من أقسى أنواع الذل والإضطهاد أن يُخرج الإنسان من دياره قهرا ومن بلده قسرا بعد أن يتعرض لأقصى أنواع التعذيب من قمع وكبت في وطنه لحريته. وكان هذا حال نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم مع قريش. وهُدد الأنبياء من قبل بإخراجهم من قراهم كلوط ونوح وشعيب عليهم الصلاة والسلام. فهذه خطوات إبليس عليه لعنة الله عندما أخرج أبوينا من الجنة، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوأتهما، التي إتبعها على كل الطغاة إلى يومنا هذا. ولكن كسر هذا القيد أبو الأنبياء إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، الذي قال إني مهاجر إلى ربي، فأقتفى رسول الله أثر جده. وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحزورة على مشارف مكة، وهو في الثالثة والخمسين من العمر، وفي حلقه غصة حزن نبيل وهو يلقي نظرة على أطلال بلده الحبيب، بلد الطفولة وذكريات العمر ويقول: (أما والله إني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي وأكرمها على الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت). فإذا كانت مكة آنذاك بلد يرفع لها علم أو يضرب لها نشيد وطني لكان من الواقفين و المرديين. و روى ابن أبي حاتم عن الضحاك قال وعندما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكان إسمه الجحفة اشتاق شديدا إلى مكة، فأنزل الله تعالى يوعده ويطمأنه بالرجوع إليها يوما بقوله عز وجل: ((إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد)) [القصص: 85]. فهدأ هياج شوقه وسار بيقين في هجرته لربه. وقبل دخول يثرب نظر إلى السماء وقال اللهم حبب إلينا "المدينة" كما حببت إلينا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها وصححها لنا. وكان وزاد في تسميتها طابة وطيبة. و وجد في المدينة حرية لنشر الدعوة. يتلوا القرآن الذي طفق ليخاطب الناس وأهل الكتاب والذين آمنوا. فيعلم الذين اتبعوه السلوك الإنساني الراقي الذي عليهم إتباعه في حياتهم المجتمعية ومقومات التعايش السلمي بين مختلف الناس كما أوضحنا من قبل. ويسألونه في بعض شؤونهم الحياتية فيأتيه الوحي فيجيبهم بالقرآن. ولسذاجتنا ومفهومنا الضيق يقول البعض إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان اول حاكم للدولة الاسلامية ورئيس حكومة وتوهمات من هذا القبيل، وهو لم يكن الا بشرا رسولا، ونبيا، بشيرا ونذيرا، وليس حاكمهم، بل يأتوا ليحكموه وليس على أحد بمسيطر. و كنبي لابد أن يأتي له الناس ليحكم بينهم في بعض خلافاتهم ويرشدهم بهديه. ولكن في الأمور الأخرى التي تخص حياتهم واعمالهم كزراعة النخيل التي كانت المدينة مشهورة بها ولا يعلمها هو، يقول: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم). و صارت المدينة موطنا محببا له. فكان كلما قدم من خارجها في سفر نظر إلى جدران المدينة و أوضع ناقته (سار بها سريعا) من حنينه و حبه لوطنه. ومع كل هذا التحنان، قد عاش فيها تحت ضغوط شديدة جدا. فقريش تلاحقه ومصممة على سحقه ولن يهدأ لها بال إلا بقتله لكي تعود الأوضاع كما كانت في جزيرة العرب ويكونوا هم سادة العرب و قبلة الجاهلية. وهذا بمساعدة منافقين من اهل المدينة مردوا على النفاق، وبعض من بني إسرائيل أو أهل الكتاب الفالحون في الجدل والدجل والمحاجة والمكائد والمكر والدسائس. ومن الملاحظ أن رسول الله لم يقهرهم ويجبرهم بل حاول مراضاتهم، ولكن الله عز وجل يخبره بأنه لن ترضى عنه اليهود والنصارى حتى