بسم الله الرحمن الرحيم ومن أكثر ما يفضح نوايانا تجاه الآخرين هي ألفاظنا التي نتفوه بها وطريقة صياغاتنا للكلام.. وقد يتسبب خطأ صغير في الصياغة في مشكلة كبيرة جداً.. يقول الطالب الجامعي للمحاضر بطريقة مهذبة: "معليش يادكتور، صوتك ما واضح!".. وما أن يسمع المحاضر ذلك يغضب غضباً شديداً وينتهر الطالب ويأمره بالصمت والانتباه ليسمع صوته.. ويقول طالب آخر لنفس المحاضر: "معليش يادكتور، ما قادر أسمع كلامك" وحينئذٍ يهز المحاضر رأسه بالإيجاب ويرفع صوته عالياً!.. فهنالك فرق كبير بين "صوتك ما واضح" و"ما قادر أسمع كلامك" فالجملة الأولى تعني أن المشكلة في صوت الدكتور.. أما الثانية فتعني أن المشكلة في سمع الطالب.. وهناك أناس كثيرون ممن نقابلهم يومياً يفكرون كما يفكر هذا المحاضر ويحللون ألفاظنا تحليلاً دقيقاً.. فإذا أوقعك حظك العاثر في أحد هؤلاء فلن يجديك نفعاً أن تعتذر له قائلاً: "معليش، إنت فهمتني غلط!" فعبارة كهذي تعتبر إهانة كبرى له.. فذلك معناه أنه لايفهم كلام الآخرين.. بل الاعتذار الأمثل لك هو: "معليش، أنا ما وصَّلْت ليك المعلومة صاح".. وكما أن الكلمات تفضح نوايانا تجاه الآخرين، فإنها أيضاً تفضح لنا نوايا الآخرين تجاهنا.. فعندما يقول لك أحدهم: "والله مع احترامي ليك.." فتأكد تماماً من أنه بصدد أن يقول لك كلاماً غير محترم.. وهو يستبق ذلك بإثبات احترامه لك ليبدو شخصاً مهذباً في نظر الحاضرين. فعندما يحاول أحدهم أن يثبت لك شيئاً أنت لم تتشكك فيه أصلاً فذلك مؤشر على أن ذلك الشخص يدرك أنك لا تصدقه، وهو دليل على كذب الشخص أو تورطه في أمر ما.. ومن أمثلة ذلك الإكثار من استخدام أدوات التوكيد في غير موضعها.. فنحن نعلم أن استخدام أكثر من أداةٍ للتوكيد إنما يكون لمن ينكر كلامنا.. فإذا أقسم لك أحد الباعة قسماً مغلظاً أن سلعته أصلية.. وأكَّدَ لك أنه يقول الحق وأنه لا يعرف الكذب أبداً.. إذا قال لك ذلك من غير أن تتشكك أنت في جودة السلعة.. فحينئذٍ يحق لك أن تفكر ملياً قبل أن تتورط بشرائها.. يحدث ذلك أيضاً مع كثير من المتسولين الذين يوقفونك في الطريق يومياً.. ويقسم لك أحدهم أنه لم يتناول طعاماً منذ البارحة.. أو يقسم لك أنه يريد شراء دواء لطفلته المريضة.. ويقول لك: "لو ما مصدقني تعال معاي الصيدلية!" فالكذاب يتوقع دائماً ألا يصدقه الآخرون.. لذلك يستبق الأحداث بنفي الكذب عنه. فالنفي في غير موضعه يفضح نية صاحبه.. فمن الطبيعي أن ينفي الإنسان التهمة التي يوجهها له الآخرون ليثبت براءته.. ولكن ما ليس طبيعياً أن يفترض الإنسان تهمة على نفسه ثم يشرع في نفيها.. كأن يقاطع أحدهم كلامك وهو يقول لك: "والله ما مقاطعة لكلامك!".. يقول ذلك ليقاطعك وينتزع فرصته في الكلام.. يحدث هذا في البرامج التلفزيونية الحوارية عندما يستطرد أحد الضيوف في الكلام ناسياً الآخرين.. وهنا ينبري أحدهم للتصدي له وإيقافه عند حده.. طبعاً لن يقول له: "اصمت أيها الثرثار الأناني ودعنا نتكلم معك!" بل يقاطعه متعمداً ويحاول نفي تهمة المقاطعة عنه ليبدو لطيفاً أمام المشاهدين ويتفادى إحراج ذلك الثرثار.. وبمناسبة الإحراج: تذهب إلى أحدهم طالباً منه خدمة ما.. وبدلاً من أن يعتذر لك بلطف فإنه يقول لك: "والله ما داير أحرجك!" فما الذي أدخل الإحراج في الموضوع؟ لا شكَّ أن ذلك الشخص يدرك تماماً أن رفضه خدمتك يعد أمراً محرجاً لك.. فالنفي غير المبرر يفضح نوايا صاحبه كثيراً.. فإذا قالت الفتاة لخطيبها: "والله ما دايره أزعلك".. فذلك معناه أنها تمهد لقول كلام لن يعجبه.. وإذا قالت له: "أنا ما شاكة فيك" فذلك يعني أنها تريد أن تتحرى معه عن علاقته بإحدى الزميلات.. وربما تقول له ذلك وهي تشرع في التنقيب في رسائل هاتفه الجوال!.. وإذا قال لك أحدهم: "من غير ثقالة.. ".. فذلك معناه أنه يعلم أنه يريد أن يطلب منك خدمة ثقيلة كان حري به أن يفعلها بنفسه.. وإذا قال لك: "ما داير أطردك لكن عندي شغل لازم أنجزه الليلة".. فذلك معناه: احترم نفسك أيها الثقيل واذهب مني ذليلاً مطروداً. يحاول بعض الصحفيين أن ينفي سبب كتابة مقاله ويفضح نفسه بأن يجعل ذلك عنواناً عريضاً لمقاله كأن يكتب "ليس دفاعاً عن دكتور فلان!" وبعد ذلك يسن الكاتب قلمه ويشرع في الدفاع عن ذلك الدكتور دفاعاً مستميتاً.. وكأنه محاميه الخاص الذي قبض الملايين على هذه المرافعة التاريخية.. وأكثر ما يخشاه هذا الكاتب أن يفسر القراء هذه المرافعة بأنها لمصلحة ما.. لذلك ينفي عن نفسه تلك التهمة قبل أن يُتَّهَمَ بها! ومن الألفاظ التي تفضح نوايا صاحبها أداتي الاستثناء: لكن، وإلا.. فالاستثناء غالباً ما يكون مخالفاً لما قبل أداة الاستثناء في المعنى.. فإذا قال لك أحدهم: "إن فلاناً رجل مهذب وطيب لكن!..." فذلك معناه أن تنسى كل الكلام السابق للأداة.. فالكلام المهم سيأتي بعد الأداة.. وسيواصل الجملة السابقة قائلاً: "لكن بس عينه طايرة شوية!" وإذا سألتك عن رأيك في هذا المقال وقلت لي: "إنه مقال رائع ومفيد لكن!.." فحينئذٍ سأقول لك: أرجوك لا تكمل فقد وصلت رسالتك وكشفت عن نواياك أيها الصديق! فيصل محمد فضل المولى [email protected]