أكثر ما شغلني في موضوع خطاب الوثبة ليس هو لغته العجيبة الغريبة فحسب، بل هويّة كاتبه. وقد كثُرت التكهنات وترددت أسماء عديدة ثم استقرت على اسم واحد. ثم تم نفي ذلك وقيل لنا ان الخطاب عكفت عليه مجموعة من دهاقنة الحزب والحركة لمدة ستة اشهر حتى خرج في شكل "قشيب" حيّر الخلق جميعا، وتركنا في حيرة عن هوية الكاتب. والحال كذلك، قررتُ ان استخدم ما اكتسبته من معارف ومن قراءات ودراسات لمعرفة كاتب الخطاب، أو على الأقل رسم صورة (بروفايل) لشخصية الكاتب عسى ان تدلنا في اتجاه معرفة اسمه. وكنت قد قرأتُ في صباي عددا وافرا من كتب مغامرات المخبر الإنجليزي الشهير "شيرلوك هولمز"، ودرستُ في شبابي علم النفس ونظرية الشخصيات، كما درستُ لاحقا العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وتعشمتُ أن تُعينني كلها على تحليل الخطاب وصولا إلى شخصية كاتبه. ابتكر الكاتب (والطبيب) الاسكتلندي سير آرثر كونان دويل (1859 – 1930) شخصية المُخبر الذكي البارع "شيرلوك هولمز" المستوحاة من شخصية أستاذه في الجامعة جوزيف بيل الذي اشتهر بقوة الملاحظة ودقتها والقدرة على الاستقراء، بينما رسم شخصية دكتور واطسون، صديق هولمز وراويته، على صورته هو. وكان المخبر هولمز يرى الشخص لأول مرة فينبئه بعد قليل بأصله ومهنته وأين قضى الليلة السابقة وغيرها من المعلومات غير المعلنة التي يستخلصها هولمز ببصره وبصيرته الثاقبة من ملاحظات قد تفوت على غيره. وقد قرأت في صباي عشرات من كتب مغامرات شيرلوك هولمز التي لا تُمل. درستُ أثناء سنواتي في جامعة الخرطوم علم النفس، وأعجبت خاصة بنظرية الشخصية وحاولت أن أخرج بنظرية عن تصنيف الشخصيات اعتمادا على شكل أطراف الشخص(أصابع يديه وقدميه) وشكل أذنيه، غير أن ضرورات أكل العيش حالت دون التفرغ اللازم لمثل هذه العمل الكبير، وأحاول الآن في سنوات المعاش العودة لذلك البحث الممتع. أما دراستي فوق الجامعية في العلوم السياسية والعلاقات الدولية فقد أتاحت لي معرفة أساليب "تحليل المحتوى" الذي يُستخدم لتفكيك وكشف أفكار السياسيين الحقيقية بتحليل نوع الكلمات التي ينتقونها للتعبير عن أنفسهم. تسلحتُ بكل هذه المعارف والمهارات والخبرات الأكاديمية والعملية، وعكفتُ على دراسة خطاب الوثبة دراسة علمية جادة بُغية معرفة نوع الشخصية التي صاغته. وقد قرأتُ الخطاب مرات ومرات، جهراً وسراً؛ على نفسي في المرآة وعلى أصدقائي بصوت خطابي؛ وجعلته مادة لأحد مقالاتي الأسبوعية. وقد أفلحتُ، بعد جهد جهيد وصادق، واعتكاف طويل ومثمر، في اكتشاف بعض ملامح الشخصية التي كتبت خطاب الوثبة، وأهمها أنه يُعاني من إمساك مُزمن ("يابوسة" في الموروث السوداني) يجعله ينحو نحو استخدام الوعر الملتوي من الكلمات والتعابير كما يُشير "المعجم الطبي الحديث" في وصفه لشخصيات المُصابين بالإمساك المُزمن، وأثر تلك الحالة على سلوكهم وتصرفاتهم، ونظرتهم للدنيا والناس. وقد تتساءل، عزيزي القارئ، كيف توصلتُ لهذه الحقيقة المدهشة دون أن يكون لي علم أو معرفة بكاتب الخطاب؟ اقول لك ما كان يقوله شيرلوك هولمز لرفيق دربه وبعضاً من مغامراته، د. واطسون حين يراه مندهشا من استقراء لمّاح ويسأله كيف توصل إلى ذلك: "هذا بدهي يا عزيزي واطسون!" ليس في الأمر سر ولا معلومات تحصلت عليها من مصادر عليمة، بل استندتُ في التوصل إلى تلك الحقيقة عن كاتب الخطاب بتحليل محتوى الخطاب وفك شفرات الكلمات والتعبيرات التي استخدمها الكاتب المجهول التي دلّتني، دون قصد إرادي منه، إلى معرفة حالته الصحية (وبالتالي معرفة نوع شخصيته، ومزاجه، واسلوبه في معاملة الناس والأشياء، ونظرته للدنيا)! أنظر مثلا، أنار الله بصيرتك، إلى ما خطه يراع الكاتب المجهول في الصفحة الأولى من الخطاب: "استمر تقبّض أعضاء الجسم الوطني، انتظارا وترقبا،. ورغم أن حالنا اليوم يشهد بعض القضايا العالقة، إلا أن الانتظار فترة أخرى على هذا التقبّض يوشك أن يحيل هذه الطاقة الكامنة للوثوب إلى طاقة غير مُسددة"! ثم انظر، هداك الله وعافاك، إلى ما ورد في الصفحة الثانية: ".. ترويضا للذوات الناشطة كلها، أن تأخذ متطلبات النهوض مأخذ الجد، .. تسليك قنوات الولاءات الجزئية.."، ثم، ".. وعلى الدولة دور في جعل سبيليهما ممكنتين، والجدل بين الحال القاسي، والتطلع المشروع ليس فرديا..". ثم يذكر في نفس الصفحة "الاحتقان السياسي" وعن أن "تحليله وتنفيسه" موضوع حوار بين الفاعلين السياسيين، وعن أن الاستسلام لليأس والوهم "أذهب ريح كثير من الأمم" وأن "المؤتمر الوطني إذ يتحدى نفسه أولا، أن يصدر عن فهم سليم لهذا الواقع، ومن ثمّ استفراغ الطاقة"! وانظر كذلك إلى الصفحة الثالثة حيث يقول كاتبنا المجهول: "..الظرف الداعي لتعطيل ركن هام يُقدّر بقدره، ويُتوصل إليه بمناظرة داخلية مؤلمة وصعبة ولا يُصار إليه إلا بعد انسداد السبل إلا منه، ثم يُعدل عنه فور زوال الاستثناء الذي الجأ إليه"! لاشك عندي في حالة الإمساك المُزمن لدى الكاتب، وهو إمساك بمعروف نأمل أن يتلوه تسريح بإحسان، ولا حياء في العلم! [email protected]