ساعي البريد يا ساعي البريد. يا حاملاً كتابي وأشواقي إلى أهلي. قل لهم إنني بخير وقريب منهم جداً حتى ألمسهم بالمصافحة، وإن تباعد المكان وتقادم الزمان. هم في القلب مني يضمهم الفؤاد وتحفظهم الحنايا. أخبرهم أنني سأكون بطرفهم في العيد الكبير. أما بعد: فإني أجد من الصعب أن أباشر الكتابة بعد طول غياب، وهي أصلاً لم تكن مهنتي. لامستها قبلاً لمساً خفيفاً خفيفاً، ثم أبيت. انتهت علاقتي بها شهر العسل، ولكنه طلاق فيه رجعة. ما زلت أسير هواها. ندمت ندامة الكسعي وقد مشيت دربي. وفي هذا السياق أنشدت ما أورثنا الفرزدق: ندمت ندامة الكسعى لما غدت مني مطلقةً نوار ولو أني ملكت يدي ونفسي لكان إليَّ للقدر الخيار أصبح حالي حال سيارة مركونة موديل 1980م، العام الذي غادرت فيه بلدي. علاني الغبار وغلفني الصدأ. وبعد كل هذه السنوات العجاف أعجب إن كانت تقوم حياة في المحرك. يحتاج الأمر في مثل هذه الحالات إلى دفع قوي من صحاب الأمس وشحنة حارة من حنين. ثم كركرة وفرفرة. ودخان كثيف. وجدتني على قمة جبل مرة أقصى الغرب، في صحبة خليل إسماعيل، المغنِّي. يعاودني الحنين طول السنين. من هناك من شاهق أترنم معه في اندفاع وتدحرج صوب الخرطوم. أتأمل في ترحالي الخريف في كردفان. ما أجمله حولي وفوقي وبساط تحت قدمي، وفي نفسي. لوحة ضخمة من السحب الرائعة بالألوان المائية على أديم السماء. لوحة شديدة الجمال لدرجة أنها تمطر حقاً. اجعلها عليّ وعلى أصدقائي يا رب. ملابسي هناك تبللت بجمالها. وترنمت سعيداً مبلولاً تحت المطر: ( مقتول هواك يا كردفان.. مقتول هواك أنا من زمان).. ما أجمل الخريف هنا في صحبة عبد القادر سالم، أو على ذاك النهر الكبير قارب ورق ينساب من الجنوب إلى الشمال. قارب سافر فيه شيخنا الطيب في موسم هجرته إلى الشمال. طال الغياب يا صحاب بلا أمل في وصال. ما بقي إلا أن أدندن أشجاني وقد ناحت بقربي حمامة: أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتا لو تشعرين بحالي معاذَ لهوى ما ذقت طارقة النوى ولا خطرت منك الهموم ببال أتحمل محزون الفؤاد قوادم على غصن نائي المسافة عالي أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي أيضحك مأسور وتبكي طليقة ويسكت محزون ويندب سالي ولئن كان أبو فراس الحمداني أسيراً في بلاد الروم حين بثّ شكواه، فإني حبيس غربة بلا انتهاء ، ومسافة بلا انطواء. من هنا في البعيد هاتفت شيخي الأثير، عن الحال والأحوال والصحاب، فشكا وما بكى. قال في جلد وثبات: ماشية الحال، ( وعهدي بها منصوبة ) من زمن المدارس. ما يزال في مخيلتي يدخن سجائره تلك وأفكاره كقطار الغرب في المفازة لما يصل. وفي نفثه الدخان عبر الهاتف دعاني أن أكتب له. ولبيت النداء ففي ذلك مسكن لمواجع كثيرة. أحضرت ورقي وقلمي وقعدت مقعدي للكتابة. ولكن الفكرة طارت مني. انضمت إلى سرب بعيد. ثم حامت حول رأسي كما عمامة تلفني. وشكلّ السرب الجميل أبياتاً من الشعر لشاعرة مجيدة أنشدت من غابر: ليت الحمام ليَه إلى حمامتهْ أو نصفه فقد به تمّ الحمام ميهْ كم عدد الحمام؟ حدثتني نفسي أن أفتح كتاب الرياضيات ونحن في حصة النحو وشيخي بعيد لا يلاحظني. سألت نفسي: كم عدد الحمام؟ وكم منه طار إلى بلدي؟ نسيت درسي وحصتي. ثم تهللت أساريري. حسبت المسألة في سري. حمامة الشاعرة = 1 عدد الحمام = س إذن المعادلة هي: 1+ س + س = 100 2 2 × 1 + س + س = 100 × 2 2 2 + 2س + س = 200 3س – 2 = 200 –2 3 س = 198 س = 66 عدد الحمام = 66 وجدتها وجدتها. عدد الحمام ست وستون حمامة. اجتمع الحمام والجبر في حصة النحو فهل يرفرف في حصة السياسة؟ هل نحل المعادلة؟ الحمد لله عقلي يعمل بعد طول سكون. قلبي ينبض بالحنين. المحرك في جوفي يكركر. سيارتي القديمة محملة ببضاعة ليس هنا محل إنزالها. يا لها من سيارة وفيّة تحبني وأحبها حتى توشك تهز لي ذيلها. في المساء قلت أغفو متوسداً ذراعي، لكن جافني الكرى. ما انطفأ المحرك. ما أتى المنام. في تفكري ساءلت نفسي: متى أعود؟ لست أدري. سال دمعي. يا حاملاً كتابي وأشواقي إلى أهلي. قل لهم إنني بخير، وإن باعدت المسافة. إني آتٍ إليهم في العيد الكبير. نعم بكل تأكيد حينذاك سفري. ولكن يا صاحبي متى العيد السعيد؟ متى يجئ ذلك العيد الكبير لأشارك أهلي أفراحهم؟ اختلفنا من زمان في ترائي الهلال بعدما غمّ علينا. منا من قال أنه لن يأتي أبداً. وفينا من أفتى بغير ذلك. بعضنا ارتضى التقويم كتاباً. وآخرون رؤوا الهلال في طرف السماء أول المساء. نفر شاهدوه في سماء التلفزيون. والمتنبي كان له رأي آخر. تساءل وقد لبسنا الحلل: عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد تبادلنا التهاني والأماني. فتحنا الأقواس بالأيدي. فعلنا مثلكم ونحن بعيد. تبادلتم وأنتم قريب: الكل يلوك كما كل مرة. كل عام وأنتم بخير. القابلة على أمانيكم، و( السنة القادمة ) تتحقق الأماني. هنا بيت القصيد والدنيا عيد. الشاهد فيه قولكم ( السنة القادمة ). يا إلهي! حتى الأماني عندنا شيكات آجلة. حتى القلوب خواء بلا رصيد. آه . كم أتمنى أن يكتب لي فاعل خير مليون أمنية حاضرة. على سطر الضلوع. أصرفها في التو من بنك المحبة. أو أجيّرها لجماعتي بدون فرز. ثم أطويها في ثنايا رسالتي وأرسلها في عجالة إلى البلد الحبيب وقد بكى. أو أقطف الورود من جنائن الشاطئ. لا تبك يا محبوب. في غدٍ نعود. أصدقكم القول. هممت أن ( أصرف ) النظر عن هذه الحكايات الغابرة والشيكات الحاضرة. كان جدي يجد مثل ذلك كلاماً فارغاً وإن غلفناه بالأماني. كان لا يؤمن بأدب الرسائل. العمدة عنده أن يجد ( حوالة ) في بريد البلدة تُذهب عنه بعض عوزه. وغير ذلك في ميزانه لا قيمة له البتة. ومثل هذا الحكي عندي ( كلام جرائد ). وهو في مجمل الأحوال تحبير لا يخلو من فائدة، فطوراً يجلب النعاس. وحيناً يقطع الوقت في الحافلة. وهو يلهي عن مسغبة. ووقت الغداء نفترش الصحف محبرة بالكلام. أليس ذلك بأعظم فائدة؟ مشكلتي الراهنة أنه مضى زمن طويل لم أكتب فيه. لعل صندوق البريد القديم قد تغيّر. عهدي أن العنوان البريدي لكل بلد تاريخ استقلالها: الجزائر ص. ب. 1962م. الصومال: ص.ب 1960م. وقس على ذلك الصناديق العربية والأفريقية. وماعوننا المعهود(1/1/1956م)، أم تراه قد تغيّر؟ سأرسل على ذات العنوان رسالتي لعلها تصل. جرت في النيلين مياه كثيرة. الإنجليز تخلوا من نصف قرن وأهلي تولوا. أولئك بسطوا وجماعتنا قبضوا. وهكذا الأيام دول. ثم يا أحبتي في حيرتي وجدت وسيلة أسرع. في ثنايا الإنترنت تصفحت. وجدت في الزحام. دبليو دبليو دبليو دوت كوم. أفتح يا وطني أبوابك نحن الكتّاب. وأعملت مفتاحي أدخل مع الداخلين. ( على هامش الأغاني ليوسف العطا السوداني ) صدر في الخرطوم 2012م