخة نيفاشا و دستورها!.
و ما يلفت الإنتباه ويسترعى النظر، فى دستور السودان الإنتقالى لسنة 2005م، هو التناقض الحاد القائم بين ما يدعو إليه ويبشر به نظرياً، و طريقة سنّه و إجازته عملياً. وهو تناقض يعكس كفر واضعيه بمبادئه الأسس، وفى مقدمتها قاعدة أن الشعب، هو مصدر السلطات جميعاً، المنصوص عليه فى الدستور المذكور،. فالسبب الوحيد الذى فرض إنفراد المؤتمر الوطنى، والحركة الشعبية بالتفاوض على الدستور و إجازته ثنائياً، هو – كما أسلفنا القول- كون الأول (المؤتمر الوطنى)، هو الحزب الحاكم بقوة السلاح، و كون الثانى (الحركة الشعبية)، هى المنازعة له بقوة السلاح أيضاً. إذن فالدستور مصمم ليخدم مصالح من بيده السلاح. فشريكا نيفاشا إنفردا، بإجازة الدستور وحكما بموجبه، على سند من قوة كل منهما العسكرية، و هذا ليس تكريساً لمبدأ سلطة الشعب، بل سلطة العسكر عليه، و تعزيز لمبدأ الإنقلاب على، سلطة الشعب بالقوة العسكرية. ويتنافى هذا مع مبادئ الديمقراطية والتدول السلمى للسلطة، الواردة فى نصوص الدستور، وإن شئنا الدقة فإنه يستعيض عن هذه المبادئ، بشعار الزعيم الصينى الراحل، ماو تسى تونغ : (بأن السلطة السياسية لا تنبع إلا من فوهة البندقية) أو كما قال. و يمكننا القول أيضاً أن ظاهر الدستور يناقض باطنه فظاهره هو التظاهر بإقرار حقوق أدى جحدها و إنكارها، إلى الوضع المأزوم و البالغ الخطورة، الذى أقحمت فيه قوى الإسلام السياسي البلاد وشعبها، وفاقمت أزماتها الإقتصادية والإجتماعية والأمنية، بحكمها الشمولى القمعى، و عمقتها و زادتها ضغثاً على إبالة بفكرها الظلامى و سياساتها الرعناء، و دفعتها إلى حافة الإنهيار وشفير التشظى والإنشطار. أما باطن الدستور فهو إقتسام السلطة والثروة والموارد كافة، بين المنتازعين الرئيسيين من حاملى السلاح فى الحكم والمعارضة، تثبيتاً و تأكيداً لقول قادة المؤتمر الوطنى من قبل، بأن على من يحلم بإنتزاع السلطة منّهم، أن يجابههم مدججاً بالسلاح، فى إشارة إلى عدم إكتراثهم بالمعارضة السلمية. وكفى بالدستور فساداً و عواراً أن تكرّس نصوصه حماية مصالح حملة البندقية، فى مواجهة الشعب. و يكفيه قصوراً و بطلاناً، أن يكون له ظاهر يخالف و يناقض باطنه، ويتعارض معه وينفيه. وهذا ضرب من ضروب، سنخ أفكار و ممارسات الإسلامويين، الذين إستحقوا بجدارة إضافة مشرِّعيهم إلى المنجد القانونى، و مراجع فقه التشريع، تحت صفة (المشرِّع سئ النية) و هى صفة مستحدثة لم يحزها من قبلهم أحد، وحازوا فيها قصب السبق، بلا منازع.
إتفاقية نيفاشا و دستورها الإنتقالى مطايا الإسلامويين
لشرعنةِ دولتهم الشمولية وإستدامتها
(3)
نواصل حديثنا عن الدستور الإنتقالى، ونقول أن الدستور، فى عرف الفقهاء والفلاسفة، ضرب من ضروب العقود كما سنفّصل لاحقا . و يُعَرَّف العقد بأنه هو حاصل و نتاج إلتقاء إرادتين، لإحداث أثر قانونى ملزم. و يستمد العقد شرعيته و حجيته و إلزاميته، من كونه حاصل هاتين الإرادتين، المُعَبَّر عنها بإيجاب وقبول المتعاقدين، الصادرين عنهما بطوعهما وإختيارهما. و تأسيساً على المبدأ أعلاه، إجتهد فقهاء وفلاسفة القانون الدستورى، منذ عهد جاك جاك روسو و مونتيسكييه، وحتى عصرنا الراهن، فى التأسيس النظرى الراسخ للدستور. وأسهموا فى هذ الصدد بجهد فكرى وافر وخصيب. نوجز حصيلته فى توصلهما إلى أن الدستور عقد إجتماعى، يبرمه أفراد المجتمع المعيّن، بوسائل متعارف عليه، بغرض تنظيم علاقة الحكام بمحكوميهم، أى الدولة بمواطنيها، على نحو الذى يحفظ إستمرار و إستقرار، توازن العلاقة بين الطرفين. و يحدد الدستور بقواعد مرعية و ملزمة، سلطات وإختصاصات و اجبات الدولة. كما يقرر بنصوص وجوبية آمرة، حقوق المواطنين ويكفل كيفية تحقيقها و حفظها و تأمينها، من الإهدار أو التغوّل أو الإعتداء. و بقدر ما يفلح التشريع الدستورى، فى حفظ التوازن بين مصالح، طرفى المعادلة فى ذاك المجتمع، الحكام والمحكومين، بقدر ما يحقق غاياته و مقاصده، المتمثلة فى حفظ، النظام والأمن والسلام الإجتماعى.
فى نظرية العقد الإجتماعى، تناول الفيلسوف جان جاك روسو، مسألة ماهية الدستور، و كونه ناتج و حصيلة، الإرادة الجماعية لأفراد المجتمع، و ضرورة تعبيره الحقيقى عن هذه الإردة، كشرط لازم لضمان عدالته التى تكسبه حجيته، و تلزمهم – أى أفراد المجتمع - جميعاً بالخضوع طوعاً و إختياراً لأحكامه. و طرح الفيلسوف جان جاك روسو المسألة فى شكل تساؤلات و أجوبة عليها، على النحو التالى: (إذن ما هو القانون فى آخر المطاف؟؟، عندما أقول أن مادة القانون، هى دائما ما هو عام من الموضوعات ، فإننى أقصد أن القانون، يأخذ موضوعاته فى كليتها و شموليتها، و ليس كأحداث منفصلة أومنفردة. و أنه ينظر كذلك إلى الأفعال والتصرفات و يأخذها، فى إطلاقها و تجريداتها، وليست كأفعال شخص محدد أو أفعال بعينها. و تأسيساً على هذا النظر، أرى أنه ليس ثمة ضرورة للتساؤل، عمن هو المسئول عن وضع القوانين، طالما أنها هى أفعال الإرادة الجماعية ونتائجها.كما لا يعد ضرورياً، السؤال عما إذا كان الأمير فوق القانون؟، طالما أنه عضو من أعضاء الدولة (State)"الكاتب:أى المجتمع بالأحرى". و بالمثل لا يعد ضرورياً السؤال عما إذا كان القانون عادلاً، طالما أن الإنسان لا يمكنه أن يكون غير عادل نحو نفسه. وبالتالى لا يمكن التساؤل، عن كيف يمكن أن نكون (معاً)، أحراراً و فى ذات الوقت خاضعين للقوانين ، طالما أنها لا تعنى شيئاً سوى سجل إرادتنا الجماعية.)
