تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفكر والأخلاق في طرح د. النعيم الحلقة الأولى: مدخل


بسم الله الرحمن الرحيم
(فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)
صدق الله العظيم
القراء الكرام، السلام عليكم ورحمة الله
نواصل مناقشتنا لطرح د. عبدالله أحمد النعيم.. ولقد اكتشفنا من أقواله المفارقة للدين، ما يجعل كل ما سبق أن أوردناه، لا يكاد يساوي شيئاً!! كما أننا وقفنا على فلسفته الأساسية، التي على ضوئها يحاكم الدين.. ونحن في هذه الحلقات سنبدأ بعرض أساسيات هذه الفلسفة كما هي في الغرب.. ثم نتحدث عن فلسفة النعيم، وتطبيقها في الإسلام بصورة عامة وعلى الفكرة الجمهورية بصورة خاصة، وسينحصر موضوعنا في مجالين، هما: المجال الأول: التفكيك العام والمبدئي للإسلام، والمجال الثاني: تفكيك الأخلاق، خصوصاً في مجال السلوك الجنسي.
نحن لا نحتاج لتوثيق النصوص التي سبق أن أوردناها موثَّقة، ولذلك، سنركز على توثيق النصوص الجديدة، التي لم يسبق للقارئ الكريم أن اطلع عليها .
مدخل:
يقول د. النعيم أنه اكتشف، أن العلمانية ليست ضد الدين، فاعتنق علمانية الدولة بالكامل.. ويقول أنه متفائل براغماتي.. والقضية، ليست هي، هل العلمانية ضد الدين أم ليست ضده، بهذه الصورة المعممة.. وإنما القضية هي، هل طرح النعيم، كطرح علماني، يقوم على الدين، ولا يخالف أساسياته، أم هو يقوم على العلمانية، ويخالف أساسيات الدين؟! فالأمر الذي يعنينا هو، العلمانية كما يمثلها طرح النعيم، وليس أي علمانية أخرى.
الأمر الواضح جداً، أن علمانية النعيم، تقوم على أسس (ما بعد حداثية).. وبصورة خاصة تتعامل مع الإسلام وفق منهج التفكيك.. والنعيم يقول صراحة إنه براغماتي.. والبراغماتية الحديثة بعثها، ما بعد الحداثيون، في الولايات المتحدة.. كما أن النعيم يقول أنه نسبوي (نسبي) فهو يتبنى بعض مقولات النقد النسبوي.. وجميع هذه القضايا، متكاملة، ويفسر بعضها البعض، ويشملها مسمى واحد، هو: ما بعد الحداثة.
ما بعد الحداثة بصورة عامة، هي ثورة ضد الحداثة، وضد البنيوية.. ورغم ذلك، احتفظت ببعض المقولات الحداثية والبنيوية.. والحداثة مرتبطة بفكر حركة التنوير، الذي بلغ أوجه في القرن الثامن عشر.. وينطلق التنوير من أن الإنسان هو مركز الكون وسيده، بعد أن أبعد الله عن هذا المركز وأعلن نيتشة موت الإله.. وعند الحداثيين، الإنسان لا يحتاج إلا لعقله، سواء في دراسة الواقع، أو إدارة المجتمع، والتمييز بين الخير والشر.. وقد أصبح العلم المادي التجريبي هو أساس الفكر، والتكنولوجيا هي الأداة الأساسية في العمل على تسخير الطبيعة، بل وقهرها، من أجل تحقيق سعادة الإنسان ومنفعته.. والعقل هو الآلية الوحيدة للوصول إلى المعرفة.. وقد عرّف البعض الحداثة بأنها: استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا.
والفكرة الأساسية، في فكر الحداثة هي مفهوم التقدم، بوصفه قانوناً طبيعياً عاماً. والحداثة، جعلت النموذج الحضاري الغربي، هو النموذج المعياري الذي ينبغي أن يكون نموذجاً قياسياً للبشرية جمعاء.
يقول رورتي: "كان التحديث هو مشروع نزع الألوهية عن العالم.. وهو يعني ألا ينسب الإنسان صفة القداسة لأي شيء في الكون، وأنه لا حاجة لتجاوز المعطى المادي.. فالإنسان موجود في العالم المادي، لا يتجاوزه، والعالم المادي (الزماني المكاني) هو مستقَر كل القوانين التي يحتاجها الإنسان.. ويذهب إلى القول: إن الحضارة العلمانية الحديثة لن تكتفي باستبعاد فكرة المقدس أو بإعادة تفسيرها بشكل جذري، وإنما ستهاجم الذات الإنسانية نفسها كمصدر للحقيقة، فهي ستهاجم فكرة (تكريس الذات للحق..[الحقيقة] و(تحقيق الحاجات العميقة للذات، وبيَّن رورتي، أن التقدم ما هو إلا حركة مستمرة لا نهاية لها وتغيُّر دائم، وهو يعني سقوط الثبات".
