تعرضنا في حلقة سابقة لذكر كتاب ((العلمانية على محك الاصوليات: اليهودية، المسيحية والإسلام)) للمؤلفتين (كارولين فوريست وفياميتا فينر) [دار بترا للنشر والتوزيع] و لأن الوقت و المساحة لا يسمحان ، دعونا نستعرض أولا أهم ما كتبه المترجم غازي أبو عقل عن الكتاب ، كتب (مهما اختلفت الأصوليات التوحيدية الثلاث ومهما تنافست فيما بينها في ادعاء التمثيل الأحقّ للقانون الإلهي، فإنها لا تتوانى ثلاثتها عن تحييد خلافاتها لتتآزر وتتعاضد في مواجهة العلمانية والديمقراطية لأنهما تأخذان بالقانون البشري . [ نتذكر لقاء ريقان بممثلي المجاهدين الأفغان الذين كانوا يسمونهم بالثوار من أجل الحرية (و يا لها من حرية تمنع النساء من الخروج من منازلهن) و أنهم كما قال ريقان ، يمثلون معا المؤمنين الذين يدافعون عن الإيمان في وجه الإلحاد ... لم نسمع يومها شعارات الغرب الصليبي !] سيبين لنا هذا الكتاب، الذي يرصد الحركات الأصولية في المشرق و فرنسا و الولاياتالمتحدةالأمريكية و إسرائيل ، كيف تؤدي الأصوليات الثلاث الخدمة لبعضها بعضاً سواء عن تخطيط متعمَّد أو بصورة تلقائية نتيجة لتلاقي مصالحها، وكيف تعتمد جميع الحركات الإيديولوجية واللاهوتية والسياسية التي تنتمي إليها أساليب متماثلة في العنف والأذية عندما تستشعر أي خسارة أو هزيمة مهما صغرت. ... و لئن لم يعد من خيار أمام الأصوليين اليهود والمسيحيين سوى خوض معاركهم في مواجهة العلمانية من موقع دفاعي، فإن الأصولية الإسلامية، التي استفادت على مدى عقود من التمويل النفطي وتحولت إلى إيديولوجيا سائدة ، تميد الآن انتصارا ... من المقدمة قرع الحادي عشر من أيلول سبتمبر بدءَ مرحلة وعي الخطر الذي تمثله الإسلاموية. وبالمقابل فإنه لم يؤد إلى تفكير مُعَمَّق حول عودة سائر الأصوليات بقوة. ... لا يمكن فَهمُ [الظاهرة] دون إلقاء نظرة على عودة الغزوة الدينية التي باشرها في آن معا الأصوليون اليهود والمسيحيون والمسلمون منذ نهاية السبعينات. إنها ثأر الله، إذا استرجعنا صيغة جيل كيبل G. Kepel. تشير هذه الحقبة إلى منعطف ضمن نطاق عَرفتْ فيه الأديان الموحدة الثلاثة عملية تطرفٍ سياسي في تواريخ متقاربة بشكل مدهش. ففي شهر أيار-مايو 1977، ولأول مرة في تاريخ إسرائيل، أحدثت الأحزاب الدينية خرقاً انتخابياً أدّى إلى منع حزب العمل من تشكيل حكومة، مما خدم مصلحة حزب ليكود. وفي السنة التالية أصبح كارول ﭭوتيلا Wojtyla، وهو كاردينال بولوني معروف بتصلبه، أصبح البابا يوحنا بولس الثاني. وبدأ معه زمن تطرف مواقف الكنيسة الكاثوليكية، التي تُعزَى بشكل خاص إلى عودة الكاثوليكيين التقليديين إلى الكنيسة بعد أن كانوا وصلوا إلى حد الانشقاق عنها تعبيراً عن الاحتجاج ضد المجمع المسكوني المعروف باسم «فاتيكان الثاني». حمل العام 1979 خاتم حال راهنة مزدوجة: حال الإسلاموية وحال الأصولية البروتستانتية. ففي فبراير يُعلن آية الله الخميني جمهورية إيران الإسلامية ، الظاهرة الأولى لغزو الإسلاميين مواقع السلطة. وسنة 1979 هي أيضاً موعد ولادة اليمين الديني الأمريكي رسمياً، بخاصة ولادة التحالفات الكبرى مثل الأكثرية الأخلاقية MORAL MAJORITY، وهذا يعني بداية استيلاء السلفيين البروتستانتيين على الحياة الداخلية وعلى السياسة الخارجية للولايات المتحدة . بعد هذا المنعطف، نُزعت السمة الإطلاقية، في أغلب الأحوال، عن التحليلات التي تنبأت بالتبعات الخطرة للصدمة المعاكسة الدينية .... جاء الحادي عشر من أيلول سبتمبر ليُعكّر تماماً هذا التفاؤل، ولكن إدراكه تمَّ على أساس أنه عمل إرهابي ينبغي أن يجعلنا واعين الخطر الوحيد: الإسلامي..........