و إذا أخذنا فى الإعتبار، أن الدستور الإنتقالى، قد وضعه وصاغه وأجازه، بعض من المواطنين السودانيين، دون غيرهم، وبدون أدنى مبرر، أو سبب شرعى أو غيره. و أن واضعيه و مشرِّعيه، قد قصدوا به فعلاً، تطبيقه على كل السودانيين، فيلحظ ، من وجهة النظر الفقهية المجرّدة ، أن الدستور الإنتقالى يخرج بالكلية، عن موجز التعريف النظرى (بتصرف)، الوارد بعاليه، أو أى تعريف آخر معتمد له. فالدستور ، كما أسلفنا القول، ضرب من ضروب العقد و العقد كما هو معلوم، لا يلزم إلا طرفيه ولا يتجاوزهما، إلى غيرهما بآثاره القانونية مطلقاً. إذن فإن الإدعاء بإفتراض حق، بإلزام من لم يشارك فى وضع و إجازة الدستور، من المواطنين السودانيين بأحكامه، يعنى القول فى لغة الدستور الإنتقالى المعنى ونصوصه، أنهم ناقصى أهليه قانونية ودستورية، تجعلهم عرضة لفرض إرادة غيرهم عليهم، طوعاً أو كرها وجبراً وبالقوة كيفما يقرر واضعى و مشرِّعي الدستور من المواطنين السودانيين. وهذا بالضبط والتعيين هو ما قصده المؤتمر الوطنى، بفرض الدستور الإنتقالى، الموضوع والمجاز بإرادته و إردة شريكه المنفردتين، و هو عين ما يحاول عبثاً فرضه الآن، لإلزام كل السودانيين به. و نقول عبثاً لأن ما يريده المؤتمر الوطنى هذا، لا محل لقبوله أو تسويقه، لأنه يخالف كل ما هو، متعارف عليها على نطاق المعمورة، سواء كان مصدرها التشريعات الوضعية أو السماوية، من قواعد العلاقات التعاقدية. فليس ثمة نص أرضى أو سماوى يجيز ويقرر، أن يعقد أحدهم من عقداً ماساً بمصالح غيره. و إن " إتهبل و إتخبط فى نافوخه، كما يقول المصريون" وفعل فإن فعله يكون باطلاً، ولا أثر له إبتداءً، دع عنك أن يمتد إلى الغير بآثاره، أوفرض إرادة غير إرادته، عليه كرهاً وجبراً. لأن فىذلك، نفى لصفة الإرادة الحرة والإختيار فى العقد، و يجافى هذا جوهر مفهوم العقد، ويهدر العدل و يصادم الإنصاف والوجدان السليم.
بل أن من يفكر مجرَّد تفكير، فى سن دستور، ينكر إرادة و يجحد حقوق، الغالبية العظمى من السودانيين، ومع ذلك يدعى حقاً، بإلزام هذه الأغلبية، بأحكام دستور لم يشاركوا فى صياغته وإقراره، كما يفكر المؤتمر الوطنى ( بنزعته العنصرية) التى لا نظير أو مثيل لها، حتى فى دولة الكيان الصهيونى، نقول أن من يفكر بهذه العقلية، لا شك يستبطن، فى عقله المريض و خياله المشوش، توهماً بأنه يختص بحق إستعباد الناس، وحملهم عنوةً و مغالبةً على الخضوع والطاعة لإرادته إكراهاً وجبراً. و يظن توهماً أيضاً أن بإمكانه أن يجبر السودانيين على علاقة قائمة، على كامل تشوهات، علاقات العبودية الغابرة، حيث كان الأسياد يشرِّعون كيفما يحلو لهم، وليس على العبيد سوى الطاعة المطلقة، شاؤا أم أبوا؟! و من المعلوم أن من يستبطن مثل هذه الأوهام و الترهات و الخبالات، لا مكان له فى عالم اليوم، بل ينبغى التحفظ عليه و إيداعه فورا مصحة للملتاثين و المخبولين، لتحنيطه ، كغيره من نوادر الكائنات المنقرضة، توطئةً لعرضه، فى الوقت المناسب فى صالات عرض التحف النادرة، لجذب السياح من أركان الأرض الأربع، و دعوتهم أن هلموا لمشاهدة، ما لا عين رأت و لا خطر بقلب بشر، من أصناف البشر، وأنماط تفكيرهم العاجز؟!
و قد يقول قائلٌ، أن القوى السياسية و الإجتماعية، التى أقصاها المتفاوضان من طاولة مفاوضات نيفاشا، واستبعداها من المشاركة، فى صياغة و إجازة الدستور الإنتقالى، قد قبلت بهما قبولاً يصلح لأخذه حجة عليها. وهذا القول مردود عليه، بأن قبولها بهما كان قبولاً مبدئياً و على سبيل التقرير والتسليم بالأمر الواقع. و إذا كنا نتحث عنالتعاقد كفعل من أفعال الإرادة، و القبول كوسيلة من وسائل التعبير عن الإرادة، فالبون كبير و شاسع جداً بين مدلول التقرير و التسليم بالأمر الواقع، القبول الإختيارى الذى يعتد به قاوناً. ونضيف إلى ذلك أن مباركة القوى السياسية، لكل الترتيبات التى قادت إلى السلام، كانت بإعتبارها خطوة إلى الأمام فى سبيل تصحيح الأوضاع الدستورية والسياسية، فى وطن كادت أن تعصف به حدة الإستقطابات، وضراوة الصراع حول السلطة والموارد، وفى ظل موازنات داخلية و خارجية ضاغطة، على القوى الحاكمة والمعارضة على حدٍ سواء. إذن ما فرض على قوى المعارضة المستبعدة من إجازة الوثيقتين، قبولهما على علاتهما كأمر واقع، و قبول ما ترتب عليهما من أوضاع دستورية وسياسية، هو واجب الولاء للوطن والحرص على مصالحه العليا والحرص على وقف الحرب ونزيف الدم، وتمهيد الطريق، للحوار السياسي و التسوية السلمية، بديلاً للإقتتال والصراع الدموى، ثم الحرص على إبداء حسن النية لمن يريد بالوطن و بأهله خيرا. و مع ذلك، لم يمنع إذعان قوى المعارضة للأمر الواقع، من إعلانها ، موقفها الرافض لثنائية الإتفاقية والدستور، و عدم إقرارها للمحاصصة الضيزى فى السلطة والثروة، مراراً و تكرارأً، بل لم تكف أبداً عن التمسك بحقها الأصيل فى المشاركة فى كل ما يتعلق بتقرير شئون و طنها. بيد أن المؤتمر الوطنى أنكر حقها المشروع، و تمادى فى رفض طلبها ذك، بعنجهية المفتقر إلى الرشد والمسئولية، و لا يزال يقابل مطالب المعارضة بلغة هابطة و مبتذلة يعتبرها المخاطبون بها، غير لائقة بالخطاب السياسي.
و ما يجب أن يدركه المؤتمر الوطنى، قبل فوات الأوان، هو أنه لا يستطيع إلزام المعارضة بالدستور الإنتقالى بعد الإستفتاء، صرف النظر عن نتيجته، و حدةً مستبعدة أم إنفصالاً مرجحاً. ولن يستطيع فرض حكمه و هيمنته على السودان، بموجب الدستور الإنتقالى، ولو جيش الجيوش و ملك الأساطيل و شن الحروب، و كانت و كالة المخابرات المركزية الأمريكية والموساد طوع بنانه. والأسباب كثيرة منها، أن شعب السودان لا يقبل، أن يفرض عليه أحد، كائناً من كان إرادته بالإملاء والجبر والإكراه. و منها كذلك أيضاً، كون العقد لا يلزم إلا طرفيه الموقعين عليه، و مفاد ذلك هو أن الدستور الإنتقالى، لا يلزم إلا طرفيه الموقعين عليه. فإذا كان ذلك، وكان أحد هذين الموقعين عليه الآن، و هى الحركة الشعبية، قاب قوسين أو أدنى، من الإنفصال والإستقلال بدولتها، أى أنها بصدد الخروج من عقدها الذى وقَّعته مع المؤتمر الوطنى، فالتكييف القانونى لخروج أحد طرفي العقد منه، هو أنه يعتبر فى نظره مفسوخاً، و متوقف النفاذ و السريان، ومنتهي الآثار القانونية، أي يُعَدُ كأن لم يكن. وليس فى فقه الأرض أو السماء من يدع سريان ونفاذ عقد أبطله وفسخه أحد طرفيه، اللهما إلا أن يكون، من يدع مثل هذا الإدعاء، يعانى من أعراض الذهان والإنفصام فيزعم إبرامه العقد مع نفسه، و بإرادة واحدة يتيمة، وهذا النوع من العقود التى يدعيها قادة المؤتمر الوطنى، لا تعرفه القوانين الوضعية أو الأحكام الشرعية. فمن يلزمه ترك النواح و (الجرسة) إذن هو المؤتمر الوطنى، ناهب السلطة بالقوة، بغش و خداع الشعب و إستغفال المؤسسة العسكرية، والإستهانة بها وبقوميتها، و خيانة شرف إنتمائها للوطن لا للحزب. و لو أن المؤتمر الوطنى لم يكن يعانى فعلاً من الذهان والإنفصام، لأحس قادته بشناعة سياساتهم التى قادت، إلى تشرذم البلاد و تشظيها و إنشطارها. غير أن الواضح لكل شعب السودان هو، أن المؤتمر الوطنى (ليس فى وجهه مزعة لحم) و إلا لاستحى من سجل فضائح فساده السياسي والمالى والأخلاقى، من تزوّيِر للإنتخابات، و نهب للمال العام، وكذب و تلفيق الكلام أمام الشعب، و منافقة المجتمع الدولى، والسعى بكل السبل، لمحض لبقاء في الحكم، ولو على أشلاء الوطن، وجثث مواطنيه، رغم هزيمة مشروعه و سقوط المدوى.
