يتقبل المجتمع أي كذبة تدعم اعتقاده و يرفض أي حقيقة تتعارض مع تصوره مهما كانت حجيتها ، لكن لا يدوم ذلك للأبد ... اليقين الكاذب كغيبوبة السكران لا يحب صاحبه الصحو لأن اليقين مريح ، أما الشك فيدفع صاحبه للبحث و التحقق و البقاء في حالة يقظة دائمة .... تأخذك المشاغل رغما عنك فيصعب عليك إكمال ما بدأته ... سبق أن أشرنا للخوف الذي ينتاب العقول التي ترتاح ليقينها عندما يتم نبش المخفي الذي يهدد ذلك اليقين ، و لا يأتي الرفض عقلانيا و بحجج منطقية ، لكنه يكون من النوع : (هذه أفكار مشوشة ، المفاهيم متناقضة ، أنت تخلط بين هذا و ذاك ، دائما أمورك متناقضة ، قل لنا اعتقادك ) إذا تناولت ما يحدث اليوم في عالمنا باسم الدين و كيف هو امتداد لما ظل يبشر به أهل هذا الفكر منذ أكثر من ألف سنة ، يقوم العقل الباطن لأولئك بتكرار حجج بليدة مثل : (انظر ماذا فعل هتلر ، ماذا فعل ستالين ، ألا ترى القنبلة الذرية التي أبادت هيروشيما و نجازاكي ؟ ماذا فعلت أمريكا في العراق و أفغانستان ، ألا ترى الرق البشع الذي مارسه الغرب في أوربا و أمريكا ؟ ... ) كأنما يريد أن يريحهم عقلهم الباطن بردود من نوع : (العالم مليء بالظلم فلماذا نحن فقط من تتناولهم ) أي أن ظلم أولئك يبرر ظلم من يدعون أنهم يعرفون مقصود السماء و يتبجحون بأنه العدل المطلق . ينسى هؤلاء أن أغلب دعاواهم صارت تاريخا يتخذ منه الناس العظة و العبرة و لا وجود لها في عالم اليوم ، و تمت إدانتها و التبرؤ منها و دراستها و تحليلها ، فلا أحد يدعو للنازية ، بل تعتبر الدعوة لها جريمة يعاقب عليها القانون حتى في بلدها ، و لا أحد يدعو للستالينية ، فالأحزاب الشيوعية أدانت الحقبة الستالينية منذ الستينات من القرن الماضي ، مثلها مثل كل فكر إنساني يستفيد من تجاربه و يتعلم من الخطأ لأنه لا ينسب أفكاره للقداسة "أما المتكلمين باسم الإله فلا يستفيدون أبدا من تجارب التاريخ حتى يزيحهم لظنهم أن أفكارهم هي مقصود الإله لذا فهي خالدة " و اليوم تنادي الأحزاب الشيوعية بالديمقراطية اللبرالية ، حتى الصين حليفة الإسلاميين الأكبر لم تعد الصين قبل ستين عاما ... حروب أمريكا و غزواتها أغلبها لتكريس هيمنتها الإمبريالية و للغرابة أغلبها يتم تغليفها بحجج دينية (القيم المسيحية اليهودية) داخل حجج الحرية و العدالة و غيرها ، فمحاربة الشيوعية و الإلحاد جعلها توظف السعودية و دول الخليج لإنفاق المليارات من دولارات النفط لنشر الفكر السلفي المتخلف من طباعة الكتب " تم توزيع مئات الآلاف من كتب سيد قطب و محمد قطب و أبو الأعلى المودودي و من لف لفهم بالمجان أو بأسعار رمزية و كاتب هذه السطور شاهد على ذلك في السبعينيات" و ساهمت أموال البترودولار في رشوة المثقفين و الدول و تغيير المناهج و إنشاء البنوك "الإسلامية" لتمويل نشاطات الفكر المتخلف و إنشاء الشركات و توظيف رؤوس الأموال في كل ما يرونه مصلحة للدعوة ، و استغلت الإعلام من إذاعات و محطات تلفزيونية و أشرطة تسجيل و