انفعلنا وتأثرنا عندما وصل سيلﭭيو برلوسكوني إلى ادّعاء تفوق الغرب.. على النقيض من هذه الرؤية تنافَسَ بعض المفكرين الأوروبيين وقد أرعبهم خطر عدوى عنصرية في بذل طاقاتهم لكشف ما أطلقوا عليه اسم «رهاب الإسلام» [دافع كثير من المفكرين الأوربيين (العلمانيين بالطبع) خاصة اليساريين ، عن المسلمين و الإسلام في مواجهة اليمينين و المسيحيين المتعصبين الذين أخذوا يعممون صفة الإرهاب على المسلمين و مالوا للتنميط ، ناسيين أن الغالبية تتدين لأن الدين يشكل لها ملاذا في مرحلة تاريخية معينة و تطوّع فهم الدين حسب البيئة و العصر الذي تعيش فيه] .... مرجحين احتمال أن يُضيّق موقفُهم هذا المدى الضروري للقيام بنقد علماني للإسلام . من بين هذين الإغراءين، الشيطاني والملائكي، وُلدت الرغبة في دراسة التأثير الخاص والمتضافر لكل أصولية من الأصوليات اليهودية والمسيحية والإسلامية، الموحَّدَة بالالتزامات نفسها. ولمزيد من الدقة، فإن المقصود المقارنة بين التظاهرات السياسية الجذرية للحركات التي تتبنّى مبادئ التوحيد والمسماة أيضاً «الأديان الإبراهيمية»: اليهودية، والمسيحية (كاثوليكية وبروتستانتية) والإسلام. .... غير أن المسألة الحقيقية التي يطرحها هذا الكتاب تظل كما هو آت: أَيَخوضُ السلفيون حربا بعضهم ضد بعضهم الآخر، أم أنهم يعملون معاً لإتلاف الديمقراطية والعلمانية وإفسادهما، وغايتهم تحقيق هدف مُشتَرك، مع احتمال تعزيز كلٍ منهم الآخر وتقويته؟ وبصيغة أخرى، هل يمثل خطُّ الصَّدْع الحالي بينهم صدام حضارات أم على النقيض صدام أفكار بين الثيوقراطية والديمقراطية؟ من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة، فلنُفْصح عمَّا نعنيه بكلمة «أصولية». ... تعني «الأصولية» في رأينا تَجَلي مشروع سياسي هادف إلى إلزام مجتمع ما، بدءا بالفرد وانتهاء بالدولة، باعتماد قيم ناتجة، لا عن توافق ديمقراطي، بل عن رؤية للدين صارمة متشددة أخلاقية ..... مقصودنا الأول هو دراسة التأثير السياسي للأصوليين .... انتهى اقتباسنا من الكتاب . في المقال القادم سنتناول بعض صور تجليات الأصوليات في عالمنا لنرجع بعدها لموقفها من الحرية (قديما و حاليا) و من المرأة ... اختم بالقول المهم عندي : كل فكرة لا تضع غايتها الإنسان من حيث هو إنسان بغض النظر عن دينه أو عرقه أو قوميته أو لونه أو اي اختلاف آخر ، هي فاشية دموية ظلامية متخلفة و إن تزيت بزي المرشد للجنان .. لا تحاول أو تفكر أن تقتل أو تقهر الآخر ليكون صورة منك و ليؤمن بما تؤمن به ، إن استطعت اليوم فلن تستطيع غدا و ستجيّش ذاك الآخر بأسوأ المشاعر ضدك .... عهد قتل الآخر من أجل الفكرة أو العقيدة أو قل عهد سمو أي معتقد فوق قيمة الإنسان في طريقه للزوال . لنتذكر إن العنصرية إحدى سمات النظرة الدونية للآخر و هي من مخلفات عهد الرق ، كلما تفهمت الإنسانية التاريخ و ظاهرة الرق و أدانته ، كلما ابتعدت عن العنصرية ، و كلما تهربت من ذلك بدعوى أن رقنا أفضل من رقهم أو القول بأن رقنا يحفظ كرامة الإنسان كانت كمن يقول : ما يخرج من الإنسان له رائحة طيبة ، و ستعيد انتاج تصورات الدونية للآخر و بذا تساهم في تمزيق نسيج المجتمع . حاشية: كل ما جاء بين المعقوفين [ ] من عندنا للتوضيح . سرحان ماجد [email protected]