إذن على شعب السودان الإستعداد لمعارك لا حد لها، لإنتزاع الحقوق من مغتصبيها، بالوسائل المجرّبة والمعروفة لديه، و التى يجهلها أعداؤه كما يجهلون تماماً مائز صفاته و خصائصه.
بعد الإستيلاء على الحكم بالقوة العسكرية، إتجهت كل نوايا ورغبات، المؤتمر الوطنى، إلى إقامة نظام شمولى إستبدادى قابض، يحكم بالحديد والنار و يواجه خصومه بأقصى درجات القمع الفاشى والعنف الدموى. لذلك لم يكن غريباً أن يتبنى، وهو المهندس الرئيس لدستور السودان الإنتقالى، النظام الرئاسى (Presidential System) فى الحكم بديلاً للنظام البرلمانى (Parliamentary System )، الماخوذ به فى السودان، منذ إتفاقية الحكم الذاتى لسنة 1953م والدستور الإنتقالى لسنة 1956م، والذى إستمر لاحقاً، وفق تعديلات الدستور الإنتقالى المعدل لسنة 1964م و لسنة 1985م، حتى أصبح الإتجاه العام فى تطور تدرج التشريع الدستورى، المعبِّر عن الإرادة الشعبية، النازعة نحو ديمقراطية النظام البرلمانى، دون غيره بدليل فرضها الرجوع إليه، كلما شطحت بالسودان، أنظمة الشمولية و حكم الفرد المستبد، لتوطيد أركان طغيانها، بنمط مخالف له كالنظام الرئاسى.
فالنظام الرئاسى بتطبيقات المشوهة، على أيدى الطغم العسكرية، من شريحة البرجوازية الصغيرة العربية والإفريقية، هو ما يلائم ويطابق فكر المؤتمر الوطنى، القائم على إنقياد القاعدة المطلق لصاحب السلطة والقوة، والطاعة العمياء له والإستسلام الكلى لإرادته. هذا على مستوى النظر والفكر، أما على مستوى التطبيق، فقد أبدوا قيادةً وقاعدة كل هذا للطاغية نميرى، بكل ذلة وصغار، تارةً كرئيس قائد و ملهم، وأخرى كإمام و مجدد للدين. لذا سارعوا إلى النظام الرئاسى حتى قبل الدستور الإنتقالى، و لكن بسابقة دستورية غير مألوفة، فى تاريخ التشريع الدستورى، حتى ذاك الخاص، بنظم البرجوازية الصغيرة العسكرية، فكانوا أن نصبوا قائد إنقلابهم كأول رئيس جمهورية، بمبائعة أعضاء مجلسه العسكرى الذين نفذوا معه الإنقلاب. و كان عددهم لا يتجاوز الخمسة عشرة شخصاً. و هكذا قرروا إحلال إرادتهم محل الإرادة الشعبية. و بعد تنصيبه بواسطة "دستة و ربع" من زملائه العساكر، و فى سابقة لا مثيل لها أيضاً، قام بدوره بتعيين جميع أعضاء، ما يسمى بالمجلس الوطنى، ومنحه سلطة التشريع.
الذهنية التى تكمن وراء مثل هذا السلوك، الجانح نحو تكريس مركز السلطة و القوة، هى عقلية نازعة بالكلية إلى فكرة حكم الفرد المطلق، وإستبداده بالرأى والطغيان به. حتى فى مواجهة قاعدته، و لذا لا تعرف هذه الذهنية، سوى هذا النمط، من الدكتاتورية والتسلط فى الحكم. فلا غرو إذن أن تختار منهج النظام الرئاسى، بمساوئه المشهودة، فى تطبيقات دول العالم الثالث عموماً، والسودان على وجه الخصوص. فتحت هذا النظام خرج النظام المايوى بالأمس، والنظام الحاكم اليوم، من كل ما هو مجمع عليه، من فقهاء القانون و الفلاسفة من مبادئ و نظريات دستورية، مثل: ديمقراطية الدولة و ضرورة تمثيلها الصحيح لإرادة مواطنيها، و إلتزام مبدأ الفصل بين السلطات، وإستقلال كل منها عن الأخرى، فى ممارسة مهامها وإختصاصها، و نظريات مبدأ سيادة حكم القانون، ومبدأ إستقلال القضاء، و مبدأ غلِ يدِ السلطة التنفيذية من التدخل فى شئون سلطات التشريع والقضاء فى الدولة. ومبدأ خضوع أفعال و تصرفات، الدولة والحاكم للرقابة القضائية.
كتب الفيلسوف أرسطو فى العام 350 ق م يقول: (The rule of law is better than the rule of any individual).
وترجمته هى (أن حكم القانون وسيادته أفضل من حكم أىّ فردٍ كان).
و مفاد مبدأ سيادة حكم القانون هو مساواة الجميع حكاماً و محكومين، أمام القانون و خضوعهم له على قدم المساواة، و كأسنان المشط، كما فى التعبير الإسلامى.
و فيما يتعلق بخضوع الدولة للقانون، والرقابة القضائية على أفعال وتصرفات الحكام، إستلهم الفيلسوف جون لوك مبدأً دستورياً أساسياً، يحدد معيار فعل الفرد المسموح به، مقارنة بالقيد الشرعى المفروض على فعل الدولة والحاكم، جاء في عرضه:
(The fundamental constitutional principle inspired by John Locke, is that the individual can do anything, but not which is forbidden by law, and the State may do nothing, but that which is authorized by law.)
و يمكن ترجمته: "بأن الفرد يمكنه فعل أيّ شئ، ما لم يكن ذلك الفعل محظوراً، بموجب القانون، ولا يجوز للدولة أن تفعل أى فعل إلا أن يكون مسموحا به شرعيا، أى بموجب القانون".
وعن معيار أجهزة الدولة الديمقراطية المنوط بها وضع وتفسير القانون، جاء فى موسوعة فقه القانون المنشورة فى موقع ويكبيديا إنسيكلوبيديا القانون، على الشبكة الدولية للمعلومات، ما يلى:
(The central institutions for interpreting and creating law, are the three main branches of government, namely, an impartial Judiciary, a democratic Legislature, and an accountable Executive). و يمكن ترجمتها بأن المؤسسات المركزية، المناط بها تفسير ووضع القوانين هى، أجهزة الدولة الرئيسية الثلاثة، وهى بالتحديد، الهيئة القضائية المحايدة والعادلة، والهئية التشريعية الديمقراطية، ( و المقصود من حيث الإنتخاب)، والهيئة التنفيذية الخاضعة للمراقبة والمحاسبة.