ولقد عرَّف البعض العلمانية، بأنها (نزع القداسة من كل شيء).
نحن معنيون بما بعد الحداثة بصورة خاصة، وبالتفكيك بصورة أخص.. تؤرخ الحرب العالمية الثانية، لفشل الحداثة والتحول عنها إلى البنيوية وما بعد الحداثة، وهما بمعنى واحد.. فالبنيوية هي المصطلح الذي ساد في فرنسا، وما بعد الحداثة هو المصطلح الذي ساد في الولايات المتحدة.. وبعد التحول عن الحداثة، أصبح مصطلح ما بعد البنيوية، هو السائد في فرنسا وأوروبا، وما بعد الحداثة، والتفكيك، هو السائد في الولايات المتحدة.. ونحن، بحسب موضوعنا، يعنينا مصطلح (ما بعد الحداثة)، وبصورة خاصة التفكيك، لعلاقته بموضوعنا.
لقد أدت الحرب العالمية الثانية إلى دمار شامل في أوربا، وتم استخدام الولايات المتحدة لقنبلتين ذريتين في هيروشيما ونجازاكي باليابان.. وقد أدى هذا إلى شعور بالرعب من نتائج التطبيقات التكنولوجية للاكتشافات العلمية.. وتأكد للعالم الفشل في تحقيق السعادة الموعودة، والفشل في تحقيق الأمان والمعرفة اليقينية.. وعاد عصر الشك، عنيفاً.. الشك في قدرة الإنسان، وقدرة العقل، وقدرة العلم، على تحقيق المعرفة اليقينية.. وأدى رد الفعل إلى ظهور ما بعد البنيوية، وما بعد الحداثة.. وجاءت الدعوة إلى العودة إلى الذات، والارتماء في أحضانها بلا قيود.. ولكن العودة إلى الذات، هذه المرة، ليست عودة للثقة في الذات، أو العقل، على تحقيق المعرفة، وإنما هي عودة للشك الشامل، الشك في كل شيء، وخيَّم شكٌ فلسفي جديد على العالم، وكانت ما بعد الحداثة هي نتاج هذا الشك، والمعبِّر عنه.
يقول ديفيد هارفي، عن المناخ الذي أدى إلى ما بعد الحداثة: "وجاء القرن العشرين ليمزق ذلك التفاؤل إرباً عبر معسكرات الموت، وفِرَق الموت، وعبر العسكرة، والحربين العالميتين، وخطر الفناء النووي، وتجربته بالفعل في هيروشيما ونجازاكي، بل إنه تضمن، وعلى نحو أسوأ، أن يكون مشروع التنوير، قد حكم عليه أن يتحول إلى عكس ما يعلنه، وأن يحيل مطلب التحرر الإنساني إلى اضطهاد عالمي، باسم تحرير البشر.
تلك كانت الأطروحة الجريئة التي تقدم بها هوركهايمر وأدورنو في عملهما (ديالكتيك التنوير) الصادر عام 1972م.. لقد حاولا بالبرهنة، وفي الذهن تجربة المانيا هتلر وروسيا ستالين، على أن المنطق الذي يقبع خلف عقلانية التنوير هو منطق هيمنة واضطهاد. والتلهف إلى السيطرة على الطبيعة، جلب معه، السيطرة على البشر، ولم يكن من الممكن أن يوصل ذلك في النهاية (إلا إلى كابوس قهر للذات).. وهكذا جرى تصور تمرد الطبيعة، الذي افترضاه هو الطريق الوحيد للخروج من المأزق، على أنه تمرد الطبيعة البشرية بالذات على سلطة الاضطهاد لدى العقل الأداتي الصرف، ضد الثقافة والشخصية". 2 ص 31
فقد ظل البعض يدعم مشروع التنوير، وهؤلاء مثل هابرماس، الذي احتفظ بشكوكه القوية في أهداف المشروع، وقلقه حول الصلة بين الوسائل والغايات، مع قدر واضح من التشاؤم في إمكانية تحقيق مثل هذا المشروع في ظل الشروط السياسية والاقتصادية الراهنة.
أما الأغلبية، فقد أصروا، على أنه، علينا، باسم تحرير الإنسان، إعلان الطلاق كلياً مع مشروع التنوير.
