بسم الله الحمن الرحيم مواصلة لمقالاتنا حول قبيلة الفور ؛ و لكي نغوص في أعماق جذورها التاريخية ، لابد لنا أن نقف عند بعض المحطات التي مرت بها هذه القبيلة ؛ لنستلهم بعض المدلولات التي تعيننا على معرفة الوقائع التاريخية في محيطها و فضاءاتها لنتعرف على علاقاتها الإجتماعية و السياسية التي قادت الى تأسيس سلطنة الفور (1440م – 1916م). معروف أن الحكم قد آل للفور من أسرة التنجر الحاكمة آنذاك من دون معارك حربية ؛ حيث كان على رأس الحكم وقتها السلطان شاو دورسيد (شاو سيد البلد و أحياناً قس دير السانية) و هو آخر سلاطين التنجر (تونق جور بلغة الفور - house of Jury) ، الذي كان يحكم المملكة الممتدة من المناطق الشمالية لسلسلة جبل مرة حتي بحيرة تشاد ؛ حيث كانت عاصمة بلاده في مدينة (وُرِي) و معناها بلغة الفور النجمة ؛ و سبب التسمية كما جاءتنا ؛ هو أن تلك المدينة قد شيدت في منطقة مرتفعة على قمة الجبل و التي حُصِنَت تماماً بأسوار و مباني من الحجارة اللامعة التي تنعكس عليها الأنوار ليلاً ، لذلك كانت المدينة تُشاهَد من مسافات بعيدة كالنجمة اللامعة في كبد السماء . بعض الروايات المنقولة تقول: بأن السلطان شاو دورسيد كان شخصاً قاسياً في تعامله مع الرعية لأنه كان يجبرهم على على تنفيذ الأعمال الشاقة ، منها حفر الآبار في قمم الجبال و كذلك نظافة الحجارة و تسوية المرتفعات ليشيد عليها السلطان قصوره المتعددة ، و عندما تعب الرعية من جبروته ثارو ضده ، و حفاظاً على تماسك مجتمع السلطنة إستجاب مجلس الحكم (الكوم) لصرخات الرعية ؛ هذا المجلس كان يضم أعيان السلطنة ممثلاً فيه معظم الأثنيات المقيمة في المملكة ؛ فقرروا خلع السطان و تنصيب شخص آخر من أفراد الأسرة بدلاً عنه ؛ فوقع الإختيار على دالي مؤسس سلطنة الفور. كان من العادة أن السلطان إذا خُلِع لا يُتْرَك ليعيش بين الرعية ، بل كان يُقْتَل بواسطة شخص يعرف (بالكامنه) و هو منفذ الأحكام القضائية في الدولة ؛ و كي لا يكون لقتل السطان آثار سالبة على المجتمع ؛ فقد خرج مجلس الحكم حينها على الرعية بقصة خروج السلطان شاو دورسيد علي صهوة جواده الأبيض لمواجهة الأعداء فسقط و مات على أثره ، قصد بهذه القصة المختلقة إخفاء الحدث عن الرعية حتي لا يثور المناصرين للسلطان المخلوع ضد الوضع الجديد . هكذا تم تنصيب دالي سلطاناً على المملكة و يقال أن دالي هو الشقيق الأصغر لشاو دورسيد من جهة الأب ؛ حيث كان له قصراً بجوار عاصمة أخيه في مدينة (وُرِي) و قصر آخر في قرية (فلقا) بشرق جبل مرة و كذلك مزارع في منطقة (بورونق رو) الواقع شمال سوني و شرق أوفوقو في قلب جبل مرة , و يبدو أنه كان يدير جزء من المملكة من هناك في عهد أخيه شاو دورسيد ؛ بدليل وجود عدد كبير من الأسر المنتسبة اليه الآن في جبل مرة يعرفون محليا بالدالنقا (أي آل دالي بلغة الفور) منهم أسرة المرحوم الدكتور كرم الدين عبد المولى صالح طيب الله ثراه ؛ و كذلك أسرة أبو الفور العم زكريا سيف الدين شمين و أًسر أخرى كثيرة ، و سوف نُفَصل بعض الشئ في هذا الأمر عندما نأتي للحديث عن السلاطين (كورو و تونسام) إبني السطان دالي اللذان خلفاه في الحكم . يعتبر السلطان دالي مؤسس سلطنة الفور من الحكام الأقوياء و العادلين ؛ حيث تمكن من إزالة الغبن الذي لحق بالرعية جراء ممارسات شاو دورسيد