و فى مقابل دستور النظام الرئاسى، نجد دستور النظام البرلمانى، الذى أخذ به ديمقراطيو السودان، و تسمى السلطة التنفيذية فيه، مجلس الوزراء (Cabinet) ويتكون من أعضاء البرلمان، ويختار أعضاء السلطة التنفيذية رئيسه المتمتع بثقة البرلمان. ويختلف رأس الدولة عن السلطة التنفيذية، ولا يتمتع بأى سلطة سياسية رسمية، بل يمارس سلطة رمزية (سيادية)، يجيز من خلالها القوانين كممثل للأمة. كمجلس السيادة كما سمى بعد الإستقلال، و مجلس رأس الدولة كما سمى بعد إنتفاضة 1985م، ويختار أعضاءه البرلمان. و من أمثلته فى العالم المستشار فى ألمانيا وينتخبه البرلمان، والملكة فى إنجلترا بالحق الموروث والمستشار النمساوى، ويختار بالتصويت العام.
أما فى النظام الرئاسي، كالذى فى أمريكا و روسيا وفرنسا، فالسلطة التنفيذية تجمع بين رئاسة الدولة ورئيس الحكومة. وتعيّن رئيس للوزراء غير منتخب، ويعمل مجلس الوزراء باستقلال عن السلطة التشريعية، ولا يكون مسئولا أمامها،
و لا يخضع لرقابة البرلمان فى أدائه لمهامه (Not accountable or answerable to the Parliament)
و فى النظام الرئاسى يكون للسلطة التنفيذية الممثلة فى الرئيس نقض التشريعات التى يجيزها البرلمان.
(The executive often has the power to veto the legislation).
و تؤكد أولوية إرادة رئيس الجمهورية، على إرادة السلطة التشريعية، و تبعية وخضوع الثانية (سلطة التشريع)، للأولي (سلطة التنفيذ الرئاسية)، المادة 108 من الدستور الإنتقالى و تقرأ:
" لا يصبح مشروع القانون الذى تجيزه الهيئة التشريعيىة قانوناً، إلا بعد مصادقة رئيس الجمهورية و توقيعه عليه. و إذا إمتنع عن التوقيع عليه، وأعاده إلى الهيئة التشريعية، يصبح قانونا مبرماً، إذا أجازته بثلثي جميع الأعضاء الممثلين فى المجلس".
و بموجب هذا النص فإن ما يجيزه، نواب الشعب و ممثلى إرادته، لا يصبح قانوناً إلا إذا أجازه و وقّع عليه فرد، يمثل السلطة التنفيذية، فإذا إمتنع عن إجازته والتوقيع عليه، وأعاده إلى سلطة التشريع، فلا يجاز إلا بأغلبية، ثلثي أعضاء المجلس التشريعى. مع أن المتعارف عليه هو أن الأغلبية المطلوبة، لإجازة التشريعات العادية، هى الأغلبية البسيطة و تعرف أيضاً بالمطلقة وتعادل(50% +1).
لم يكن غائباً بالطبع، عن ذهن نخب العالم الثالث، التى أخذت بالنظام الرئاسي، من مصدره فى دول الديمقراطية الليبرالية، فى الغرب ومجتمعاته المتقدمة، الفروق الشاسعة فى كل شئ، بين مجتمعات المصدر، و مجتمعاتهم المتخلفة. لأنهم فى الأصل لم يتبنوا النظام الرائاسي، لخدمة تطور مجتمتعاتهم، بقدر ما قصدوا به، فرض إرادتهم و تكريس سلطتهم و هيمنتهم على تلك المجتمعات، بإستغلال واقع تخلفها. أما فى دول المصدر، فإن ضبط الأداء السياسي والدستورى و الإداري لأى نظام، ليس رهيناً، فقط، بنصوص التشريعات الدستورية و الإدارية و ميكانيزمات تطبيقها، عبر أُطر و طرائق إدارة أجهزة الدولة المختلفة. بل يتوقف هذا الضبط إلى حد كبير، على الأداء السياسي والإدارى والتنظيمى، الفعال و المؤثر، لكافة المؤسسات السياسية والإجتماعية والفنية الأخرى، كالأحزاب والنقابات وسائر منظمات المجتمع المدنى. كما يعزز ويعضد نجاح النظام الرئاسي، التشريعات القانونية الفاعلة، والأنظمة القضائية المستقلة، والملتزمة بسيادة حكم القانون، والحريصة على المحافظة على الحقوق المدنية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية لكافة أفراد المجتمع دون فرز أو تمييز وضد كافة أشكال الإنتهاكات والتعديات، صرف النظر عن سلطة و مركز، منتهكي تلك الحقوق والمتعدين عليها.
و فى غياب ثقافة و آليات الحكم المؤسسى، وأجهزة الرقابة الدستورية، والسياسية و وسائط الميديا المشكِّلة للرأى العام، من صحف وإذاعة وفضائيات، و فى غياب منظمات المجتمع المدنى المؤهلة والنشطة فى العمل العام ...... إلخ، و فى غياب الرقابة الفاعلة و القوية، لمثل هذه المؤسسات والأجهزة والمنظمات، التى تتمتع بها المجتمعات الآخذة بالنظام الرئاسى فى الغرب، فإن النظام الرئاسي فى السودان، حتى و إن لم يقصد به، خلق نظام إستبدادى شمولى قامع - و هذا إفتراض نظرى نعلم يقيناً أن نقيضه هو الصحيح - لا ينتج إلا نظام حكم الفرد المطلق. و لكم فى نظام النميرى (عِبرة ياأولى الألباب). والآن ها هو رئيس المؤتمر الوطنى يعلن الدستور الإسلامى لوحده، و يقرر إسلامية كل السودانيين و عروبتهم الخالصة، ومن على منابر المخاطبة السياسية الإنفعالية، التى إشتهر بها، ويعلن أن لغة الدولة الرسمية هى العربية، ويعلن أنه لا يعترف بأى تعدد دينى أو إثنى، وينكر و جود حملة الثقافات واللغات غيرالعربية. و يقر بأن حزبه كان مداهناً و منافقاً، يتكلم لغة سماها (مدغمسة). بالإشارة إلى إضطراره للإعتراف، بواقع مكونات شعب السودان المتعددة والمتباينة الأعراق والأديان والثقافات واللغات.وعلى هامش إعلان الشريعة دستوراً، قرّع القضاة والشرطة و وبَّخهم على إعلانهم التحقيق فى ملابسات جلد الفتاة، قائلاً فى إستنكار (التحقيق فى شنو؟!) ثم كفِّر من تعاطف مع الفتاة المسكينة وهم كثر من السودانيين و غيرهم. ودعاهم للتوبة والرجوع إلى الإيمان بعد الكفر والفسوق، و بعد أن أمرهم بالطبع بالتطهر والإغتسال. و مثل هذه الفتوى لا تخرج إلا ممن ملك سلطان الدين والدنيا بكلتا يديه، وهو ما عرف فى أوربا العصور الوسطى بالجمع بين السلطتين الدينية والزمانية. و نذكر فى حادثة مماثلة، فى العام 1983م، أن نهش النميرى بلسانه اللعان الفاحش الفالت، سيرة القضاة السودان، و فصل بعضهم وسبهم سباً، جرّ عليه غضب كرام القضاة الذين لا يفرطون فى إستقلال القضاء، ولا يسمحون لأحد المساس بهم والتطاول عليهم، و لا يقبلون إهانة القضاء والحط من قدره. فقابل قضاة السودان وقتها، حملة النميرى الشعواء، بإضرابهم الشهير، و الذى إنتهى بالنميرى المهزوم، إلى إعلان قوانين سبتمبر، سيئة الصيت، و إنشاء محاكم الطوارئ للقطع والصلب والتشهير. و بعدها بدأ الشعب المواجهات المباشرة، مع طغيان حكم الفرد المطلق، كإضرابات المهنيين والعمال، و مقومة الدكتاتورية و إعدام محمود محمد طه، ثم تحالف النقابات والأحزاب، التى قادت إنتفاصضة مارس/إبريل، التى ألقت به و بحكمه فى مزبلة التاريخ.
وها هم أهل المؤتمر الوطنى اليوم، يمرمطون ماتبقى من هيبة وإستقلال القضاء (إن وجد)، على المستوى النظرى البحت،بعد إنمحاقه تماماً على المستوى العملى والتطبيقى، على يد السلطة التنفيذية، فى ظل حكمٍ أدغم حزبه فى جهاز الدولة بأكمله، فحلّ نتيجةً لذلك الأخير محل الأول حلولاً كلياً. فماذا يفعل قضاة السودان، القابضون على ما تبقى من جمر إستقلال و هيبة و كرامة القضاء، بعد الزجر والتوبيخ، و التكفير و رميهم بالفسوق و دعوتهم للتطهر، وأمرهم بالكف عن ممارسة سلطاتهم وتنفيذ ما أعلنوه من تحقيق فى ملابسات جلد الفتاة ؟؟؟!
