دخلت مبادرة الحوار الوطنى ، التى طرحها الحزب الحاكم فى نفق مسدود ، بعد ان منعت السلطات قيام ندوة لتحالف المعارضة، فى ميدان الرابطة بشمبات مساء السبت الماضى، وكشف الحزب الحاكم ، مجددا، موقفه المناوئ للحريات، والتى تجمع القوى السياسية على اعتبارها شرطا لاغنى عنه، فى تهيئة مناخ الحوار وأهم مطلوباته . واستخدمت الشرطة القنابل المسيلة للدموع لتفريق الندوة ، التى اقيمت فى مقر حزب المؤتمر السودانى المعارض، بعد ان اغلقت السلطة الميدان ، ومنعت قيام الندوة فيه. وقد جاء هذا التطور بعد يوم من أول لقاء علنى لحزب المؤتمر الحاكم، بقيادة الرئيس البشير مع حزب المؤتمر الشعبى، بقيادة دكتور حسن الترابى ، عقب قطيعة امتدت لاكثر من عقد من الزمان. ما يضع المؤتمر الشعبى ، الذى لازال – من الناحية الرسمية – طرفا فى تحالف المعارضة، فى موقف حرج. فالحزب ، الذى انتحل لانسلاخه من الحزب الحاكم ، عام 1999، اثر صراع محتدم على السلطة ، عناوين الحريات والتعددية ، والمشاركة الشعبية، يجد نفسه مطالبا، مرة، بتحديد، موقفه من تطورات الاحداث ، من ندوة طلاب دارفور بجامعة الخرطوم ، التى انتهت باستشهاد طالب ، الى ندوة قوى الاجماع الوطنى بشمبات ، من منطلق التزامه المعلن بالحريات ، وفى علاقة هذا الموقف ، بحواره الثنائى مع الحزب الحاكم ، ومخرجاته. الى جانب الاوضاع الداخلية ، التى يكشف فيها الحزب الحاكم ،عن استمراره فى نهجه الاقصائى للآخر ، ما يتناقض مع دعوته للحوار الوطنى ، فان الحوارالثنائى ، بين الحزبين ( الشعبى والوطنى) ، يجرى فى ظروف خارجية غير مواتية، أيضاً ، تتميز بانحسار المد الاسلاموى ، وانتقال الاسلاميين من موقع الهجوم الى موقع الدفاع ، بما ألقى بظلال سالبة على علاقة النظام بالمحيط العربى ، خصوصا بمحور القاهرة – الرياض ، الذى بدأ يتصدر المواجهة الاقليمية مع الاسلاميين ومراكزهم ، خاصة قطروايران. ربما كان ذلك دافع الشعبى لابقاء خط رجعة عن الحوار الثنائى ، والتمسك بعضويته فى تحالف قوى الاجماع الوطنى. لقد نظر البعض الى التقارب الشعبى - الوطنى ، كمقدمة لوحدة الاسلاميين ، واهل القبلة ، غير ان خلاف الحزبين لم يكن حول الاسلام ، بقدر ماكان خلافا حول الحكم ، خلا – الى حد كبير- من اى اغطية دينية. فقد كانت الجبهة الاسلامية القومية ، خليطا غير متجانس من التيارات الدينية ، التى لم يكن يجمع بينها سوى هدف الاستيلاء على السلطة. فالسلطة، وليس الدين،هو جوهر الخلاف ، وهو بالتالى ، مدخل استعادة الوحدة ، بين أهل السلطة، لا أهل القبلة، حال التوافق على معادلة لقسمة السلطة متفق عليها. وهو امر مستبعد ، فى بنية غير ديموقراطية للحكم ، تتميز بالتمركز الشديد للسلطة ، كل السلطة ، فى يد شخص واحد. كما ان الحزب الحاكم ، ومن خلال تجارب سابقة ، لم يكن يملك افكارا او رؤى يحاور بها الاخرين ، ففى الغالب كان الوطنى يكتفى بتقديم عروض لوظائف متنوعة ، فى المركز والولايات،( وزراء دولة ومستشاريين وولاة ....