المهم عندنا، دون الحاجة إلى التفاصيل إدراك أن ما بعد الحداثة، تمثل ثورة ضد التنوير، وعقل التنوير.. وقد اتخذت هذه الثورة عدة وجوه.. يهمنا منها هنا، منهج التفكيك، لما له من علاقة مباشرة ووطيدة، بطرح د. النعيم، مما يلقي الضوء على اتجاهاته التفكيكية، التي تقوم على المدرسة الأمريكية، واتجاهه الخطير جداً، إلى تطبيق التفكيك على الإسلام.. هذا بالإضافة إلى تبنيه لبعض المقولات والفلسفات الأخرى، التي سيرد ذكرها.. ولكننا هنا نركز على التفكيك بصورة خاصة.
التفكيك:
شهدت الفترة ما بين 1968م و1972م ميلاد ما بعد الحداثة، من رحم الاحتجاج على الحداثة في الستينات.. لقد كانت البداية للمنهج التفكيكي، بحث دريدا الذي قدمه في جامعة (جونز هوبكنز) عام 1966م ويمثل التفكيك في أمريكا (مدرسة ييل التفكيكية) ((School of Yale التي تضم النقاد (بول دي مان، وهيليس ميللر، وجوفري هارتمان، وهارولد بلوم)، وقد عدَّ هؤلاء -انطلاقا من معطيات جاك دريدا التفكيك ممارسة سياسية في جوهره، ونظاماً فكرياً محدداً، وقوة نظام كامل من البنى السياسية، ولاحظوا ايضاً أن الاستخدام الأمريكي للتفكيك يعمل على الحفاظ على الانغلاق المؤسساتي، الذي يخدم بدوره المصالح السياسية، والاقتصادية، المهيمنة في المجتمع الأمريكي.
تقول الموسوعة الأمريكية :Encarta "أن ما بعد البنيوية حركة انبثقت من البنيوية، وتدور أسئلتها المركزية حول البنية الاجتماعية واللغة، وامتلاك فضاءات واسعة للتصورات المستقبلية، ولا يرد مصطلح ما بعد البنيوية في هذه الموسوعة إلا في الأدب الفرنسي، أما مصطلح التفكيك فيرد عندها في الأدب، والنقد الأمريكي حصراً" 3 ص 31
يهمنا، عرض المبادئ والمقولات الأساسية للتفكيك، وبإيجاز، لتكون خلفية لتطبيقات د. النعيم لها على الإسلام.. يلاحظ أن التفكيك، بدأ أساساً، كأمر يتعلق باللغة والنقد، إلا أنه اصبح، فلسفة عامة، وشاملة.. ونحن هنا نورد بعض المقولات الأساسية للتفكيك، باختصار، بقدر الإمكان..
موت المؤلف:
مقولة موت المؤلف، من المقولات الأساسية، في منهجية التفكيك، وهي امتداد لمقولة نيتشة عن موت الله.. وتعني مقولة موت المؤلف "(أنا) المؤلف، أو الكاتب لا وجود لها إلا في وعي القارئ.. إن ادراكها من جانب القارئ، ذلك الآخر، يتوقف على قدرته الدائمة على تفكيك النص، بل تفكيك نفسه، هذا ما يعنيه شعار (موت المؤلف) الذي رفعه البنيويون أولا، وأكده التفكيكيون بعد ذلك في إصرار". 1 ص 342
ويعتبر موت المؤلف هو التحدي الأكبر لفكرة النص المغلق المستقل، كما جسَّدها بطرق مختلفة، ولأهداف مختلفة متباينة، البنيويون، والنقاد الجدد على السواء.
موت المؤلف، يعني، ضمن ما يعني، انتفاء قصدية المؤلف، فهذا أمر مستبعد عند التفكيكيين.
كما أن موت المؤلف، يعني غياب المركزية، وهذا من أهم مقولات التفكيك.. فبما "إن المعرفة في حد ذاتها كيان متغير، ودائم التحول، لأن العالم الخارجي، الذي يرتبط به الوجود، في حالة تحول، وتغير، مستمرة. لكن تحقيق المعرفة بهذا العالم المتحول والمتغير يفترض، فلسفياً، وجود مركز ثابت، يرى دريدا أن له اسماء مختلفة، عبر تاريخ المعرفة الإنسانية مثل المركز الثابت.. مركز الوجود، الجوهر، الكينونة، الحقيقة، الوعي، الله، الإنسان.. وهي تسميات تشير في رأي دريدا إلى (المدلولات العليا)، التي تمثل أرضية ثابتة تقف فوقها متغيرات العالم الخارجي الذي يمدنا بالمعرفة.. وهذا المركز الثابت، هو ما يرفض المشروع التفكيكي الاعتراف بوجوده" 1 ص 301..
غياب المركز الثابت، مبدأ هام جداً، في النظرية التفكيكية، وهو مبدأ يغيِّب المعنى الثابت، ولو ثباتاً نسبياً..