ولكن قبل أن يفيق قضاة السودان وسائر أهله من صدمة تكفيرهم الجماعى، إذا بنزعات حكم الفرد المطلق، تعلن عن نفسها بصوت جهير. فيعلن رئيس الحزب الحاكم، لوحده تنازله عن عائدات البترول للجنوب، مقابل تصويته للوحدة. و وحدة الوطن عندنا أغلى من كل ثروات الدنيا، ولكن ما يدهشنا هو مبدأ تصرف الحاكم، فى مال شعبه دون تفويض أو إذن منه. و ليت إخوتنا الجنوبيين، صرف النظر عن عطية من لا يملك هذه، قبلوا ذلك و كفونا مغبة الإنفصال، ولكنهم قالوا لشريكهم، لا فقد جربناك وعرفنا مخبرك ومعدنك، والمؤسف حقاً أنهم آخذوا الشعب السودانى بجريرة حكامه فحق عليهم قول الشاعر:
وجُرمٌ جَرَّهُ سفهاءُ قَوْمٍ * وحل بغير جارمه العذابُ.
ثم ماذا يعنى أن يصرح أحد قادة المؤتمر الوطنى، فى قمة الأجهزة الدستورية، أنه أول من سيعترف بدولة الجنوب، إذا صوّت الجنوبيين للإنفصال؟؟! هل يفهم من ذلك أنه يفترض أن له صلاحيات تخوّله حق رفض خيارات شعب الجنوب؟؟!. مع ملاحظة تكراره المستمر فى غالبية خطبه، فى الداخل أو الخارج، و معظم تصريحاته، لوسائل الإعلام المحلية والأجنبية، لإلتزامه و إلتزام حكومته، بإتفاقية سلام نيفاشا، الموَقعة بين بواسطة حزبه والحركة الشعبية، فى عام 2005م. و لا تدرى ماذا يعنى مثل هذا الإعلان المكثف، بالإلتزام بالإتفاقية بمناسبة وبغيرها؟؟ و هل يعنى أنهم يلتزمون بها تبرعاً رغم أنها لا تقيدهم شرعاً؟؟ و هل يعنى أصلاً التوقيع على إتفاقية شيئاً آخر غير الإلتزام بها؟؟! أليس الأصل هو أن (المسلمين عند شروطهم)؟؟؟! كما فى الحديث الشريف.
أما النظام الرئاسي فى السودان، وقد أدخله النميرى، وخلفه عليه أعوانه و سدنة نظامه الإسلامويين. فأمره عجب، و قوامه رئيس الجمهورية، وهو كل السلطة التنفيذية والإدارية والسياسية فى البلاد، وهو رئيس الوزراء، ويعين كل الوزراء و وزراء الدولة وو كلاء الوزارات، ومديرى المصالح و المؤسسات والشركات والبنوك الحكومية. ويعيّن رئيس القضاء و نوابه وكافة القضاة، و وقادة المؤسسة العسكرية بأقسامها المختلفة، وهو القائد العام للقوات المسلحة وله السلطة المطلقة على المؤسسة العسكرية، التى تدين له بالولاء والتبعية المطلقة.
و ينص دستور النظام الرئاسي نظرياً، على مناصفة رئيس الجمهورية، السلطة التشريعية فى سلطة التشريع، ويحل محلها بالكامل، فى حالة غيابها، علماً بأنه يملك سلطة تغييبها بإرادته ويمكنه حل البرلمان، وحل مجلس الوزراء، وهو ما يعنى عملياً أنه يحل محلهما وهذا يعنى مركزة و تكثيف و تكريس كل سلطات الدولة فى يد فرد و احد أحد، لم ينتخبه الشعب بطريقة ديمقراطية، ولا يمثل إرادته الجماعية الحرة، و فوق هذا وذاك، لا يخضع لأى رقابة دستورية أو قضائية بالمطلق. وهذا من حيث العموم، أما من حيث الخصوص، فإن حكام السودان منذ الثلاثين من يونيو 1989م، وكل من ينتمى إلى حزبهم ، منزهون و يتمتعون بحصانات مطلقة، لم يدعيها أحد قبلهم من الرسل أو الصحابة ، ولا يخضعون هم كأشخاص، للقوانين التى يخضع لها بقية المواطنين. كما لا تخضع أفعالهم وتصرفاتهم، بالغاً ما بلغت من مخالفة القوانين، والفظاعات التى تقشعر لها الأبدان، وجرائم الفساد السياسي والمالى، لأى محاسبة تحت أحكام أىّ قانون أو دستور، بل أن من تلتف أشنع الإتهامات الغليظة، فى جيدهم كحبل من مسد، هم الذين يقمعون الشعب صباح مساء، بعنف الدولة والقانون، و يطبقون عليه أشد العقوبات الصادرة من محاكم أغلبها مطعون فى حيدتها و إستقلالها، و واقعةتحت تأثيرات السلطة السياسية والتنفيذية، بل ويهددون و يتوعدون الناس بالقطع والصلب والجلد.
و نقول الآن أما بعد فقد آن الأوان، أن يعلم الناس كافة، أن حديث طغاة الأمس المايويين، وطغاة اليوم الإسلامويين، عن الفيدرالية والحكم اللامركزى، و المشاركة الشعبية الواسعة فى الحكم والإدارة و التوجيه والرقابة، مع الإحتفاظ بالنظام الرئاسي الجمهورى فى السودان، دعوة حق أريد بها باطل محض. فالجمهورية الرئاسية التى صممها مشرعوا نميرى، و بنى فوق تصميمهم و عليه، الظلاميين من الأمويين الجدد و سدنة الحكم المطلق، لا تترك هامشاً من أى سلطة، مهما تضاءل قدرها، لأى شخص فى الدولة عدا رئيس الجمهورية. فدستور النظام الرئاسى، وقد بينا بعاليه جزءاً يسيراً من سلطات رئيس الجمهورية تحته أحكامه و بموجبها، دستور لا و ظيفة له سوى تركيز و تكريس، كل السلطات التنفيذية والإدارية والسياسية والتشريعية والقضائية، فى يد حاكم مطلق هو رئيس الجمهورية.
وحديثنا هنا ليس تهويماً نظرياً، بل أكدته التجارب الأمس القريب واليوم، كما رأيتم بأعينكم وألأمثلة كما قلنا ماثلة فى النظام المايوى ونظام الإسلامويين القائم. و أمامكم نماذج لا تحتاج لكثير عناء، لكشف زيف المشاركة الإسمية الديكورية فى السلطة، فى أعلى مستوياتها، و من هذه الأمثلة كل نوّاب رئيس الجمهورية و الوزراء، فى العهد المايوى، و كل نواب رئيس الجمهورية، غير الأعضاء فى المؤتمر الوطنى، فى عهد الإسلامويين الحالى، قبل نيفاشا. والآن فليحدثنا سعادة الفريق سلفا كير ميارديت، ومعه الحركة الشعبية، عن السلطات الدستورية التى مارسها تطبيقا فعلياً فى الواقع، كنائب أو ل لرئيس الجمهورية، منذ أغسطس 2005م وحتى يناير 2011م. فلم يشهده أحد، يشارك مشاركة حقيقية فى إدارة الشأن الإتحادى (القومى)، وهو النائب الأول، وليس فيما قانم به ما يدل على أنه تمتع بأى سلطة دستورية، صغرت أم كبرت. فمثلاً هل كان يؤخذ رأيه كنائب أول فى مفاوضات الحكومة مع الحركات المسلحة فى دارفور ؟؟؟ وهل كان يستشار فى أجندة الحوار، و إختيار المفاوضين بإسم الحكومة؟؟، أم أن هذا كان أمراً يختص به، قياديى المؤتمر الوطنى، كمجذوب الخليفة وسيد الخطيب و أمين حسن عمر وغازى صلاح الدين، و بعضهم فاوض بصفته الحزبية، منتحلاً إسم الدولة وصفتها، رغم أنه لم يكن من شاغلى الوظائف الدستورية المعلنة. بل إن ما رأه الناس هو أن النائب الثانى (مؤتمر و طنى)، هو الذى خاطب، فى حضوره جلسة إنعقاد، إجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ونخلص من كل ذلك، إلى أن ما يلائم طبيعة مكونات شعب السودان، المتعدد والمتباين الأصول والمنابت، والأديان والأعراق والثقافات واللغات، ليس هو النظام الرئاسي، بل النظام البرلمانى المعرّف و الموصوف أعلاه. و تتكون السلطه فيه، من البرلمان و مجلس الوزراء، ومعه مجلس سيادة أو مجلس رأس دولة، يراعى فى تشكيله وتكوينه، التمثيل العادل لكافة القوى السياسية، و إستيعابه لكافة مكونات التباين والتعدد الذى يتميّز به السودان، بتمثيل الأقليات القومية والعرقية و الدينية. ويجب أن تكون، رئاسة المجلس المذكور تناوبية دورية، بحيث يرأس المجلس كل عضو من أعضائه، لدورة زمنية يحددها قانون إنشاء المجلس.