الخ)، تحت عنوان " قسمة السلطة "، الى جانب عرض " الترتيبات الامنية "، فى تلك المقايضة السياسية ، فى حالة الجماعات المسلحة. شكليا ، لم يكن الحوار يعنى للمؤتمر الوطنى سوى سماع صوته ، أو صداه. ان عجز الشعبى عن استعادة الحكم الذى اسسه زعيمه ، وفشله خلال عشر سنوات من الصراع المتعدد الجبهات والوسائل ، قد انتهى به الى هذا التقارب التكتيكى ، وربما حمله على القبول ببعض قسمة السلطة ، دون ان يتخلى عن طموح "ان يذهب الترابى – يوما ما - الى القصر رئيسا"، وفق الخطة الاستراتيجية ، المتفق عليها، لانقلاب 30 يونيو 1989، التى تقضى بنقل السلطة ، كل السلطة "للحركة الاسلامية واجهزتها" ، حسب شروح المحبوب عبدالسلام ، فى كتابه عن عشرية الانقاذ . فالى جانب استبعاد خيارالتخلى عن الصراع والاستسلام الاستراتيجى للامر الواقع ، الذى افرزته مفاصلة 1999 . فان ان طموح زعيم الشعبى السلطوى ، الى جانب ارث الصراع العنيف بين الطرفين ، من شأنه ان يسهم فى شحن العلاقة بينها بالتوتر وانعدام الثقة ، مايجعل من فاصلة التقارب الراهن ، التى حتمتها الظروف الموضوعية والذاتية للطرفين ، مجرد استراحة محارب.. فى هذا الاطار ، استبعد اسامة توفيق ، القيادى فى حزب الاصلاح الان ، فى حديث صحفى، ان يسقط الترابى فى ما أسماه " براثن نهج اى اتفاق ثنائى". وقد أكد كمال عمر ، الامين السياسى ، للشعبى ، فى تصريح لجريدة الصيحة ، الصادرة يوم الاثنين، ان اجتماع حزبه بقيادة الترابى مع البشير،"لم تتمخض عنه اية ترتيبات ثنائية ولا مواقف ولا مواثيق ".غير فرضية " عودة الترابى الى القصر رئيسا"، والتى يستدعيها التقارب الجارى بين الطرفين ، من شأنها ان تضيف مادة جديدة ملتهبة ، للصراع المكبوت ، داخل اروقة الحكم والحزب الحاكم ، حول خلافة البشير، حال تمسكه بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية ، 2015 ، ماقد يعيد انتاج ازمة القصر والمنشية وصراعهما. وقد سعى الشعبى خلال تلك السنوات للاستقواء بالقوى السياسية ، بدء من الحركة الشعبية الى تحالف قوى الاجماع الوطنى ، لا لغرض تغيير النظام ببديل ديموقراطى ، وانما استعادة السلطة ، التى فقدها ، فى اطار النظام القائم ، والذى ساهم فى صنعه وتأسيسه. فقد كانت اهداف الشعبى تقصر عن اهداف القوى السياسية الاخرى ، التى يتحالف معها مرحليا. وبينما يبدو تقارب الشعبى والوطنى ، تحت لافتات توحيد اهل القبلة والاسلاميين، فى ظل اشتداد الحصار الخارجى على النظام والذى يضعه امام حتمية القطيعة مع ايرانوقطر ، ومع جماعة الاخوان المسلمين ومشتقاتها ، بمثابة سباحة عكس التيار، صعودا نحو المواجهة مع المحيط الاقليمى. من الجهة المقابلة ، فان احداث يومى الخميس والسبت ، قد أشرت نقلة نوعية فى موقف المعارضة ، فى اتجاه استعادة المبادرة والمبادأة ، والالتحام بجماهير متأهبة للنزال ، بكل ماقد يقتضيه من تضحيات . فالندوة التى تداعت لها قوى الاجماع الوطنى ، فى ميدان شمبات ، متجاهلة اخذ اذن مسبق من السلطات ، هو اول نشاط لها يتسم بالمغزى ، وبروح التحدى ، منذ اهبة سبتمبر التى خلفت العشرات من الشهداء. وقد كان التأبين الذى تم لشهيد جامعة الخرطوم ، بمثابة بروفة لتلك الندوة التى تدخلت السلطات لتفريقها. حيث تبارى ممثلو المعارضة فى التنديد بالنظام ، وتأكيد رفضهم للحوار، وتصميمهم على اسقاط النظام. ما يعتبر منعطفا جديدا فى العلاقة بين الطرفين ، بانتحائها نحو الصدام ، بدلا من التوافق والانفراج ، ويضع الشعبى ، مرة أخرى فى موضع العزلة الشعبية . فى هذا السياق التصادمى ، اكد صديق يوسف، رئيس لجنة الاعلام بالتحالف ، لاخر لحظة ، الاحد تمسك المعارضة بشروطها الاربعة للحوار، قائلا : لا حوار بدون اطلاق الحريات ، وايقاف الحرب فى جنوب كردفان والنيل الازرق ، واطلاق سراح المعتقلين ، وتهيئة اجواء الحوار، وذلك ، مقابل شروط الحزب الحاكم الاربعة : لاتفكيك للانقاذ ، لاحكومة انتقالية ، ولا قومية ، ولاتأجيل للانتخابات عن موعدها