قبل بضعة أسابيع نشرت مقالا في عدد من المواقع الإسفيرية وعلى صفحات صحيفة "الخرطوم" أحكي فيه حكاية صديقي السوري المهندس الزراعي عياش الحمش وأسرته الكريمة، داعيا الله أن يحفظهم من كل شر وهم في جوف المحنة السورية. في البداية جمعني معه العمل قبل أكثر من عقدين من الزمان في مدينة الدمام،ثم تطورت زمالة العمل إلي علاقة إنسانية ودودة، قادتني وأسرتي قبل سنوات مضت إلى موطنهم في حلب الشهباء،عندما سعدت بزيارة أرض الشام التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أبي أمامة رضي الله عنه،(صفوة الله من أرضه الشام، وفيها صفوته من خلقه وعباده ، ولتدخلن الجنة من امتي ثلة لا حساب عليهم ولا عذاب.) رواه الطبراني. وعن سلمة بن نفيل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (عقر دار المؤمنين بالشام ) رواه الطبراني. بقيت مشاعر الود بيننا رغم عودته لحلب، ولكن مشاغل وهموم دنيانا التي لا تنتهي غيبت ذلك التواصل الجميل، مثلما غابت اشياء جميلة أخرى عن حياتنا. استجاب الله العلي القدير لدعائي من حيث لا أحتسب، فوجدت قبل أيام رسالة في بريدي الإلكتروني من ابنه المهندس عمر الحمش قال فيها أن أسرتهم الصغيرة بخير، (سالمين وتامين)، لكن والدهم عياش قد رحل إلى دار البقاء قبل أن يري بعيني رأسه الخراب الذي لحق بمدينة حلب، والدماء في الحسكة مسقط رأسهم، والموت في دروب دمشق.كان الله سبحانه وتعالى رفيقا به حتى في الموت.رحل في شهر رمضان إثر نوبة قلبية مفاجئة لم تسبقها علة ولا وعكة،وكان يوم وداعه يوم حزن كبير للدار والعشيرة.كان دعاؤه الأثير في أيامه الأخيرة أن ينعم عليه المولى عز وجل بحسن الخاتمة. ألف رحمة ونور عليه. أما الأسرة الأسرة السعيدة التي أحببت، وإن كانت قد نجت من الموت، إلا أنها تفرقت في ثلاثة بلدان عربية. قال لي عمر في رسالته الحزينة "المصاب السوري أبشع بكثير مما يعرض على التلفاز، بحيث لم يبق سوريا واحدا على الإطلاق لم يصب في أحد من عائلته". وتتواصل دفقات الحزن "أما المعارف بشكل مباشر،فهناك عشرات القصص.. لم يكن أحد يتخيل هذا المآل الرهيب، لكن لابد مما ليس منه بد". ولكن رغم كل ذلك يبقى الأمل والحلم بالغد الأجمل ، ينتزع انتزاعا من فك العدم ونكهة الموت، فيقول لي عمر "نشرفت وسعدت بالتواصل مرة جديدة بعد فترة طويلة من الانقطاع المباشر، ولكن يعلم الله أن ذكراكم كانت دائما قائمة في قلوبنا. نتمنى الفرج العاجل للبلد لنتشرف بزيارتكم لنا مرة جديدة". حمدت الله أنهم ما زالوا أحياء يرزقون وإن اختلفت بهم الدروب وباعدت بينهم الأسفار، وتفرقوا في بلاد الله الواسعة، بقدر ما حزنت لرحيل أخي عياش الرجل الفخيم الجميل، الذي لو شاهد ما يجري في حلب لمات مرات عديدة قبل أن تحتضنه الأرض التي كان يغرس فيها الحياة والخير. وأسأل الله أن يجمع شملهم من جديد، وأن يعود لحلب سيف الدولة وأبي فراس والمتنبي وعياش مجدها القديم،وأن تعود دروبها خالية من الموت والدماء. قبل الختام: بكي الشاعر أحمد محمد صالح دمشق عندما اجتاحها الفرنسيون عام 1945م، فقال: (صبراً دمشقُ فكل ُّطَرْف باكٍ لما استبيح مع الظلامِ حِماكِ جرح العروبةِ فيكِ جرح سائلٌ بكتِ العروبةُ كلُّها لبُكاك). ولكن صفوة الله من أرضه يستبيح حماها اليوم القريب قبل الغريب،والصديق قبل العدو،ولا بواكي لها. (عبدالله علقم) [email protected]