و لا يفوت على أحدٍ بالطبع أن، قسمة السلطة الإدارية والتنفيذية والتشريعية، بين المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية، بالنسب المعلومة و المنصوص عليها، فى الدستور الإنتقالى، عنى بها فى المقام الأول المحافظة على سلطة المؤتمر الوطنى، الإدارية والسياسية و الأمنية فى البلاد، كما هى دون أى مساس بها أو تأثير عليها. ليس هذا فحسب، بل عنى بها إسباغ شرعية دستورية وقانونية، على إنفراده بالهيمنة على كامل جهاز الدولة، بشقيه المدنى والعسكرى، وتعزيز وتعضيد قبضته على كامل مفاصل الإقتصاد والمال فى البلاد، لتوظيف كل ذلك لإدارة الإنتخابات العامة والرئاسية، عند حلول أجلها المنصوص عليه، فى الإتفاقية والدستور، على نحو يعينه و يمكنه من تزوير إرادة الناخبين، التى أتقن صنعتها الإسلامويون ، وسط الحركة الطلابية، بمباركة من قياداتهم خارجها، ثم إحترفها المؤتمر الوطنى، بعد إستلائهم على السلطة بالقوة العسكرية. بعد ذلك زوّر الإسلاميون نتائج أى إنتخابات، نافسوا فيها و خاضوا غمارها، إبتداءً من المجالات الطلابية والمهنية و إنتهاءً بالإنتخابات النيابية والرئاسية، دون إستثناء. وبحسب تصريحات قاداته لبعض الصحف، وما صدر منه من وثائق داخلية، و يظن المؤتمر الوطنى أنه وبعد الاستيلاء على الحكم، بانقلاب 30 يونيو 1989م العسكرى، قد أفلح فى تجاوز كل من مرحلتى، ما يسميه منظروه بالشرعية الثورية، (1989 -1998م)، والشرعية الدستورية (998 - 2005 م). لذلك فإن كل ما رمى إليه و قصده، المؤتمر الوطنى الحاكم، من اتفاقية نيفاشا ودستور السودان الإنتقالى واتفاقيات الشرق والقاهرة وأبوجا، هو تمهيد الطريق له للانتقال إلى المرحلة الثالثة، وهى ما يطلقون عليها مرحلة الشرعية الجماهيرية، أى الحكم ولو فى الظاهر عبر صناديق الانتخابات، مع السعى لبلوغ هذه المرحلة وفق ما هو مخطط له مهما كلفه ذلك و بأى ثمن كان. و من الجلى اعتماد المؤتمر الوطنى، لتحقيق هذه الغاية على التمسك بكافة تكتيكات سياسة التمكين، مع استدامتها لفرض غلبته وهيمنته وسيادته المطلقة، وأهمها هى:
• الهيمنة على جهاز الدولة بشقيه المدنى والعسكرى.
• الإبقاء على كل أجهزة القمع والتنكيل والقهر.
• الإبقاء على التشريعات و القوانين المصادرة للحريات والحاجبة للحقوق
• الهيمنة على الإقتصادية و كل المقدرات وموارد الثروة للإستقواء على الآخرين وبيع وشراء الذمم و تأليف القلوب والفساد والإفساد وتزوير اإرادة الناخبين
وهكذا تمكن المؤتمر الوطنى، من تسخير كل موارد الدولة، و إمكانياتها المذكورة أعلاه، للسيطرة على إدارة كامل عملية الإنتخابات العامة والرئاسية التى أجريت فى إبريل 2010م، و للتمكين وإقصاء الآخرين من الإشراف والرقابة عليها، حتى يتمكنوا من تزويرها، و إخراج نتائجها لصالحهم، على نحو ما شهد الجميع، فى الدخل والخارج.
أما القسم الآخر من الدستور، فهى وثيقة الحقوق، التى تضمنها الباب الثانى منه. فمن من المتفاوضين هو الذى وراء تثبيتها على نحو ما رأينا فى الدستور المذكور؟؟ لا يخفى على أحد بالطبع، أن لجوء الإسلامويين للتفاوض فى مشاكوس/ نيفاشا، و إعتمادهم طريق الحل السياسي و التسوية السلمية، بديلاً لحروبهم الجهادية المعلنة، لم يكن من خياراتهم الإرادية الطوعية. و لا شك فى أنهم أُكرِهوا علي ذلك جملةً وتفصيلاً، و ما كان لهم أن يقبلوا عليها، بما تحمل من إقرار بحقوق الغير، و هم فى حالة السعة والإختيار، بل غصبوا عليها و دفعوا إليها دفعاً، وأرغموا علي ما يترتب عنها من سلام و ديمقراطية إرغاماً. و ما أرغمهم و أجبرهم مكرهين على تجرع غصصها المرة، و أنوفهم فى التراب، إلا إستعار المقاومة الشعبية الشرسة ، المدنية منها و العسكرية ، التى واجه بها شعبنا، مشروع دولتهم الشمولية القابضة، و إشتعال أوار الحروب التى طوقت نيرانها الخرطوم، و أحاطت بها إحاطة السوار بالمعصم، حتى كادت تطبق علي أنفاسهم، وتقضى علي دولتهم المعزولة داخلياً وخارجياً. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى لا يختلف إثنان و لا تنتطح عنزتان، على أن فكر و ممارسةً الحكام الإسلامويين، هما النقيض المطلق للحريات و الحقوق الديمقراطية كافة ، وفى مقدمته بالطبع حرية الرأى و المعتقد. فالإسلاميون يرفضون قبول الآخر المختلف، رأياً و معتقداً، رفضاً مطلقاً، و يعلنون جحدهم الجهير بحقه فى محض البقاء حياً، دع عنك الإعتراف بحقوقه فى التمتع بالمساواة معهم، و التنازل له للمشاركة فى الحكم و الثروة.
فإذا كان ما تقدم رصده، من موقف المؤتمر الوطنى ، من الحقوق الديمقراطية، فيمكننا التقرير بدرجة عالية من الإطمئنان و الثقة، بألا يد للمؤتمر الوطنى بالضرورة، فى إقتراح و تثبيت الحسنة اليتيمة، فى الدستور الإنتقالى، وهى وثيقة الحقوق، المنصوص عليها فى الباب الثانى. و هذا يعنى أن الفضل فيها يعود بالكامل لمفاوضى الحركة الشعبية، ولإستماتتهم فى فرض الإقرار بهذه الحقوق، على المؤتمر الوطنى. والآن بعد أن شهدنا بأم أعيننا، موقف الحركة الشعبية العملى، كتنظيم و مؤسسة سياسية (لا كأفراد قلوا أم كثروا)، من هذه الحقوق، و شهدنا مدى إستهانتها بها وتراخيها عن الزود عنها وصونها و حمايتها من الإعتداء، يمكننا القول بأن دافعها للتمسك بإقرارها فى الدستور، كان بدافع غريزة الدفاع عن مصالحها الذاتية الخاصة، وتأمينها و حمايتها من خطر تغول شريكها فحسب.
