مدخل: نتيجة لقصور الاستيعاب من جانب المجتمعات والنخب العربية اصبح هنالك خلط في مفهوم الكفر والايمان بين الرسالة الارشادية المحمدية وبين الرؤية العربية، فجاء مفهوم المسلم وغير المسلم وفق الرؤية العربية مرادفا لمفهوم الهوية أو الذات الكلية للفرد. فعلي النخب الصاعدة قبل ان تحلم بوطن للجميع ان تحاول رؤية الكل متساويين من خلال تاطير لتلك المفاهيم باعادة تعريفها واستيعابها من داخل الواقع السوداني وليس من خلال المفاهيم والقيم التي اتت من الثقافة العربية. حول مفهوم الاسلام: لقد اعتمد المجتمع العربي في استيعابه للرسالة المحمدية على واقعه الداخلي وعلى الرؤية الاجتماعية التي تتحكم به، ولانعدام الدور النخبوي عند التشكيل الاولى لاستيعاب الرسالة المحمدية سارت النخب خلف المجتمعات تنظر إلى الجزئيات وتركت كليات الرسالة إلى الرؤية العرقية القبلية والعشائرية بعيدا عن اعادة الاستيعاب الثقافي ومفهوم الاختلاف الإنساني، ولذلك تمازجت مفاهيم مثل الإسلام مع العروبة في مخيلة المجتمعات، وتم تكملة ذلك المجتمع الذي سمي المسلم أو المسلمين باعتبار ان القيم العربية هي قيم المجتمعات المسلمة، فاصبح مفهوم المسلمين مفهوم اجتماعي يوازي مفهوم القبيلة والعشيرة والثقافة فهو مجتمع ولكن بقيم عربية تاريخية فقط. ولكن عند اعادة استيعاب كل الرسالات الإرشادية وأولها الرسالة المحمدية من خلال الوعي النخبوى المتجاوز للترميز المجتمعي بين القيم والمعاني، نجد ان مفهوم الإسلام عبارة عن مفهوم للوعي والاستيعاب وليس مفهوم مجتمعي مماثل لمجتمعات القبيلة والعشيرة، فمفهوم الوعي والاستيعاب هو ما جعل كل الرسالات اسلامية وليس تكاملهم الاجتماعي وبالتالي كل الرسل يدعون إلى الإسلام الوعي وليس إسلام القيم الواحدة (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128))، (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)). فالإسلام والمسلمون هنا ليس هو إسلام القيم المجتمعية اذا كانت في العبادات أو المعاملات فلكل تلك المجتمعات قيمها المجتمعية المختلفة عن المجتمع العربي وكذلك فيما بينها عند اختلاف مراحل تحولاتها الاجتماعية، فإذا الإسلام هنا هو إسلام الوعي واستيعاب مغزي الحياة إذا كانت الكلية بربط حياة المجتمعات بكل التحولات الاجتماعية أو بمغزى الحياة اللحظي الذي تدور حوله المجتمعات. ونجد ذلك واضحا في الرسالة المسيحية التي رغم انها جاءت إلى نفس المجتمع وهو المجتمع اليهودي الا انها لم تأتي لتأكد العبادات التي كانت في الرسالة الموسوية ولكنها جاءت مختلفة في قيم العبادات والمعاملات نتيجة لتبني المسيح قيم التحولات التي كانت في فترته التاريخية، فأكدت الرسالة المسيحية على تلك القيم وجاءت متجاوزة لكثير من المحرمات اليهودية. فالغاية من الرسالات ليست قيم سلوكية محددة كما ترى المجتمعات فالقيم تختلف باختلاف التحولات الاجتماعية ولكن الغرض هو استيعاب مغزى الحياة بناء على مرحلة التحولات الاجتماعية التي توجد بها تلك المجتمعات ومحاولة استيعاب الذات الكلية والاخر الإنساني المختلف والإله المتعالي، لذلك جاءت كل رسالة مستصحبة معها القيم المجتمعية التي نزلت عندها مع الإرشاد إلى مغزى الرسالة الحقيقي بالنسبة للنخب وليس بالنسبة للمجتمعات. حول مفهوم الذات والاخر: استوعبت المجتمعات العربية الرسالة الإرشادية كرسالة قيمية اجتماعية وان القيم الوارد ذكرها داخل الرسالة عبارة عن قيم الخلاص الإلهي نتيجة للنظر إلى الإله كاله فاعل، ولان الرسالة استوعبت جزء من القيم وليست كل القيم التي عند كل المجتمعات نتيجة لاختلاف التحولات داخل المجتمع الواحد، لذلك رجعت حتى المجتمعات العربية في ذلك الوقت إلى تكملة ذاتها بالجمع بين القيم الواردة في الرسالات الإرشادية والقيم الاجتماعية وأصبح الاعتماد على