*الحلقة الثالثة: ساهم الفيلسوف الامريكي ريتشارد رورتي إلى جانب الناقد الامريكي التفكيكي جوناثان كالر في المحاضرات التي ألقاها أمبرتو إيكو بعنوان "التأويل و التأويل المضاعف" بورقة بعنوان "مسير البراغماتيالتداولي".و ابتدأ رورتي رده بالحديث عن رواية إيكو "بندول فيكو" ،كمقدمة لإبداء اعتراضه على مقالة إيكو "قصدية القارئ" و التي ورد فيها تمييزه بين تأويل النص و استعماله مستشهدا باستعمال ماري بونابرت لنصوص ادجار الان بو . و قد برَّر اعتراضه على تمييز إيكو بين تأويل النص و استعماله،مرتكزا على انهم كبراغماتيين لا يعتقدون ان هنالك شيئاً ما يدور حوله النص، و انهم أصلا ضد الفكرة الارسطية عن الجوهر.فليست هنالك طبيعة ما للنصوص أو قراءتها.فقراءة النصوص تتعلق بقراءتها على ضوء نصوص أخرى أو أناس آخرين أو نثارات من معلومات،و بعد ذلك نرى ما ذا سيحدث.لا يوجد تمييز بين استعمال و قراءة،و لكن بين "استعمالات" من أناس مختلفين لأغراض مختلفة.و لذلك يرى رورتي أن الفرق هو بين ما يسميها القراءات المنهجية و القراءات الملهمة للنصوص. و قد ناقش جوناثان كالر ضمن محاضرته بعنوان "في الدفاع عن التأويل المضاعف" مفهوم رورتي عن استعمال النصوص . يبدأ جوناثان كالر رده على رورتي بتبيان سذاجة الفكرة البراغماتية القائلة باستعمال النص حين يقول"إن القناعة التداولية القائلة بإمكانية التخلص من كل المشاكل القديمة، وكل التمييزات القديمة للوصول إلى حالة نقاء سعيد حيث إن (الشيء الوحيد الذي يمكن أن نفعله هو أن نستعمل هذا الشيء) كما يقول رورتي، هي قناعة تتميز بالبساطة. ومع ذلك، فإنها تغفل المشاكل التي واجهت أومبيرتو إيكو وغيره، بدءا من معرفة الكيفية التي من خلالها يستطيع نص ما تجاوز الإطار المفهومي الذي يؤول من خلاله. إنها مشاكل لن تختفي - في اعتقادي - من خلال توجيهات تداولية تقول بعدم الاكتراث بالتأويل والاكتفاء بالتلذذ. ثم يرى كالر أن خطورة اعتراض رورتي على إيكو،تكمن في دعوة رورتي إلى التخلي عن البحث عن شفرات النص ،و الكشف عن ميكانيزماتها حين يقول "وعلى هذا الأساس، فإن القضية المركزية في رد رورتي على الأستاذ إيكو ، لا تقود إلى القول بانعدام الفرق بين استعمال نص ( لغاياتنا الخاصة) وبين تأويله- وفي الحالتين نحن أمام استعمال النص - بل تكمن في التخلي عن البحث عن أسنن، أو الكشف عن الميكانيزمات البنيوية، لنكتفي فقط بالتلذذ بالدينصورات وبالصيد والرضع والاستعارات دون فحصها ومحاولة دراستها. ويعود رورتي في نهاية رده إلى هذه الفكرة ليؤكد أننا لسنا في حاجة لكي نتعب أنفسنا في البحث عن كيفية اشتغال النصوص. فهذا لا يختلف عن فك رموز البرامج الفرعية لمعالجة النصوص المكتوبة باللغة البازيكية ( en basic). علينا استعمال النصوص، تماما كما نستعمل معالجة النصوص، جاهدين، من خلال ذلك، قول أشياء ذات أهمية. في نظر كالر فإن دعوة رورتي للتمييز بين استعمال برنامج لمعالجة النصوص وبين تحليلها وفهمها، "يمكن النظر إليها باعتبارها تفنيدا لما يؤكده عندما يقول " إن الشيء الوحيد الذي يمكن لأي كان أن يفعله بالنص هواستعماله"، أو اعتباره إشارة إلى وجود اختلافات دالة ناتجة