غيض الله لي هذا الاسبوع زيارة جمهورية أرض الصومال و هذه أول زيارة لي لأفريقيا ولا أخفي أبداً أنني كنت متوتر جداً من هذه الزيارة وربما لاحظ أصدقائي علي صفحتي بالفيس بوك أنني كنت أودعهم وداع مفارق. حتي و أنا خارج من البيت تفرست في وجوه أبنائي و بناتي و زوجتي لعلي أري في تلك الوجوه شيئاً ربما لم أتمكن من رؤيته فيهم في الماضي. إنها إضطرابات المفارق النفسية و الوجدانية. و عندما حلق بنا الطائر الميمون إنتابني شعور غريب، و تذكرت أن الفيلة تموت حيث و لدت ،و خطر لي، ربما أنا فيل ذاهب الي أرض ميلاده (أفريقيا) ليموت هناك.. قرأت دعاء السفر و توجهت نحو ما إعتقدته القبلة و أستودعت الله نفسي و خواتيم أعمالي و قرأت سيد الاستغفار و "قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا".. الطائرة إرتفعت عن الارض، و انا الآن جسد مضطرب بين السماء و الأرض. الإزعاج كبير جداً داخل الطائرة فالصوماليون ، شأنهم شأن كل الشعوب التي لاتخلو من بدائية، يتحدثون كلهم في لحظة واحدة، و بصوت عالي جداً، هم يفهمون بعضهم ،و انت وسطهم زي المجنون. الطائرة صغيرة و 90% من الركاب من المرحلين نتيجة إجراءات توفيق الأوضاع في المملكة. إمتدت الرحلة قرابة الساعتين. حلقنا فوق اليمن و أثيوبيا و أرتريا، و عبر كل هذه المسافة كانت تتقمصني روح أفريقية باذخة. كان في داخلي حنين ممض لقميص مزركش و قرون مثل قرون البقر و آلة موسيقية تقليدية فلتكن " وازا" و كانت تغمرني رغبة عارمة لأقف عارياً علي تلة مجدبة، و أرفع يدي الي السماء مستصرخاً أرواح أجدادي الذين أعطوا هذه الأرض مجداً و عزة ثم مضوا، فأورثناها بعدهم ذلاً و هواناً و خراب. إنها أفريقيا التي لا تعرف الحقد و لا الضغينة، تفتح صدرها و تمد يديها لأبنائها العائدين .. إنها سنار عبدالحي، التي تحتفي بالعائد و هو يغني بلسان و يصلي بلسان، فتهديه مسبحة من أسنان الموتي، إبريقاً جمجمة و مصلاة من جلد الفهد. كانت قمة الأثارة عندما بدأت الطائرة في الهبوط التدريجي و بدت تظهر لي علامات الصحاري و الجبال الصومالية و بدأت أري القري المشتتة في بيدر الضياع و الجوع و الموت و بدأت أشتم رائحة الموت في أنفاس الأطفال و سخونة أثداء النساء التي ما عادت تدر الحليب و ربما فقدت القدرة علي الإدرار الي الأبد. عادت بي الذاكرة الي ثمانينات القرن الماضي و بداية تسعيناته عندما أنشبت المنية أظافرها في كل جسد صومالي. توقفت السماء عن الإمطار و غيض ماء الأرض و جردت و تصحرت، فهلك الحرث و النسل، و صار الموت طقساً يومياً لا يحفل به أحد.كان الصومالي يأخذ إبنه بين يديه و هو ميت فيدفنه، و يعود و يرتمي في أحضان زوجته الزابلة، في إنتظار جسد آخر تخرج منه الروح و يموت فيقوم بدفنه. يا رباه . معاناة هذا الشعب لا يمكن أن تقاس بمعناة أي أمة أخري ، ربما عبر التاريخ. نزلنا بمطار هرق يسا و الجو غائم، و البرد شديد و دخلنا صالة كبار الزوار فقد كان في إنتظارنا ثلاث نواب وزراء و مدير التخطيط بالدولة و ثلاث سيارات رئاسية بحرسها و بعد لحظات بسيطة من التعارف السريع و بعد ان فرغنا من إجراءات الجوازات التي قامت بها المراسم الرئاسية نيابة عنا خرجنا الي عالم الصومال المثير .. لي عودة بالمزيد. [email protected]