عُشر' رمز لعنوان كبير جسده ويجسده مناضلوالحرية والديمقراطية في السودان [2]، ظل عُشر أسيرا ومعه أكثر من خمسين قياديا في سجن ‘كوبر' بالخرطوم، هؤلاء ما زالوا مكبلين بالسلاسل الحديدية، داخل زنزانات البشير لأكثر من خمس سنوات، وأصفاد عبدالعزيز نور عُشر وضع عليها ‘اللحام'، عوض القفل، خوفا على ما يبدومن ان هذا الكائن البشري الحر في أصله قد يتحول إلى طائر ويفر، فقد تحول الوطن إلى ‘باستيل' سوداني برهائنه وأسراه وشعبه. يذكرأن قيادات حركة العدل والمساواة السودانية وقعوا في الأسر إبان دخول قوات الحركة العاصمة السودانية الخرطوم في آيار/ مايومن العام 2008، في عملية جريئة وتاريخية، وهي عملية الذراع الطويلة، في محاولة لاسترداد الدولة عبر فتح مستعمرة الخرطوم، ومن ثم العمل مع شركاء الوطن لبناء السودان وفق سياقات تتواءم مع واقعه وجغرافيته وتاريخه، والذي لا يتم إلا بإعادة هيكلة الدولة على أسس موضوعية تستند إلى مرجع العدل والمساواة، كقيمة سياسية وأخلاقية وإنسانية واجتماعية، وحتما المحاولات سوف تجري وتتبع ولن تتوفق ما دامت إرادة الثورة متوقدة. معلوم في هذا الاتجاه أن مشروع الدولة في السودان يعيش حالة استثنائية وفاصلة في تاريخ الوطن السياسي السوداني. بدأت التوليتارية الدينية بميتافيزيقيا ‘ثورة' الانقاذ، التي سرعان ما قفزت إلى أيديولوجيا الإسلام السياسي الممزوجة بسلطات البناءات التحتية، مثل القبيلة والجهة والسحنة إلى أن انحرفت وبدرجة عمودية عالية لتموقع نفسها في سلطات البنى التحتية كوعاء، لتبني عليه كل شرعنات حكمها وتحكمها وتمكنها أو تمكينها من أجل السيطرة وضمان حظها في الاستمرار لمزيد من الاستحواذ على كل فائض القيمة السوداني، تعمدت فيه الى قتل الماضي لتصادر الراهن وترهن المستقبل. لتثبت أنها ليست بثورية ولا سودانية ولا وطنية ولا إسلامية ولا أيديولوجية ولا ديمقراطية، وإنما قد تكون أي شيء آخر، والمجال مفتوح للاجتهاد والابتكار، فقد تكون عصابة أو أي توصيف مشابه، لأن المتفق عليه انها تجاوزت حد الإجرام في إدارة الدولة، وهو الحد الذي قد يصعب فيه حتى على مدارس العلوم الدستورية وضع تصنيف محدد لها، غير حكم العصابة المارقة المتحالفة قبائليا والجاهزة لفعل أي شيء لضمان احتفاظها بمصادر الثروة، عبر سرقة الدولة وإلغاء إرادة شعبها أو شعوبها. منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي، الذي أصبح يشكل لها مرجع العقل الفقهي، ومنذ إلغائها لتلك الإرادة التي لم يجد فيها حتى ممثل تلك الإرادة وقتئذ، وبعد مضي قرابة الربع قرن، إلا التحالف الضمني مع من قامت بإلغائها سابقا وفق قاعدة ‘عفا الله عما سلف'، لفائدة استراتيجية تتعلق باستمرار بنية التمركز المهيمن والمسيطر، ولتسقط معها كل القيم الأخلاقية، ويتبين فن تلاعب الأدوار في المجال العام السياسي السوداني. في هذا الإطار كانت وما زالت أهم تقنية لتنفيذ مجسم التمكين السياسي المشار إليه آنفا وللمضي به للأمام، كانت تقنية التعذيب كفكر وفلسفة منهجية، ذات أسس وأنواع وآليات تبنتها عقلية التمكين الإسلاموية في الخرطوم لتنفيذ المجسم، يلحظ كذلك أن ذات المنهج هو ما تتبناه أغلب التيارات الإسلاموية عند وصولها للسلطة، سواء بالانتخاب أو سرقة إرادة الجماهير والثورات كأدوات توصلها للسلطة فقط، ليبدأ مشروع التمكين والسيطرة والامتصاص عوض مبدأ الديمقراطية نفسه والقائم على التداول السلمي للسلطة. وتجدر الإشارة إلى أن فكرة مشروع التمكين تستند إلى إلغاء ماهية الإنسان وذاته الحرة، وتدميره والسيطرة على قراراته ومصادر قوته ومعاشه وحبل تفكيره، وأول مدخل