عن استعمالات مختلفة للنص". ثم يوسِّع كالر من دائرة ما يقوله رورتي، ليقول "بأنه إذا لم يكن الكشف - من زاوية دراسة أكاديمية - عن طرق اشتغال الحواسيب واللغات الطبيعية والخطابات الأدبية في الإعلاميات واللسانيات والنقد ونظرية الأدب، فإن القضية هي بالضبط الوصول إلى تحديد طرق اشتغال هذه اللغات ودراسة ما يجعلها قادرة على الاشتغال، وشروط تنوع اشتغالها. فإذا كنا نتحدث الانجليزية بطلاقة دون أن نهتم ببنياتها، فإن هذا لايعني أن محاولة وصف هذه البنيات سيكون أمرا عبثيا. إن الأمر يعود فقط إلى أن الهدف من اللسانيات ليس هو جعل الناس يتكلمون الانجليزية بطلاقة". و لكن كالر في المقابل يتفق مع رورتي حول أن كثيرا من الدراسات الأدبية لا تقوم سوى باستعمال النص في محاولاتها لتأويل النصوص الأدبية حين يقول "إن المضلل في الدراسات الأدبية هو أن الكثيرين ممن يحاولون تحليل المظاهر اللغوية والنسق والبرامج الفرعية للأدب، إذا جاز التعبير، يعتقدون أن ما يقومون به هو تأويل للعمل الأدبي. وإلى هذا يعود الانطباع، كما يلاحظ ذلك رورتي، بأن هؤلاء لا يقومون إلا باستعمال الأعمال الأدبية لقص حكايات عن العدد الذي لا يحصى من قضايا الوجود الإنساني.وقد لا يكون لهذه الاستعمالات سوى علاقة واهية مع الطريقة التي تشتغل بها الأعمال الأدبية، أو مع الأبحاث المرتبطة بها. ومع ذلك، فعادة ما يلعب بحث من هذا النوع دورا هاما في هذا المشروع حتى ولو لم يكن ذلك باديا في الحكاية التأويلية. لكن اتفاق كالر الجزئي مع رورتي لا يمنعه من اعتراضه القوي على قول رورتي عن عقم و لا جدوى محاولات فهم الكيفية التي تشتغل بها النصوص الأدبية.يقول كالر عن ذلك "إن الأهم من ذلك كله هو أن المجهود الذي يبذل من أجل فهم كيفية اشتغال الأدب هو هدف عقلي سليم حتى ولو لم تكن أهمية ذلك بنفس أهمية المجهود المبذول من أجل فهم اشتغال اللغات الطبيعية أو فهم خصائص برامج الحاسوب. والحال أن تكون الدراسة الأدبية تخصصا هو بالضبط المحاولة الرامية إلى تنمية فهم منهجي للميكانيزمات السميائية للأدب، وكذا مختلف استراتيجيات أشكاله". ثم ينتقد كالر مفهوم رورتي البراغماتي حول دور الدراسات الأدبية المتمثِّل في استعمال النصوص ،حين يقول "إن الشيء الغائب في رد رورتي هو الوعي بأن الدراسات الأدبية يمكن أن تكون شيئا أكثر من مجرد محبة شخصيات أو استجابة لها، أوالبحث عن الثيمات في الأعمال الأدبية. إن رورتي يتصور أناسا يستعملون الأدب ليعرفوا أشياء خاصة بهم -وهو ما يشكل بالتأكيد استعمالا هاما - ولكنه لا يتصور أنهم سيكونون قادرين على معرفة شيء ما عن الأدب. ومن الغريب أن تتجاهل حركة فلسفية تطلق على نفسها اسم (التداولية) هذا النشاط العملي الذي يمكن من خلاله اكتساب معرفة خاصة بطريقة اشتغال إبداعات إنسانية كالأدب. فكيفما كانت المشاكل الإبستمولوجية التي تثيرها فكرة معرفة الأدب، فمن الواضح، من الناحية العملية، أن الذين يدرسون الأدب لا يكتفون ببلورة تأويلات (استعمالات) تتعلق بأعمال خاصة، بل يكتسبون أيضا فهما عاما لفحوى وكنه الأدب وأبعاده وممكناته وبنياته المميزة". ثم يشن كالر هجوما لاذعا على البراغماتية "التداولية" الامريكية المعاصرة و علاقتها بالأكاديميا حين يقول "بيد أن ما أثار حفيظتي على نحو خاص في التداولية الأمريكية المعاصرة (كما هو الشأن مع رورتي وفيش مثلا) هو أن أشخاصا وهم يتبوؤون مكانة مهنية رفيعة من خلال مشاركتهم في نقاشات صاخبة مع أعضاء آخرين ينتمون إلى حقل أكاديمي معين كالفلسفة أوالدراسات الأدبية، ومن خلال تمييزهم بين المصاعب التي تطرحها تصورات سابقيهم وكذا هشاشتها، وباقتراحهم لإجراءات أخرى وغايات أخرى، إن هؤلاء الأشخاص بمجرد ما يحققون شهرة مهنية يغيرون فجأة مسلكهم ويرفضون فكرة وجود نظام من الإجراءات وكذا وجود نظام معرفي تكون عملية البرهنة داخله ممكنة. وتبعا لذلك فإنهم يقدمون الحقل الأكاديمي باعتباره مجرد مجموعة من الأشخاص يقرؤون الكتب ويحاولون أن يقولوا بصددها أشياء مهمة. إنهم بذلك يسعون إلى تدمير البنية التي أوصلتهم إلى هذه المكانة، وهو ما كان سيسمح لآخرين الوصول إلى نفس الموقع ومعارضة آرائهم. وللتدليل على موقفه السلبي تجاه البراغماتية "التداولية" الأمريكية المعاصرة ،يضرب كالر مثالا بموقف ستانلي فيش الذي "قد بلور مجموعة من الحجج النظرية حول طبيعة الدلالة الأدبية ودور سيرورة القراءة، مدعيا أن الذين عالجوا هذه القضايا قبله كانوا على ضلال. وما أن استقر به الحال في هذا الموقف، حتى انقلب عليه قائلا : (لا وجود لأي شيء في الواقع يسمح بالقول أننا على خطأٍ أو على صواب. ولا وجود لأي شيء من هذا في طبيعة الأدب أو القراءة. هناك فقط قراء ونقاد لهم بعض المعتقدات ولا يقومون إلا بما قاموا به. ولا وسيلة في أيدي قراء آخرين تسمح لهم بالطعن فيما أفعل، ذلك أنه لا وجود لموقف خارج المعتقد الذي قد نحكم من خلاله على سلامة مجموعة من المعتقدات). وما يقوله رورتي في رده لا يشكل سوى نسخة أقل ابتهاجا فيما يسميه ب"مسير التداولي". و يحاول كالر أن يبين التناقض الحاصل بين كتاب لرورتي ،و دعوة رورتي الناس للتخلي عن أية محاولة للكشف عن أنساق و بنية النصوص الأدبية حين يقول مقارنا "إن كتاب رورتي " L'homme spéculaire" كتاب دقيق من حيث التحليل الفلسفي وذلك لأنه يقارب الجهاز الفلسفي باعتباره نسقا يتمتع ببنية، ويكشف عن علاقات التناقض الموجودة بين مختلف أجزاء هذه البنية، تلك التي تعيد النظر في الطابع الأساس لهذا الجهاز. فأن تدعو الناس إلى التخلي عن أية محاولة للكشف عن البنيات والأنساق التي تسندها، والاكتفاء باستعمال النصوص للغايات الخاصة، معناه حرمان الآخرين من القيام بدورهم بما يسمح لهم باكتساب معرفة. وبنفس المعنى، سيكون من المجدي لطلبة الأدب ألا يتعبوا أنفسهم في محاولة فهم كيف يشتغل الأدب، وأن يكتفوا فقط بالاستمتاع به أو أن يقرؤوا أشياء حول الأدب أملا في العثور على كتاب قد يغير حياتهم". و حسب كالر فإن رؤية رورتي الخاصة بالدراسات الأدبية "تساهم، من خلال نفيها للبنية العامة للحجاج التي تمكن الشباب أو المهمشين من الاعتراض على تصورات هؤلاء الذين لهم باع طويل في ميدان الدراسات الأدبية، في جعل هذه المواقع بعيدة عن أي انتقاد وتقيم بالفعل بنية من خلال نفيها لعدم وجود بنية". ويخلص كالر إلى أن النقطة المركزية في رد رورتي لا