يتبع ملتهم. و برغم هذا الضغط الرهيب صبر لربه مبلغا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. ثم كتب الله على المؤمنين القتال، وبعضهم يكره قتال أقاربه الذين ظلموه، ولكن للضرورة أحكام. وللقتال أيضا، فلا يجب أن يبدأوا بالقتال إلا في حال الإعتداء. ولابد أن يحترموا المواثيق والأشهر الحرم. وبالفعل قاتلوا قريش عندما جاءوهم في مكانهم ليعتدوا عليهم، في بدر وأحد والخندق ولكن الله نصرهم عليهم. و لم ينووا دخول مكة إلا ليؤدوا العمرة والحج، فلكل دينه. و لكن عندما حرمت قريش المسلمين الدخول، رجعوا ولم يدخلوها قسرا. ولكن دخلوها بعد ذلك معززين مكرمين. وكانت كل المناطق المتاخمة لجزيرة العرب بها إمبراطوريات تجمع السلطة السياسية و الدينية وتقهر شعبها لدين الدولة، كالفرس والروم. كما بقيت بعض القبائل والقرى، كقبيلتي هوازن وثقيف اللتين ظلتا على الشرك حتى بعد فتح مكة. ولنشر الدعوة في تلك الأراضي كان لابد من غزوها لتحرير مواطنيها من قبضة طغاتهم ليتعرفوا أهلها على دين الإسلام الإنساني وليختار كل فرد بعدها الدين الذي يراه مناسبا. فلا إكراه في الدين. فإن أبت تلك الإمبراطوريات والممالك والقبائل أن يفسحوا للحرية مجالا ليتعرف مواطنيها على الإسلام، غزوهم. وهناك خيار بأن يعطوا جزية، وهو مبلغ من المال لبيت مال المسلمين، والذي يستخدم لفائدة الناس. والجزية لابد أن يعطوها عن يد وهم صاغرون لكي تعرف شعوبهم مدى هشاشة الطغاة الذين يستبدون بهم ويحكمونهم بإسم الدين. ولعل الوعي يصل للشعوب بعدها ليروا ذل وصغر الطاغية الذي يحكمهم، فينقلبوا عليه. ولعلهم يعرفوا من هؤلاء الثوار الأحرار الذين أذلوا طاغيتهم، وحرروهم، وما هو دينهم، فيتعرفوا على الإسلام. ولذلك لم ينتشر الإسلام بالسيف ولا بالقوة والقهر أبدا. بل ببسط الحرية. ولا يجب ان ان نخلط بين دعوته الدينية لنقول إنه أنشأ دولة للمسلمين. فعندما هاجر، هاجر لله وليس لدنيا يصيبها، أو إمرأة يستنكحها مثنى وثلاث ورباع. بل هاجر من كل أوجه الدنيا من جاه ومال وسلطة و دولة، لوجه الله تعالى. وإذا كان سياسيا محنكا لكان إتخذ من مكةالمكرمة مقرا لحكومته، بعد أن أزاح سلطة قريش. فقد رجع ولم يستقر في مكة. فهو صلى الله عليه وآله وسلم نبيا وليس رئيسا، ومبلغا للناس بما يوحى إليه وليس حاكما، ومرشدا لهم وليس زعيما سياسيا. وبحسه الإنساني كان يحن لبلده الأصلي مكة. فنزلت عليه سورة الفتح والتي قال عنها إنها نزلت عليه سورة أحب إليه من الدنيا وما فيها. فكانت فيها الرؤيا التي تبشره بزيارة موطنه الأصلي و دخول المسجد الحرام. و عندما دخل، دخل مطاطأ رأسه وهو المنتصر. ولكن تواضعا وتجلة وحبا لموطنه. ولم يطبق المنهج الإنتقامي في الذين آذوه وأخرجوه وقاتلوه وقتلوا وشردوا من معه، بل قال لهم إذهبوا فأنتم الطلقاء. ليعلم الناس التسامح الذي يصب في مصلحتهم العليا لتدور عجلة الحياة للأمام من جديد ويسقطوا في فخ الإنتقام الذي لا ينتهي، وهو ما يسمى في السياسة بالعدالة الإنتقالية. و ليؤكد نشر مبادئ السلام والمواطنة والتعايش السلمي وحب الوطن من خلال الحرية الدينية أيضا، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فالهجرة لله كانت سنة مؤكدة. ولذلك إقتفى الصحابة رضوان الله عليهم أثره بعد إنتقاله للرفيق الأعلى، وهاجروا في سبيل الله لنشر الدعوة بشعار الحرية للناس في حق الإختيار. وقبل ذلك كله تعلموا منه الأمانة و الصدق أولا والتطهر من الضمائر الميتة الكاذبة. [email protected]