يقول دريدا: "في عصر خيَّم عليه الشك، تفقد المراكز المرجعية، كالعقل، والإنسان، والوجود، والله، قيمتها التقليدية.. والنتيجة؟ دلالة لانهائية، ومعنى مراوغ، وحضور في غياب وغياب في حضور، وتكسر الوحدة، والتشرذم، والانتشار.. برغم أن اللغة هي محور التحليل في فكر الحداثة كله، في البنيوية، والتفكيك، إلا أن المشكلة في التفكيك ليست كما يتصور البعض، هي مشكلة اللغة وقصورها عن تحقيق الدلالة.. المشكلة معرفية وأنطولوجية بالدرجة الأولى.. وقصور اللغة المتمثل في المراوغة والغموض الناتجين عن اللعب الحر للعلامة، ترجمة لعصر الشك المعرفي".1 ص 345
"في ظل غياب المركز الثابت الخارجي الذي يمكن أن يحال اليه النص لتحقيق المعنى، عملاً بمبدأ الإحالة التقليدي logocentrism، سواء أن كان ذلك هو الإنسان أو العقل أو الله، أو حتى ذات الكاتب، يكون البديل في استراتيجية التفكيك هو اللعب الحر للمدلولات داخل نسق لغوي مغلق، ولا نقصد بالنسق اللغوي المغلق هنا ذاتية النسق اللغوي البنيوي واستقلاله، بل نقصد الانغلاق الذي يترتب على اختفاء او مراوغة المدلولات للدوال، والذي يجعل الدوال تشير الى مدلولات عائمة متحركة دون مثبتات، مما يحولها في نهاية الأمر الى دوال لمدلولات أخرى، أي تحول اللغة الى دوال فقط تشير الى دوال أخرى" 1 ص 348
القارئ أو المتلقي:
السؤال المحوري، الذي يشغل النقد، عبر تاريخه، هو: أين يقع معنى النص؟ وهنا تأتي أهمية القارئ، في التفكيك.. فعملياً، حسب التفكيك، القارئ هو الذي يصنع المعنى، وبطريقته الخاصة!!
يقول حمودة: "إن أهم محاور التفكيك، يرتكز على الأهمية الجديدة التي يكتسبها القارئ، والدور الأساسي الذي يلعبه في تفسير النص" 1 ص 314 .. ويقول: "لا نكون مبالغين إذا قلنا إن أهم الأدوار، في استراتيجية التفكيك، هو دور القارئ، وليس المؤلف أو العلامة، أو النسق، أو اللغة.. القارئ فقط هو الذي يحدث عنده المعنى، ويحدثه.. ومن دون هذا الدور، لا يوجد نص أو لغة أو علامة أو مؤلف.. من هنا فإن أي مناقشة للتفكيك لابد أن تبدأ بالقارئ، وتجربة التلقي التي لا يوجد قبل حدوثها شئ. ومن هنا ايضا اجلنا حديثنا عن نظرية التلقي reception theory ورد فعل القارئ reader response الى حين مناقشة التفكيك ذاته" 1 ص 321
ووظيفة القارئ، حسب التفكيك، ليست اكتشاف النص، بل كتابته.. فرونالد بارت، كأحد كبار زعماء التفكيك، يمنح القارئ، سلطات مطلقة، لاكتشاف المعنى أو التفسير للنص، بل لإعادة كتابته دون تحفظات.
النص حسب التفكيك صفحة بيضاء، لا يقول شيئاً قبل أن يسقط القارئ رغبته عليه!! يقول بارت: "النص لا يقول شيئاً، فهو لا يحمل معنى نهائياً، مغلقاً. وبهذا الإنفتاح، والخلو، يقول كل شيء تسقطه عليه (رغبة) القارئ.. ماذا عن النص؟ وهل هو موجود؟ يرى بارت، أنه غير موجود، وموجود، في نفس الوقت.. فهو موجود باعتباره نصاً ثابتاً لمؤلف معروف.. وهو ليس ثابتاً، والمؤلف توفاه الله بعد كتابته.. إنه يوجد فقط بقدر قابليته لإعادة كتابته من جانب القراء"1 ص 335 ..