إذن نحن لا نتجاوز الحقيقة قيد أنملة، إذا قلنا أن المؤتمر الوطنى، كان له القدح المعلى بالضرورة، فى أسوأ ما تضمنته ديباجة، ما يسمى بدستور السودان الإنتقالى، لسنة 2005م، و هى نصوص و أحكام، محاصصة سلطة الحكم ، بنسبة ال (52%) له، وال (28%) للحركة الشعبية، و كذلك محاصصة الثروة بالنسب المعلومة بين شريكى الإتفاقية و الدستور والحكم، و كأنما السودان قد خلا من سكانه فيما عداهما، أى المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية.
و لأن جانب المحاصصة من الدستور قد حصر المشاركة فى الحكم، فى الشريكين بشكل حاسم و قاطع، فقد كان طبيعياً، أن يكون هذا الجانب هو مجال الصراع، بين الشريكين فى السلطة. فإن الجزء الآخر من الدستور، والخاص بوثيقة الحقوق، كان هو مجال و ميدان الصراع، بين قوى المعارضة، من جهة، و شريكيّ الحكم ، من جهة أخرى. فلا عجب إذن أن رأينا، التناقض الحاد الذى شاب، كل تصرفات المؤتمر الوطنى وسياساته، حيال الوضع الذى ترتب على صعيد وثيقة الحقوق، المفروضة عليه حتف أنفه من الحركة الشعبية، و قد أملت عليه مشيئتها، فى هذا الجانب من الدستور، وإضطرته إضطراراً للخضوع لإرادة مفاوضيه، فى الجانب الآخر من الطاولة. فقبل بها مرغماً فقرر إبداء تسليمه بها، مع إخفاء ما يضمره، من حيث المبدأ، لتلك الحقوق من عداء مطلق و رفض تام. و من الواضح أن المؤتمر الوطنى قد إضطرإلى إظهار القبول بوثيقة الحقوق تكتيكياً، لضرورات تحقيق إلتقاء إرادة المتفاوضين، وإتمام الإتفاق بينهما تحت ضغوط شتى داخلية و خارجية، لم تترك للمؤتمر الوطنى خياراً غير التظاهر، ولو إلى حين، بقبول دستور يقر، الديمقرطية والتعددية السياسية، وكفالة الحقوق الأساسية، مع النية المبيتة لعدم الإلتزام بها، وعد السماح بتطبيقها على الأرض، إلا بالقدر الذى لا يتعارض مع بقائه فى الحكم. ولذا كانت إستماتة المؤتمر الوطنى، للإحتفاظ بحال دولته الشمولية، أجهزة و تشريعات، على ما كان عليه قبل إجازة ونفاذ الدستور، و دون أى تغيير يذكر، بفضل سيطرته المطلقة، على مفاصل جهاز الدولة، وهيمنته الكاملة على مصادر و أصول الثروة والموارد، علاوة على إنتزاعه بموجب الدستور الإنتقالى، ما يؤمن له أغلبية ميكانيكية، تتجاوز النصاب البسيط أو المطلق، فى سلطة التنفيذ والإدارة والتشريع، و هو كل ما كان يطمح إليه، لتوطيد سلطته و ضمان بقائه فى الحكم. و ذلك بغرض التلاعب بإرادة الناخبين فى الإنتخابات العامة والرئاسية، المنصوص علي إجرائها فى الدستور، بالكيفية التى أوضحناها من قبل. والمقصود هنا هو إخراج نتائجها لصالحهم بالإكتساح، بقوة السلطة لا لابإرادة الناخبين، وهو ما عمل له المؤتمر الوطنى، بكل أسلحته و هو ما تحقق بالفعل.
ونتيجة لكل ما تقدم، فإن وثيقة الحقوق والنصوص الوارد في الدستور، وقعت منعدمة الأثر القانونى، فظلت الدولة هى دولة هيمنة الحزب الحاكم، النازعة لإخضاع كل مخالف له فى الرأى أو الفكر أو العمل بالقوة والقمع يباشره نيابةً عن الحزب، جهاز الدولة بقضه وقضيضه، وبذات التشريعات القاهرة القامعة، التى سنها النظام، فى مبتدء عهده، للتنكيل بالمعارضين، و فرض الإستسلام عليهم بالقوة.
و كما أسلفنا القول، فى السابق، فإن هذا الوضع الدستورى الشاذ، قد ترتبت عليه، ظاهرة غير مألوفة فى تاريخ التشريعات الدستورية فى السودان، أو أيّ مكان آخر، فيما نعلم، وهى وجود تشريعات تناقض الدستور، بل و تلغى أحكامه وتبطلها. و منها قاونون الأمن، و الأحزاب، والنقابات والصحافة والإجراءات الجنائية والجنائى، وقانون النظام العام.
مع أن المادة (3) منه تقول أن الدستور الإنتقالى هو القانون الأعلى للبلاد، وتتوافق معه الدستور الإنتقالى لجنوب السودان، و دساتير الولايات، و جميع القوانين. فإن المحكمة الدستورية، التى كونها المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية، ما ترددت فى شطب، أي دعوى حماية حق دستورى، تنتهكه الدولة تحت القوانين المخالفة للدستور، تحت المادة 226/5 التى تقول بإستمرار سريان القوانين النافذة. (أنظر نصها أدناه).
وفى إعتقادنا أن مثل هذا النص، لا يحول دون المحكمة الدستورية، وحماية الحقوق الأساسية الواردة، فى وثيقة الحقوق، بحسبان أنها السلطة القضائية، المسئولة عن حماية حقوق المواطنين الدستورية. و لأن المحكمة الدستورية مختصة، فى إعتقادنا، بتقرير و إعلان، عدم دستورية أى قانون مخالف للدستور، أو أيّ نص يتناقض معه. وهذا ما تقرره كل إجتهادات، فقهاء الدستور، وبناءً على هذه النظر، رأينا كيف تسمح بعض الأنظمة القانونية، كالولايات المتحدة، للسلطة القضائية الأعلى، لإلغاء التشريعات التى تقرر عدم دستوريتها. وفى الدول التى تأخذ بنظام القانون العام، (Common law)، عندما يواجه القضاء تشريعاً غير دستورى، شاهدنا أن للقضاء يمكنه سن قاعدة تبطله و تلغيه تحت نظرية السوابق القضائية (Precedents ).
أما المادة (5) من الدستور الإنتقالى، فتقرر أن الشريعة هى مصدر للتشريعات، التى تسن على المستوى القومى، و تطبق على ولايات شمال السودان. و بقراءة هذا النص، مع نص المادة (3) منه، و تقرر أولوية الدستور على القوانين، وضرورة توافقها معه. يتضح لنا أن مصدر الدستور الإنتقالى، هى الشريعة الإسلامية، وبما أنه هو أب القوانين، فإن أى تشريع أو نص فيه، يخالف الدستور، يخالف بالضرورة، الشريعة الإسلامية، الأمر الذى يستدعى تدخل القضاء، لإلغاء و إبطال التشريع والنص المخالف، كما هو الحال، فى الدول الإسلامية، فالمحاكم دائما، تتحقق مما إذا كانت الدولة تلتزم، بإحكام الشريعة الإسلامية، وأن تشريعاتها تتوافق معها. فمن سلطات المحكمة الدستورية العليا المصرية، نقض أى تشريع لا يتوافق مع الإسلام، و فى إيران تتحرى سلطة المختصة ضمان توافق التشريعات مع معيار حكم الإسلام.
وفى الحالتين تتدخل السلطة القضائية، لإلغاء و إبطال كل ما يخالف الشريعة الإسلامية. فما هى حجة ملالى الإسلام فى السودان؟؟!.