الرسالة الإرشادية لوحدها كرسالة قيمية غير كافي عند كل المجتمعات وتحتاج المجتمعات إلى قيم تكمل بها الرسالة المحمدية، ومن هنا واصلت النظرة القبلية التي تساوى بين الذات الاجتماعية المباشرة دون معرفة علاقتها بالاخر الثقافي أو غير الثقافي. فوجود ثلاثة أطراف يخلق علاقة ظرفية بناء على التداخل الجيني بين طرفين في مقابل الثالث ولكن عند عدم وجود الثالث فان الطرفين يتحولان إلى ضدين بمفهوم الوعي القبلي فلا وجود لمفهوم المجتمع الثقافي. فتعريف الذات الكلية يبدأ من المجتمع العشائري أو القبلي ثم يتحول إلى مجتمع تكاملي هش يمكن ان يتفكك في أي لحظة ويرجع إلى عوامله الأولية نتيجة لعدم تأسيس المجتمع الثقافي كبديل للمجتمع القبلي أو العشائري. وقاد الاستيعاب المجتمعي للرسالة المحمدية إلى تحول مفهوم الإسلام والمسلم والمسلمين إلى مجتمع هش ولا يقبل الاخر، ولازالت النخب تتهرب من الإمساك بدفة القيادة من المجتمعات ومحاولة إعادة استيعاب الرسالات السماوية كرسالات إرشادية بعيدا عن الترميز المجتمعي. فنظرة واحدة إلى المجتمعات التي تسمي إسلامية توضح القصور النخبوى الذي ترك المجتمعات تتقاتل في عبثية من اجل إثبات رؤيتها للرسالة وهو إثبات لرؤيتها لمفهوم المجتمع القبلي والعشائري الذي لا يتقبل الاخر. فالتطابق الذي تسعي له المجتمعات العشائرية لا وجود له في مرحلة التحولات الثقافية التي يختلف داخلها حتى المجتمع الواحد باختلاف مراحل تحولاته وممارسته لإنسانيته. وأول ما يجب نزعه من المجتمعات في استيعاب الرسالة الإلهية هو علاقة مفاهيم مثل الكفر والإيمان أو مسلم وغيرها بمفهوم الهوية، فيمكن لليهودي ان يكون مسلم إذا أعاد استيعاب رسالته على أسس مغزى الحياة الإنسانية ويمكن للمسيحي ان يكون مسلم إذا أعاد هو أيضا استيعاب رسالته على أساس المغزى الإلهي ويمكن كذلك للعربي أو معتنق الرسالة المحمدية ان يكون مسلم إذا استوعب كل الإرشاد الإلهي، فالإسلام هنا ليس إسلام القيم المجتمعية التي استوعبتها المجتمعات باعتبارها الخلاصة من الرسالة الإرشادية بل هو إسلام المفاهيم والمعاني (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)). اما القيم المجتمعية اذا كانت في العبادات أو المعاملات هي قيم يجب ان تتجسد داخل المجتمع فممارسة القيم في حد ذاتها لا معني لها إلا إذا تكاملت مع كل القيم المجتمعية وكذلك مع استيعاب التحولات الاجتماعية التي تتجاوز بعض القيم، وهنا مثلا نضرب مثلا بالصلاة فالمحمدي يري الصلاة بشكل والمسيحي يري الصلاة بشكل وكذلك اليهودي وكل يعتبر ان ذلك الشكل كافي في حد ذاته في تادية القيمة، وهو ما لجأت إليه المجتمعات العربية عندما حاولت ان تفسر معني الاية (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35))، ففسرت الآية من خلال الشكل السلوكي الذي كان يؤدي واعتبرت ان الطريقة تلك التي تؤدي بها الصلاة غير مقبول عند الإله، ولكن ما لا تدركه المجتمعات ان الإله لا يتحدث عن شكل والا كان شكل الصلاة عند اليهود والمسيحيين وغيرها من الرسالات التي جاءت ذات شكل واحد ولكن الاله يتحدث عن المعني للصلاة، ولان صلاة الجاهليين كانت بعيدة عن استيعاب مغزى الحياة الإنسانية فهي عبارة عن صد وعدم استيعاب لمغزى الحياة الانسانية، وكذلك هي إلى الآن في اليهودية والمسيحية والمحمدية لعدم استيعاب مغزى الحياة وليس لعدم تاديتها بالشكل المطلوب. فالصلاة التي لا تعترف بالاخر رغم قول الإله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)). ولو اراد الله التطابق لخلق كما يري الوعي المجتمعي لخلق الناس امة واحدة (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)). وغيرها من الايات الموجودة في الحياة والتي يابي المجتمع والنخب النظر فيها. حول مفهوم الاخر الضد: لقد ماهت المجتمعات