يقول حمودة: "إذا كان المؤلف في استراتيجية التفكيك قد اختفى بموته بمجرد انتاجه للنص، ومن ثم لا يستطيع تحقيق الدلالة في ضوء قصدية لا وجود لها، وإذا كان النص ليس مغلقاً أو نهائياً، بل مفتوح أمام القارئ يدخله من أي زاوية يشاء، فماذا يبقى من النص إذن؟ لم يتبق لنا الكثير، بمعنى، وتبقى لنا كل شيء، بمعنى آخر، وهو اللغة ونظام العلامة على وجه التحديد" 1 ص345
ولكن هل اللغة تحدد المعنى، عند التفكيكيين؟! الإجابة الواضحة، والمختصرة، لا!! يقول هيليس ميللر Hillis Miller أحد أقطاب التفكيك: "إن فكرة الاستخدام الإحالي الحرفي للغة referential مجرد وهم نشأ عن نسياننا للجذور المجازية للغة. إن اللغة منذ البداية أكذوبة" 1 ص 345
القارئ، في التفكيك، عندما يقرأ النص، لا يعتمد على ما هو مكتوب فيه فقط، وإنما الى جانب ذلك، يعتمد على ما يعرف بأفق القارئ، ويشمل الأفق التاريخي، والأفق الثقافي، وأوضاعه الذاتية.. فالقارئ، يعيد انتاج النص وفق هذا الأفق.. هذا، بالإضافة الى التناص أو البينصية intertextuality وهي تشمل بالإضافة للنص المكتوب، النصوص التي يملكها القارئ، والتي تتفاعل مع النص الأصلي، وتعطي دلالة، مختلفة عما يقصده المؤلف.
يقول جادامر: "لا توجد قراءة صحيحة أو نهائية ما دام الأفق متغيرا وغير مغلق تماماً كالثقافة التي تنتجه. فالتاريخ والثقافة والسياق والأفق، كلها في حالة حركة، وفي نفس الوقت، فإن معنى النص، وهو لانهائي مفتوح، يرتبط بالزمن والتاريخ، ولا يمكن وصفه بالثبات Timeless ، لأن تفسير النص، وتحديد المعنى، يقررهما أفق المتلقي، القارئ للنص، الأفق الذي يحدده سياق تاريخي زماني Timely" 1 ص 325.
في مانفستو فنسنت ليتش للتفكيك جاء عن التناص: "في التناص، النص ليس شيئاً موحداً أو مستقلاً، لكنه مجموعة من العلاقات مع نصوص أخرى. إن نظامه اللغوي، ونحوه، ومعجمه، تجر معها شذرات آثار traces من التاريخ، بحيث يشبه النص مركز توزيع لجيش خلاص ثقافي، يضم مجموعات لا يمكن تفسيرها من الأفكار والعقائد المتنافرة. إن شجرة النص هي بالضرورة شبكة غير مكتملة من مقتطفات واعية، وغير واعية مستعارة... كل نص هو بينص" 1ص 340
الدوال في التفكيك، تميل الى دلالات، تصبح هي نفسها دوال لدلالات أخرى، وهكذا الى ما لانهاية.. فكل قراءة هي غير صحيحة، وصحيحة في نفس الوقت.. والقارئ يستطيع ان يستخرج من النص معانٍ لا حصر لها، وقد تكون متناقضة.
من الأفضل، أن نقدم هنا، بعض نقاط ليتش مما يسميه (منفستو متأخر للتفكيك)، فمن هذه النقاط:
1. "إن كلمة شجرة، ذلك التجمع لأربعة حروف، ليست هي ذلك الشيء الخشبي، إن هذه العلامة تدل على غياب الشيء"
2. "في المعنى، يمكن جعل معظم النصوص تولد مجموعة لانهائية تقريباً من الأوصاف الراقية للمعنى: لماذا نقصر ثقتنا على المعنى؟ إن المعنى انتاج متأخر. منع للعب"
3. "ما هي القراءة؟ عندما يكرر الناقد عنصراً في النص، فإنه يغيره. بهذا الشكل، فإن القراءة هي عملية تغيير للحقيقة، وليست نقلاً لها.. إن خلق القراءة، وهو فعل تنبؤي وبلاغي، ينتج عن خطأ. إنه حالة الحافة.
كل القراءات خطأ قراءات بالضرورة.. النصوص غير قابلة للقراءة.
إن النقد يصر على القيام بما لا يمكن القيام به.. وهو قراءة النصوص.. لا يمكن أبداً أن تكون هنالك قراءات صحيحة أو (موضوعية)، بل مجرد قراءة، أقل أو اكثر حيوية، وإثارة للاهتمام، وحرصاً، أو ممتعة"
4. "في التناص، إن النص ليس شيئاً موحداً أو مستقلاً، لكنه مجموعة من العلاقات مع نصوص أخرى".
ذات القارئ:
اعطاء التفكيك الأولوية للقارئ، يمكن أن يوهم البعض، بأن هنالك مركز إحالة، هو ذات القارئ، ولكن هذا، في استراتيجية التفكيك، خلاف الحق.. فذات القارئ نفسها، تتعرض للتفكيك!!