فى هذا المقال، حاولت بقدر الإمكان تفادي إيراد بنصوص مواد الدستور ، وإستعضت عن ذلك بموجز محتوى النص و روحه متى ما إقتضى الأمر ذلك، لرفع المشقة و الحرج عن القارئ غير المتخصص. ولكن يبدو أن لا بد مما ليس منه بد، كما يقال. لا سيما و أننى أريد أن أعطى القارئ، بعض نماذج من النصوص، التى تؤكد قولنا بأن الدستور الإنتقالى بالفعل مطية للإسلامويين لشرعنة شمولية دولتهم و إستدامتها، و هاكم الأمثلة:
المادة 224 من الدستور الإنتقالى:
1. لا يجوز تعديل هذا الدستور إلا بموافقة ثلاثة أرباع جميع الأعضاء لكل مجلس من مجلسي الهيئة فى إجتماع منفصل لكل منهما.
2. لا تطرح التعديلات التى تؤثر على نصوص إتفاقية السلام الشامل، إلا بعد موافقة طرفيها.
للمؤتمر الوطنى لوحده نسبة 52% من عضوية مجلسي الهيئة المذكورين فى النص، وذلك بموجب أحكام كل من الإتفاقية والدستور. وهذا يجعل من الحصول على نصاب الأغلبية البسيطة والمعروفة بالمطلقة، و تعادل (50 +1%)، لأى جهة أخرى خلاف المؤتمر الوطنى مستحيلة، ناهيك عن ثلاث أرباع المجلسين. ثم أنه علاوة على ذلك، فأيّ تعديل يؤثر على الإتفاقية، وهى جزء لا يتجزأ من الدستور، يتطلب موافقة طرفيها. فهل هناك إمكانية لتعديل هذا الدستور، فى و جود هذا النص؟؟!
المادة 226 منه:
4. لأغراض هذا الدستور، يعتبر أيّ إجراءات أتخذت أو أجهزة أنشئت، قبل إجازة الدستور، كما لو أنها إتخذت و أنشئت بموجب هذا الدستور.
5. تستمر كل القوانين السارية نافذة، ويواصل جميع القضاة و العاملين فى الخدمة العامة فى أداء وظائفهم، ما لم يتخذ إجراء آخر، وفق هذا الدستور.
9. يحكم هذا الدستور الفترة الإنتقالية، ويظل سارياً حتى إعتماد دستور دائم.
الغرض من الفقرة الرابعة أعلاه، هو إبقاء جهاز الدولة، على ما كان عليه قبل إجازة الدستور. أي شرعنة و إستدامة جهاز الدولة الشمولية، الذى بناه المؤتمر الوطنى من كوادره، بعد أن أفرغ الخدمة المدنية والمؤسسة العسكرية، من العناصر الأخرى المختلفة معه بالكامل.
أما الفقرة الخامسة، فهى للإبقاء على القوانين القمعية، بنص دستورى يمنع تعديلها أو إلغائها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهذه الفقرة، تمثل نموذجاً للنص المفخّخ. لاحظ أن الجزء الأول منها يتحدث، عن سريان القوانين النافذة، ما لم يتخذ إجراء آخر وفق هذا الدستور، وهو أمر رأينا إستحالته! ولكن المشرِّع سئ القصد، حشر بين مقدمة النص و عجزه، مسألة لا علاقة لها بهما، وهى مواصلة جميع القضاة، و العاملين فى الخدمة العامة، فى أداء وظائفهم. و على طريقة (سمك لبن تمر هندى)، أى والله؟!
أما الفقرة التاسعة فهى لتأبيد شمولية المؤتمر الوطنى. فالمعلوم أن الفترة الإنتقالية محددة
بالإتفاقية والدستور، وبدأت فى يوليو 2005، و مدتها المتفق عليها، هى خمس سنوات. ولا ذكر بالمطلق فى نصوص الدستور، للدستور الدائم و وضعه ناهيك عن إعتماده، و لا لكيفية إعتماده، و من هو مناط به إعتماده. و معنى هذا أن المؤتمر الوطنى، يريد أن يحكم بالدستور الإنتقالى، بعد أن أمَّنِه و حصَّنِه من التعديل و الإلغاء، إلى أن تقوم الساعة.
وتتوالى نماذج الإلتواء بالنص، وتفيخخه و تلغيمه و دس السم الأيديولوجى فى دسمه، وإخضاع النص للأطماع والرغبات الحزبية. و هاكم الأمثلة:
المادة 27/1 تكون وثيقة الحقوق عهداً بين كافة أهل السودان وبين حكوماتهم على كل مستوى، و إلتزاماً من جانبهم بأن يحترموا حقوق الإنسان و الحريات المضمنة فى هذا الدستور.
2. تحمى الدولة هذه الوثيقة و تعززها و تضمن تنفيذها.
أولاً: ليس فى النص ذكر لإلتزام الدولة بكفالة الحقوق الواردة فى الوثيقة، كما هو مألوف فى دساتير البلدان التى تحترم حقوق الإنسان، بل ذهب النص، إلى تفريق دم الحقوق المذكورة بين حكومات لم يسميها لنا الدستور!!. و ياللذكاء و الألمعية؟!
ثانياً: كافة أهل السودان، لم يوقعوا الدستور مع الموقعين عليه. و العهد لا يكون إلا بين طرفين يتعهدا بالإتفاق و التراضى بينهما.
ثالثاً: يقول النص إلتزاماً من جانبهم بأن يحترموا حقوق ... إلخ، و الواضح أن المطالبين بهذا الإلتزام هم كافة أهل السودان، الذين ينعقد الإلتزام بينهم و بين حكوماتهم، ومن أراد نسبة الإلتزام إلى الحكومات لا يقول (إلتزاماً من جانبهم)، بل يقول من جانبها.
و فى الفقرة (2) تحمى ( والصحيح تكفل)الدولة هذه الوثيقة ( والصحيح الحقوق الواردة فيها)، و تعزز وتضمن تنفيذها. وهذه الفقرة تعطيك إنطباعاً بأن كفالة الحقوق، مسئولية طرف ثالث، والدولة ضامن فقط. و لاحظ أيضاً أن حماية الدولة للوثيقة، و ليست للحقوق. و أنظر كيف إنتقال النص، من لفظ الحكومات إلى لفظ الدولة.
ونخلص من كل ما تقدّم، إلى أن ما تمخض، عن مفاوضات وبروتوكول مشاكوس، و مفاوضات و إتفاقيى نيفاشا،هو أن خرج المؤتمر الوطنى، للناس بالدستور الإنتقالى لسنة 2005 م ، بما إحتوى عليه من وثيقة حقوق، لإيهامهم بأن ثمة تغيير جذرى قد جرى، و أن تعديلات قد طرأت على الوضع الدستورى و السياسي فى البلاد. بيد أن شيئاً من ذلك لم يحدث. فمنذ دخول إتفاقية السلام حيّز التنفيذ، و نفاذ وسريان الدستور الإنتقالى الدستور لسنة 2005م. يقول الواقع المعاش، لا التهويم فى فنتازيا الأحلام، أن هذا ما أفضى، فى واقع الحال، بالبلاد و أهلها أبداً، إلى أى وضع أفضل من وضعهم، قبل إجازته وسرايانه ونفاذه، بل أدى فقط، إلى بقاء الحال على ما كان عليه، قبل إجازته وسريان أحكامه. والصحيح هو أن كل هذا الجهد المبذول، بواسطة الآخرين سواء كانوا شركاءهم أو الأسرة الدولية و ممثليها، لإصلاح الحال و إقالة عثرات البلاد، إستحال عند الإسلامويين، إلى محض محاولة لإسباغ شرعية، يفتقر إليها حكمهم الشمولي القائم، فكرّسوا الدستورلغرض تأمين بقاء المؤتمر الوطنى فى الحكم، ليستبد بسلطة مطلقة، لا حدود لها و لا تخضع لأى رقابة، تحميها نيابة عن الحزب، أذرع جهاز الدولة البوليسية القامعة، وترسانة قوانين الدولة الشمولية، النافية لأى حق ديمقراطي منصوص عليه فى الدستور المذكور، الذى إستحال إلى (هامبول ديمقراطية) لا يخيف أو يردع طير الشمولية، الذى لا يرتدع أمام محض (فزاعة) صنعها بيديه، لأغراض الغش والخداع والإستغفال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.