تعود إلى التمييز ( أو غياب التمييز ) بين التأويل والاستعمال، بل "بالتأكيد الذي وفقه يجب ألا نتعب أنفسنا في فهم طرق اشتغال النصوص، تماما كما لا تجدي معرفة الطريقة التي تشتغل الحواسيب وفقها، ذلك أنه بالإمكان استعمالها دون معرفتها. إن الدراسات الأدبية، وألح على ذلك، هي بالتأكيد محاولة لاكتساب معرفة من هذا النوع". و يختم كالر رده على رورتي بتقديم بعض الملاحظات الخاصة بنقطة حاسمة تتعلق بالاتفاق الحاصل في وجهتي نظر رورتي وإيكو، المتمثلة كما يرى كالر،في رغبتهما في إقصاء التفكيكية.و يعلق كالر على تلك الرغبة قائلا " وهذه الرغبة المشتركة تؤكد، رغم كل ما قيل، أن التفكيكية حية وهي كذلك بقوة. ومن الغريب أن كلا منهما يقدم وصفا لها يكاد يتناقض مع وصف صاحبه. فإيكو يرى فيها الشكل الأقصى للنقد المرتكز على القارئ، كما لو أن النص يدل على ما يود القارئ من النص أن يدل عليه. في حين يتهم رشار رورتي التفكيكية، وبول دو مان ( Paul de Man) بالتحديد، بأنه يرفض التخلي عن فكرة الوجود الفعلي للبنيات النصية، مع كل الإرغامات التي تفرضها هذه البنيات على القارئ الذي تقتصر قراءته على التعرف على ما هو موجود بشكل سابق داخل النص". أما رورتي فكما يقول كالر فإنه "يتهم التفكيكية بالتمسك بوجود مفترض للبنيات أو الميكانيزمات النصية الأساسية، ومواصلة الاعتقاد بإمكانية اكتشاف كيفية اشتغال النص. وفي تصوره، فإن التفكيكية على ضلال، ومرد ضلالها رفضها قبول أن القراء لا يملكون سوى طرق مختلفة في استعمال النصوص ولا أحد بينهم يمكن أن يقول شيئا أعمق من ذلك". و قد ردّ أمبرتو إيكو في نهاية محاضراته عن "التأويل و التأويل المضاعف" على ورقة رورتي المتعلقة برواية إيكو "بندول فوكو" و اعتراضه على تمييز إيكو بين تأويل النص و استعماله. رورتي في نظر إيكو كان قد استعمل روايته "بندول فوكو" كقارئ تجريبي لم يقرأ نصية الرواية بشكل عام،و ذلك ما يفترض ان يقوم به قارئ الرواية النموذجي.و لذلك حسب إيكو،فرورتي ربط الرواية بمؤلفها التجريبي،من خلال تركيز انتباهه على بعض أبعاد الرواية،و مستبعدا لبعض الأبعاد الأخرى.لقد استخدم رورتي بعضا من روايتي-يقول إيكو في رده-لتخدم أغراض حجته الفلسفية". في الثقافة العربية لفت دفاع رورتي عن استعمال النص نظر بعض الأكاديميين العرب مثل الأكاديمي الجزائري عبد الغني بارة.و قد عبد الغني بارة على آراء رورتي في مقاله "استعمال النصوص و حدود التأويل-في نقد الممارسة التأويلية عند إمبرتو إيكو".فهو يرى أن ما تدعيه البراغماتية الامريكية من خلال ممثلها رييشارد رورتي من منح القارئ سلطة إخضاع النص لمقاصده المختلفة "ليس أكثر من مجرد أغلوطة تهدف بأوهامها هذه إلى تحقيق أغراض شخصية و أفكار متطرفة تبرز فيها الذات تعاليها على الموضوع و قدرتها على إعادة تشكيله بما تراه يتلاءم و طبيعتها النرجسية".و يرى أن تلك النزعة النرجسية هي تمظهر لما يسميها "الذات الأمريكية"،و التي هي حسب كلماته "تعتقد بأنها مركز الذوات و أنها من القوة بحيث تستطيع أن تعيد صياغة العالم من حولها بالكيفية التي تناسب أحلامها و طموحاتها". ********************************** و نواصل