يقول حمودة: "وماذا عن (أنا القارئ)؟ ونحن نقصد القارئ الواحد في تعامله مع نص واحد، ونصوص مختلفة.. هل القول بأن النص لا يوجد إلا في التلقي، وأن الكاتب لا يوجد إلا في وعي ذلك القارئ/ الآخر، يعني أن ذاته هو أكثر ثباتاً وديمومة، وأقل انمحاءاً من ذات المؤلف؟ بالنسبة لبارت، فإن ذات القارئ نفسها لا وجود لها، بمعنى انها لا تملك وجوداً محدداً وثابتاً" 1 ص 342
ويقول: "فذات القارئ أو المتلقي، ليست أكثر تحديداً، وأقل مراوغة. أنها هي الأخرى، تخضع لعملية تفكيك مستمرة، باعتبارها المجال الأول الذي تعبر فيه البينصية عن نفسها" 1 ص 342
ويقول حمودة: "إن موقف بارت من المؤلف، لا ينفصل عن موقفه من الذات التي يعتبرها وهماً، سواء كنا نقصد بذلك ذات الشخصية في النص الروائي أو ذات الكاتب، أو ذات الناقد، بل حتى ذات القارئ. والواقع أن بارت في تفكيكه للذات أياً كانت، يبدأ بذات بارت نفسه، ذات الكاتب أو القارئ.. الذات أو (الأنا) في منظوره النقدي الفلسفي، ليس سوى منتج لغوي، يفرزه اللعب الحر للمدلولات.. ذات المؤلف أو الكاتب، تعتبر نصاً طويلاً مفككاً، وهي ليست في حالة تناقض بل تبعثر" 1 ص341
الخطاب التفكيكي، يقوم على عدم الإنتظام، والتقطيع وعدم الإتصال، ورفض النظرة الكلية، ورفض وجود مركز، ورفض وجود ثابت حتى بالنسبة للمعنى، أفضل تعبير عنه هو قول إمام التفكيك دريدا، أنه كولاج/ مونتاج يعني جبة درويش مرقعة، فيها الرقع مختلفة الأشكال والأحجام، كما أنها مختلفة الألوان، دون تنسيق فدريدا يرى أن الكولاج /مونتاج هو الشكل الأساسي في الخطاب ما بعد الحداثي، "والتنافر الداخلي في ذلك الخطاب (أكان في الرسم التشكيلي، أو في الكتابة، أو في العمارة) يمنحنا، نحن متلقي النص أو الصورة، الحافز (لإنتاج دلالة لا تكون أحادية ولا مستقرة).. ومنتجو النصوص (الأعمال الثقافية)، ومستهلكوها يتشاركون معاً في انتاج الدلالات والمعاني" 2 ص 73
وهم يحبون أن يعبروا عن وضعهم، تعبيراً إقتصادياً رأسمالياً.. يقولون مثلاً: المنتج الثقافي، إنما ينتج المواد الخام (الأجزاء والعناصر)، تاركاً كل العمل مفتوحاً للمستهلكين لإعادة جمع هذه العناصر وبالطريقة التي يرغبون فيها.. أما تأثير ذلك، فهو كسر سلطة المؤلف في المعاني، وفي تقديم رواية مستمرة.. ففي وسع أي عنصر، في أي موقع، بحسب دريدا، كسر الاستمرارية أو خطية الخطاب، فيقود ذلك، بالتالي الى قراءة مزدوجة، قراءة للجزء مدركاً في علاقته بالنص الأصلي، وقراءة أخرى له وقد خلط في كل جديد ومختلف.. والاستمرارية إنما تظهر فقط (ما تبقى) من الجزء بينما هو يتحرك من الإنتاج الى الإستهلاك.. أما نتيجة ذلك كله، فهي اخضاع أوهام الأنظمة الثابتة كلها للمساءلة والنقد2 ص 75
مفكرو ما بعد الحداثة عموماً، ضد أي نظرة موحدة للعالم أو أي نظرة كلية، وهنا يجيء التساؤل، "طالما أننا لا نستطيع، كما يشدد مفكرو ما بعد الحداثة، أن نطمح الى أي تمثيل موحد للعالم، ولا تصويره كلاً مشتملاً على روابط وتمايزات وليس مجرد شظايا في حالة تغير مستمر، فكيف يمكننا إذاً أن نطمح الى العمل بصورة متسقة إزاء العالم؟ الإجابة ما بعد الحداثية ببساطة، هي أنه طالما أن كل صورة متجانسة إما قمعية أو وهمية، (ومحكوم عليها بالتالي أن تتبعثر وتنكسر)، فعلينا بالتالي ألا نحاول الإرتباط بأي مشروع له طابع كلي. وهكذا تغدو الذرائعية (كما تمثلها البراغماتية)، هي الفلسفة الوحيدة الممكنة للسلوك" 2 ص 75