في استيعابها للرسالات الإرشادية بين الاخر الضد حسب الوعي المجتمعي القبلي والعشائري وبين مفهوم الاخر الضد في الرسالات الإرشادية، فمفهوم الاخر الضد في الوعي القبلي يعني كل اخر خارج إطار ذلك الوعي الجيني الذي يشمل أفراد القبيلة أو العشيرة، وقد حاولت الثقافة الغربية ايجاد طريقة لإعادة استيعاب الرسالة المسيحية داخلها ورغم قصورها الا انها أفضل من المجتمعات اليهودية والمجتمعات العربية في إعادة استيعاب الرسالتين اليهودية والمسيحية التي وقفت تماما داخل حدود المجتمعات والقيم التاريخية التي أدت إلى عجز حتى المجتمعات اليهودية والعربية عن إمكانية إعادة استيعاب التحولات. اما مفهوم الاخر الضد في الرسالة المحمدية باعتبارها الرسالة الوحيدة التي ركزت على مفهوم الاخر المختلف والاخر الضد لعدم وصول المجتمعات الأخرى إلى مرحلة التحول الثقافي الكامل بالنسبة لتلك المجتمعات أو للمجتمعات التي تجاورها لحظة إرسال الرسالة اليهودية وما قبلها، نجد ان مفهوم الاخر الضد تركز حول عملية الاستيعاب، فالاخر الضد يمكن ان يكون داخل الذات الكلية أو خارجها أي من داخل مجتمعك أو من خارجه، فهو الذي يرفض ان تستوعب مغزى الحياة الا عن طريقه فقط ويابي عليك استعمال وعيك من اجل الاستيعاب فوعيك في نظره مركز فقط على رؤية الأشياء كما يراها هو. ولذلك عندما تم السماح للرسول محمد بمحاربة مجتمعه الخاص كان لاستنفاد ذلك المجتمع كل الخيارات التي تسمح بالرسالة بالتعبير عن نفسها داخل المجتمع، فقد صنفت النخب القرشية الرسول كاخر ضد وسعت إلى الوقوف امامه بكل الطرق وعندما لم يكن هنالك خيار غير المواجهة التي فرضها المجتمع والنخب على الرسالة كانت المواجهة المباشرة والمتوازنة (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)). إذن المجتمع والنخب القرشية تحديدا هي التي وضعت الرسالة في موضع الاخر الضد وليست الرسالة، فكان يمكن للرسالة ان تستمر بذلك الهدوء إلى ان يستوعبها المجتمع أو يرفضها فذلك خيار فردي، ولكن ان تحتكر النخب القرشية الوعي وتحديدا المغزى الكلي للحياة الإنسانية دون إمكانية لأحد باختراق ذلك الوعي هو ما جعل الرسالة تتحول إلى المواجهة. ولذلك نجد ان السماح بالرد جاء لتلك الأسباب وليس لعدم استيعاب المجتمع للرسالة أو لعدم تأديته الصلاة أو الزكاة كما يفسر الآن بين دار الإسلام ودار حرب (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)). فلم يتم دفع الرسول محمد إلى مغادرة مكة لان مجتمعها كافر أو لا يؤدي الطقوس العبادية أو لا يؤمن بالإله الواحد وكذلك لم يدعو الإله محمد إلى محاربة أقربائه ومقاطعتهم لأنهم كفار، فهو عكس ما حدث تماما وذلك لان النخبوى في الأساس هو الذي يقود مجتمعه نحو التكامل ونحو مغزى الحياة الإنسانية وليس الذي يهجر مجتمعه نتيجة لقصور ذلك المجتمع عن الاستيعاب. ختاما: على النخب الصاعدة ان تدرك الفرق بين الاخر المختلف وبين الاخر الضد فكل اخر خارج إطار الثقافة هو اخر مختلف اما الاخر الضد يمكن ان يكون داخل الثقافة أو خارجها. وان القصور الذي انتاب المجتمع العربي عند محاولة استيعابه للرسالة المحمدية وترميزه لها داخل قيم تاريخية هو الذي اقعد بالرسالة المحمدية كما اقعد بغيرها من الرسالات عن إمكانية توصيل مغزى الحياة الإنسانية لكل الإنسانية، وان فائدة الطقوس إذا كانت في العبادات أو المعاملات هو علاقتها مع الكل وليس رؤيتها من داخلها كما تحاول النخب العربية منذ سنين ان تري فائدة الصلاة أو الزكاة أو الحج من داخله فقط دون ربط تلك العبادات بالكل الإنساني، وكذلك يمكن للتحولات ان تتجاوز بعض القيم المجتمعية حتى التي تم استيعابها داخل الرسالة لظروف تاريخية فلا ثابت في الوجود غير الإله المتعالي اما ماعدا الإله فهو متغير قابل للتحول. [email protected]