التعسفية ؛ حيث أسس حُكْمَهُ على قانون نظم الحياة العامة في الدولة من حيث العلاقات الرأسية و الأفقية ؛ و قانون دالي هو قانون غير مكتوب أبرز فيه السلطان قدرته على مزج الأحكام التي جاءت بها الشريعة الإسلامية مع العادات و التقاليد المتوارثة بين الرعية لأنه كان ملماً بأحكام الإسلام بصورة جيدة . بعض من تلك العادات التي كانت تحكم العلاقات بين الرعية غريبة في أحكامها ، فمثلاً السبب الذي أدي الى خروج قبائل الكارا و السارا و الكريش والفوراقية و البنده من جبل مرة أو من دارفور كما جاءتنا من روايات الحبوبات ، فقد قيل أنه عندما دخلت الدولة في دين الإسلام طواعية تُرِكَ حرية الإختيار لمن شاء أن يدخل فيه ، و من أراد أن يبقى على وثنيته ؛ فقد كان له الحرية في ذلك فرداً كان أم جماعة ، فمنهم من دخل الإسلام و منهم من بقى على وثنيته ، و كان تلك القبائل ضمن من بقيت على الوثنية . القصة التي رويت لنا تقول : أن أحد من أطفال الفور المسلمين قد قام بقتل دجاجه تخص شخص من الوثنيين ربما عمداً ، حيث إنعقد مجلس الحكم للنظر في الشكوى التي رفعت اليه ؛ و بعد التداول في حيثيات القضية أصدر المجلس حكماً بأن يدفع الفور المسلمين تعويض للوثنيين عباره عن عدد من الدجاج بما يعادل عدد ريش الدجاجة المقتولة ، تخيلوا كم يكون عدد الدجاج !،،،، حيث قام الفور المسلمين بجمع الدجاج من ذويهم المسلمين و دفعه للوثنيين إمتثالاً للحكم الذي صدر من المجلس ، و بعد مدة ؛ قتل أحد الوثنيين عنزة تخص الفور المسلمين و بالمثل صدر الحكم بأن يسدد هؤلاء معيزٌ بقدر عدد صوف العنزة المقتولة , كان تنفيذ هذا الحكم قاسياً على الوثنيين و لذلك قرروا الخروج ليلاً من جبل مرة بدلاً من جمع المعيز من ذويهم لسدادها للفور المسلمين وإتجهوا جنوباً الى المناطق التي المناطق التي يتواجدون فيها الى اليوم . على الرغم من غرابة بعض الأحكام التي تصدر وفقاً للعادات و التقاليد المتوارثة في دارفور ، بل صعوبتها كما في قصة الفور و الوثنيين المشار إليهم ، إلا أن تلك الأحكام كانت و ما زالت صمام الأمان لتماسك مجتمع دارفور ، لأنها كانت رادعة تمنع من إرتكاب الجرائم و تحول كذلك دون إنفراط العقد الإجتماعي بين المجموعات السكانية لقدرة تلك الأحكام على حل المشكلات التي تطرأ مهما كانت حجمها ، لذلك نجد أن أهل دارفور ظلوا يتمسكون بها لأنها القانون الإجتماعي الذي نظم حياتهم في كافة المجالات لقرون عديدة و لم يأتينا أي معلومة عن مشكلة وقعت بين قبيلة و أخري كما نراه اليوم . إذاً يأتي أهمية دور السلطان دالي في قيامه بتجذيب تلك العادات و التقاليد و تهذيبها بما لا يتعارض و أحكام الشريعة الإسلامية و تنظيمه لنصوصها في قانونه المعروف بقانون دالي الذي إستطاع به تنظيم الحياه في الدوله كلها ؛ مع وضع أطٌر لتنفيذه بواسطة (الدمالج) و هم الأشخاص المكلفين بحفظ نصوص العرف (قانون دالي) و تطبيقة على الرعية حيث كان يتألف مجلس السلطان من مجلسين ، مجلس للشريعة ينظر في قضاياه القضاه الشرعيين العارفين لأحكام الشريعة الإسلامية ، و مجلس آخر للعرف و ينظر في قضاياه الدمالج . بذا أصبح السلطان دالي هو مؤسس سلطنة الفور و ليس سليمان (صولونق) كما يدعيه البعض زوراً و بهتاناً ، بل عن قصد لتحريف الحقائق التاريخية الواضحة . ،،،و نواصل،،، [email protected]