التفكيك والزمن:
التوجه التفكيكي، ليس له اعتبار للتاريخ، ولا للمستقبل، وإنما اعتباره كله للحاضر الدنيوي، والمنفعة فيه يقول ديفيد هارفي: "إن انهيار النظام الزمني للأشياء هو الذي يدفع كذلك الى التعامل على نحو خاص مع الماضي. فمابعد الحداثة تتجنب فكرة التقدم وتتخلى عن كل حس بالاستمرارية التاريخية والذاكرة" 2 ص 78
وما بعد الحداثة بصورة عامة، ضد أن يكون لك موقف، كما أنها ضد القيم الثابتة والمعتقدات.. يقول ديفيد هارفي: "هذا الافتقار للاستمرارية التاريخية في القيم والاعتقادات، يضاف اليه اختزال العمل الفني الى مجرد نص رمزي متقطع في الزمن، يفرض على الحكم النقدي والجمالي مشكلات من كل نوع.. فرفض (أو عملياً تدمير) كل المعايير الثابتة للحكم الجمالي باعتبارها معايير سلطوية، لا يبقي للحكم ما بعد الحداثي غير امكانية الحكم على مشهدية المشهد، لا أكثر" 2 ص 80
من الأفضل أن نختم هنا، كتلخيص، بنقاط عزالدين اسماعيل، التي تشمل البنيوية والتفكيك، في وقت واحد.. هذه النقاط هي:
1. العلاقة المفترضة بين العمل ومنشئه، تنقطع نهائياً بينهما بمجرد ظهور هذا العمل الى الوجود
2. منشئ النص ليس له وجود سابق على هذا النص، وإنما هو يولد معه اثناء كتابته
3. النص بعد ذلك يوجد بقارئه، الذي يحل محل الكاتب في كل قراءة، ويتعدد بتعدد قرائه
4. هذا النص إما أن يكون قرائياً، تستهلكه القراءة فلا يعاد تحققه معها، وإما أن يكون كتابياً، بمعنى أن القارئ يكتبه مرة أخرى، في كل قراءة
5. ليس للنص معنىً محدداً، فليست هناك بؤرة مركزية يتمحور حولها هذا المعنى، ولكن هناك دائماً لعب للدوال، واندياح للمعنى نتيجة لذلك الى غير نهاية، وبلا حدود، ومن ثَمَّ تنتفي قابلية التفسير النهائي
6. انتفاء العلاقة بين هذا التفسير، وقصدية منشئ العمل، والارجاء اللانهائي للدال.
7. وحدة النص لا تتمثل في مصدره، بل في الغاية التي يتجه اليها (انتهاء المرجعيات) 1 ص 334
لقد بدأت التفكيكية كنظرية نقدية، ثم أصبحت فلسفة عامة، أخذت مظهرها في جانب الأخلاق، في ما عرف بأخلاق الصيرورة، وهي تنطلق من أن الأخلاق ليست مجموعة من المبادئ الأخلاقية المتجاوزة لرغبات الفرد ومصلحته الذاتية، والتي يلتزم بها الإنسان، وإنما هي مجموعة من الاجراءات التي يتفق عليها أعضاء مجتمع ما.. فلا شئ ثابت سوى الاجراءات، أما الأهداف النهائية للمجتمع والقيم الإنسانية، والأخلاقية الثابتة، فهي أمور نسبية تختلف من ثقافة الى أخرى، ولا يوجد معيار، يجعل قيم ثقافية معينة هي أصح من بقية الثقافات، وإنما الأمر كله يخضع للتفاوض
لقد انتشرت النظرية التفكيكية انتشاراً كبيراً في الجامعات الأمريكية، وأصبحت هي الموضة السائدة.. وواكبها بعث جديد للبراغماتية، ولكن منذ بعض الوقت أصبحت التفكيكية في انحسار.
نقد التفكيكية:
الخطل، والخلل الكبير جداً، في التفكيكية أمر واضح جداً، لكل عقل سليم، ولا يحتاج الى فلسفة، ولذلك، لا نحتاج أن نفصل في النقد.
النقد الأساسي، جاء من مدرسة فرانكفورت وبعض النقاد الآخرين.. وجاء في مجمله ليركز على الفوضى التي خلقها التفكيك، ودون تقديم بديل.. فكما يقول د. حمودة: لقد جاء التفكيك لينسف كل القواعد والقوانين ويعطي الدوال حرية اللعب الكامل منفصلاً عن الدال، ويصبح للقارئ الحق في أن يفسر العلامات بالمعنى الذي يشاء.
