الثلاثاء 20 صفر 1435ه - 24 ديسمبر 2013م خالد عويس "لا تحفروا لي قبراً سأرقد في كل شبر من الأرض أرقد كالماء في جسد النيل أرقد كالشمس فوق حقول بلادي مثلي أنا ليس يسكن قبراً" (الشاعر السوداني محمد الفيتوري) على طريقة الشاعرين، غارسيا لوركا الذي أغرق الإسبان في الأسى، وماياكوفسكي الذي طوّح الروس في الحزن العميق، توكأ "بهنس" على عصا الوجع الإنساني في منتهاه ماشياً نحو الموت، ومشرّعاً الآفاق كلها لبكائيات لا تنتهي في حضرة الغياب المُر! موتُ بهنس، مهروساً وموجوعاً وبرداناً وجائعاً وحزيناً وضائعاً وتائهاً، في قلبِ منفى، طرده إليه وطنٌ منفيٌّ من ذاته، هو قصيدة شعر كتبها هذا الشاعر بدمه، ولحن جنائزي دوزنه بروح ظامئة إلى أقصى درجة، ولوحة تشكيلية مضيئة بنهايات الأعصاب والنزف والتوتر. كم كان على مبدعي هذا البلد الغارق في أوجاعه أن يُقاسوا المرارات كلها ليدركوا تخثر دمهم ورخصهم ورخص إبداعهم. كم كان عليهم أن يتجرعوا الأسى ليفهموا أن أرواحهم المنفية المغتربة لا تهم أحداً سوى ليل الغربة البارد، ووجوه العابرين غير المتفرسة، والصقيع والثلج والعواصف! أهو الأخيرُ زمانه بين مبدعي هذا الوطن النازف حدّ الفجيعة؟ كيف مضى مصطفى سيد أحمد الذي غنى لعيني الوطن وخديّه المتوردين! كيف مضى والخرطوم تبعثه إلى أقداره في المنفى، وتستقبله في طقس جنائزي يُشبه أوقاتها هذه! كيف انطفأ وهج "أبوذر الغفاري"، الشاعر الذي ما جرح خد زهرة، ولا أذى فراشة؟ كيف كان يحنُّ الطيب صالح بكل عينيه الطيبتين إلى مجرد شجرة في الشمال يستظل تحتها من هجير غربة طالت؟ كيف مات صلاح أحمد إبراهيم والتجاني يوسف بشير وإدريس جمّاع؟ كيف يموت الآن الفيتوري ألفَ مرة طريداً وشريداً من وطنه ومن أي قلب إنساني - من وطنه - يحنو على غربته المرّة؟ كيف يموت كل مبدعي هذا البلد الموجوع، وهم يقتلون ألفَ ألفَ مرة؟ هي هذه القافلة الطويلة من الأحزان والأسى، ثمناً فقط لرهافة الحسّ الإنساني ورقة الشعور وخفة الروح في بحثها المضني عن المطلق في خضم الحرف والموسيقى واللون والوجع. هي - يا وطني – رحلة يدفعها مبدعوك حرقةً من شبابٍ غضّ حزين وشيخوخة تقارع كؤوس الشعر الفالت من مدارات الفرح إلى فضاءات الألم الممّض. إنهم – يا وطني – مثل صوفيّة عظام، مشوا من الحليب على درب الصليب، وشيجتهم بالحياة هي المسامير المغروسة في أعصابهم ودمهم. أغنيتهم هي الألحان الجنائزية. أكفانهم هي قصائد الريح والثلج. موتهم هو بدء ضوئهم المتناثر من شرفات دمهم. عيونهم – يا وطني – مثقلة بأوجاع وجودية لا حدود لها. هم ذرات ترابك، وهامات نخيلك، ومآذن مساجدك، وأجراس كنائسك، وقطرات نيلك، وحلكة لياليك، وإشراقات صباحاتك، ونكهة قهوتك، وطعم خبزك، ولون دمك، وسحنة وجهك الملائكي. هم عتمة غاباتك، وعدم صحاريك، وشقشقة عصافيرك، ووهج شموسك، وخيوط الضوء المجدولة من أقمارك. إنهم يُلقمون ثدي الغربة في المنفى، وثدي المنفى في الوطن. إنهم يتجرعون الموت في كل صباح، ويحتسون سمومه في الليل، مقتولين.. مقتولين.. مقتولين! كيف تغفر لنا يا بهنس؟! بل كيف نغفر لك أن تموت بهذه الطريقة وتدعنا غارقين في الذهول والخجل واللاإنسانية؟! كيف تغفر لنا؟! بل كيف يغفر الثلج لدمك المتجمد؟! كيف يغفر الصقيع لأوردتك؟! كيف يغفر الجوع لبطنك الخاوية؟! كيف نكتب بعد الآن؟ كيف نغني؟ كيف نرسم؟ إن كتبنا فهي كتابة الدم، وإن غنينا، وإن رسمنا. لا شيء سوى الدم المتجمد المعلق فوق الفراغ العريض. [email protected]