لولوج تدمير الذات الإنسانية يتم عبر التعذيب البدني والنفسي، ومصادرة حقه في الحياة واختيار حق التعبير عنها، لذا شهدت سنوات الإنقاذ الإسلاموية المعروفة ب'لحضاري'، التي تخلت عنها لصالح الجهوي والعصبوي، الأخطر في انتهاكات حقوق الإنسان، شملت كل فنون التعذيب. هي حقا ثقافة جديدة لدى الشعب السوداني لم يعرفها من قبل، وأشك أنه سمع بها، شهادات التعذيب الإسلاموي السوداني الكثيرة والمتجددة عبارة عن أساطير شكلت أدب مأساة إنسانية سودانية. وللأسف ما زالت مستمرة ما دام مصدر وصناعة التعذيب ماضية في فقه التمكين عبر التعذيب والحرب والتجويع وبناء حزام للفقر لصالح الرأسمالية الإسلاموية المتوحشة. ملف التعذيب الإسلاموي السوداني ملف شائك ومعقد، والملف موثق لدى العديد من الهيئات القانونية والحقوقية والمؤسسات ذات الصلة. ويصعب حتى على المتابع حصر الإدانات والتنديد بها حتى وصلت قمتها في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب ضد الانسانية في أجزاء كثيرة من السودان. الرئيس وبعض الولاة ووزير الدفاع، فضلا عن زعماء مليشيات يعملون بالوكالة معه، هم جميعهم في دائرة المتابعة والملاحقة والمطاردة والملاحقة الدولية لدى القضاء الجنائي في محكمة الجنايات الدولية. المفارقة في هذه الإشكالية، أن جنزير البشير الذي قيد به رجلي ‘عُشر'، في مشهد مؤلم، هو امتداد لفلسفة التمكين القائمة على فقه التعذيب الإسلاموي موضوعا وشكلا، تجاه فكر مناهض له يحمل مشروعا لاسترداد الذات الإنسانية السودانية المغيبة، لأن ما يجري هو مشروع يتنافي مع نظرية الوجود نفسه، لأنه في الجوهر وبغض النظر عن أحبولات السياسة، نجده يسعى ويعمل وفق فعل الممارسة والتجربة على قاعدة تمكين بشر على رقاب بشر آخرين، إذا هو ‘كلاباش'حديدي تفوح منه رائحة عنصرية واضحة. وضع لمصادرة الحرية والديمقراطية وحق الآخرين في العيش بحرية ومن دون جلاد، والأجدى في حال كهذه أن يجد الجنزير الحديدي، جنزير الدكتاتورية لمنع تمدد الحرية، موقعه في المحل الطبيعي والمتعارف عليه والمعني به، وحال المشهد هنا واضح إذ أن الجنزير عادة ما يوضع في أرجل كبار وعتاة المجرمين عند توقيفهم بعد فرارهم من العدالة الوطنية والدولية، وهو منظر نشاهده ونتابعه في مخافر الشرطة والسجون، أو المحاكم عندما يكون المتهم في قفص الاتهام، أو على شاشات التلفاز أو في الصحف أو على المواقع الإلكترونية، فكانت مفارقة في أن توضع في أرجل من ينشد الحرية، حيث نظرية العكس تماما تجد صحتها أمام هذه الجدلية. اما المقاربة السيميائية في المشهد فتوحي بأن جنزير ‘عُشر' هو إحساس منتظر في انتظار مرتقب لصورة ذهنية موازية قد تجد طريقها في أرجل من هم متابعون ومطاردون أصلا من العدالة الدولية، وحينئذ سوف نرى صور هؤلاء منتشرة في كل وسائل الإعلام لتطبيق الشرعية القانونية الدولية الحقة، ومبدأ عدم الإفلات من العقاب، إنها صورة منتظرة مرتقبة ومتوقعة، وسوف تقع حتما وعندها سيتحول جنزير ‘عُشر' إلى رمز سوداني وطني من أجل الحرية والعدالة، مثلما جرى للبطل الأفريقي، الأسطورة في تاريخ التحررالافريقي نيلسون مانديلا، إنها ثنائية الوجود وإلغاء الوجود. التمظهر النهائي للصراع السوداني لا يقبل المساومة أو التسوية الشكلية وإنما مجابهة ومواجهة الحقيقة الواقعة حتما وفق جدلية الاشياء، عندها سوف ينتقل جنزير ‘عُشر' إلى صاحبه الحقيقي، وهذا ليس في التخيل أو المتخيل ولعله يضفي واقعية ويخاطب صاحب السلطة الزمنية السودانية، إن أراد ان يستشرف شيئا من مستقبل منتظر لنفسه وللوطن والأجيال. محجوب حسين كاتب سوداني مقيم في بريطانيا [3]