ويعلق اشتاينر على خطورة الاعتماد على تفسيرات القراء للنص بقوله: "إن ردود أفعالهم تتغير بتغير الثقافة، وكل قراءة جديدة في وسط ثقافي متغير، تنتج رؤية جديدة للعمل، ومن هنا فإن دراسة الأدب من وجهة نظر القارئ سوف تأخذ دارسي الأدب الى نسبية تهدد هوية العمل ذاتها"1 ص 320
ويقول د. حمودة: لقد كانت نقطة البداية الحقيقية لنظرية التلقي في مرحلتها المتأخرة الناضجة هي استحالة الوصول الى الحقيقة.
يقول ليتش، في وصفه لما حققه أحد اقطاب مدرسة ييل للتفكيك، وهو هيليس ميللر :Hillis Miller "يقوم ميللر بالتقليل من شأن الأفكار والمعتقدات حول اللغة، والأدب، والحقيقة، والمعنى، والوعي، والتفسير.. ويترتب على ذلك قيامه بدور المخرب، الذي لا يكل دور الساحر العدمي الذي يرقص كالشيطان، فوق أشلاء التقاليد الغربية المتناثرة، وسرعان ما يتحول كل شيء، يمسه الى شيء ممزق. اللا شيء فقط هو ما يلبسه ثوباً نهائياً أو يصوره متماسكاً أو يبرزه باعتباره وهماً سحرياً.. إن ميلر، صانع الشقوق الذي لا يكل، يرفض أي تعليمات واضحة، وينطلق بلا قيود راقصاً، يلقي بتعويذته، مدمراً كل شيء.. إنه يبدو كساحر في ثياب ثور تفكيكي انطلق دون قيد داخل حانوت العاديات للتقاليد الغربية" 1 ص 293
"التفكيكيون هنا متمردون على كل شيء، متمردين بالمعنى الكامل للكلمة ويكفي أن نشير إلى (مانفستو) .. التفكيك عند دريدا لندرك مدى ذلك التمرد، ثم إنهم، وهذا أمر واضح، يميلون إلى اتخاذ مواقف استعراضية بل استفزازية تلقى هوى من المثقف الأمريكي صاحب المزاج الذاتي الخاص" 1 ص294
ما بعد الحداثة بصورة عامة، والتفكيكية بصورة خاصة عبارة عن ثورة ضد العقل، وضد القيم.. هي ضد عقل وعقلانية عصر التنوير، ولمصلحة العقل الأداتي المؤسساتي الذي يرى أن المعرفة غير ممكنة!!
والتفكيكية، متهمة، بأنها نظرية تقوم على أيدولوجية تخدم الرأسمالية في طورها الأخير، الذي يقوم على حرية السوق، ونظرتها للاستهلاك كغاية في ذاته النزعة الاستهلاكية consumerism
هذا المدخل ضروري جداً، لفهم طرح د.النعيم وما يقوم عليه من تفكيك للإسلام.. فعند النعيم، عملياً، التفكيك، لا ينحصر فقط في مجال النقد والفلسفة، وإنما يطال الدين نفسه. فقد طبق النعيم منهج التفكيك ليفكك عرى الإسلام، عروة عروة.. فهو كثور ميللر المذكور أعلاه انطلق دون قيد، داخل الإسلام، ليهدم كل مبادئه الأساسية، وقيمه الأساسية، وباسم الإسلام نفسه.. علينا أن نصطحب معنا مبادئ التفكيك الأساسية، لنرى كيف أن النعيم، عمل وفق هذه المبادئ التدميرية، ليفكك الإسلام، وقيم الإسلام، ودون تقديم أي بديل، سوى الواقع القائم في الغرب الذي ليس له فيه دور سوى ترديد بعض مقولاته العلمانية بالذات، وتطبيقها بصورة تفكيكية على الإسلام.
كما أن النعيم، في علمانيته، يطبق بعض مبادئ ما بعد الحداثة مثل: البراغماتية التي هبت من جديد في إطار ما بعد حداثي.. والنسبية في العلم والأخلاق، والذاتية والنقد النسبوي المتطرف، وأخلاق الصيرورة، وغياب المركز، والفردية المتطرفة التي تنكر وجود المجتمع.. وعدم اعتبار التاريخ، والمستقبل، وقبول الواقع كما هو، وجعله معياراً، مع تغييب المعايير الثابتة، وتغييب النظرة الكلية، والتفكير الشمولي.
المراجع:
1. المرايا المحدبة: من البنيوية الى التفكيك، د. عبدالعزيز حمودة
2. حالة ما بعد الحداثة: بحث في أصول التغيير الثقافي، ديفيد هارفي
3. الأسس الفلسفية لنقد ما بعد البنيوية، د. محمد سالم سعد الله
خالد الحاج عبد المحمود
رفاعة في 15/9/2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.