فيديو و الصرف على أحزاب و تجمعات " مثلما كان يحدث في الماضي و ربما لا يزال يحدث من جذب الشباب لجمعيات التلاوة ثم الرحلات و الإعانات و الوعد بالتوظيف و غيره" و تقوم أمريكا بالإنفاق أيضا و الدعم اللوجستي و الإعلامي و التقني لدعم الفكر السلفي (اقرأ مذكرات بريجنسكي مثلا ) ، الحقيقة أن أكثر المستفيدين من نشر و تعمق الفكر السلفي هي النخبة الحاكمة في أمريكا و اسرائيل ... " لا ننسى التفريق بين سياسة أمريكا و نخبتها الحاكمة و قيم التطور المجتمعي و ألوان الطيف الموجودة " ... لا أحد يستطيع إيقاف انتشار الوعي و معرفة الحقيقة لمصلحة اسرائيل و الإمبريالية مثل فيروس الفكر السلفي الذي يأكل العقل و الوعي و ينشر التخلف و يجعل المجتمع مشغولا بمحاربة أعداء وهميين فلا يرى الظلم الاستغلال و نهب الثروات لأن وكلاء النهب هم الوسطاء الذين يكنزون المليارات و يحتاجون لتغبيش الوعي (لو بحثت عن ثروات دعاة الفكر السلفي لوجدت العجب ، فالقرضاوي مثلا ثروته تفوق الثلاث مليار دولار ينفق منها في نكاح الصغيرات مثنى و ثلاث و رباع ، ابحث عن ثروات محمد حسان "في شريط فيديو ينفي أن ثروته إثنين مليار لكنه لا يقول كم تبلغ ، و الإيحاء بأنه إن كانت هناك أموال فهي تخص الدعوة) ، ابحث عن ثروة العريفي ، الحويني ، و عندنا شيخ عبد الحي و صحبه و أعداد البرادو التي يمتطونها ، انظر لمائدة الترابي المنشورة كثيرا في الراكوبة و قارنها بأضلاع أطفال دار فور الناتئة ، أما حكامنا المتأسلمين فحدث و لا حرج عن قصورهم و جواريهم و ثرواتهم و رقابهم و كروشهم و قارنها بمدارس يجلس أطفالها على الأرض و يلبسون أسمالا بالية و بعضهم عريان كما ولدته أمه ، لكنهم من أفصح من يحدثك عن عدالة الشريعة ...) .... الرق أدانته البشرية منذ أكثر من مائتي عام و تخلصت منه و تجتث في آثاره العميقة التي ستتلاشى في المدى البعيد عندهم ، لدرجة أصبح أحفاد العبيد يتسنمون أعلى المناصب حتى درجة رئاسة دولة عظمى ، أما عندنا فتم إلغاؤه رغما عنا و ليس برضانا و كنا آخر الشعوب التي تقنن تحريمه (جرّمه الاستعمار في ثلاثينيات القرن الماضي في السودان ، في السعودية تم إلغاء العبودية عام 1965 و في موريتانيا في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي و لا زالت الفتاوى التي تؤكد على إباحة الرق و التغني بحسناته منتشرة في السعودية و مصر و الكويت و تونس بل في كل العالم الإسلامي ، أما في موريتانيا فلا زال الرق موجودا في الواقع ، نعم يكافح العالم لتخليص أولئك البؤساء لكن لا زالت هناك جواري و أرقاء بأعداد ليست قليلة) ، عند خير أمة لا زالت ثقافة عبد و حر عميقة ، و ثقافة كافر و مسلم أعمق ، و ثقافة قتل المختلف لا تحرك أي مشاعر إنسانية ضدها ... إذا فالواقع مليء بأثر الثقافة التي نسلط عليها الضوء فهي تهمنا لأنها تفعل فعلها في واقعنا : حروب و دونية لمواطنين لأنهم مختلفين إما دينيا أو عرقيا أو كلاهما ، قهر للمختلف حتى و لو كان مسلما ، جلد و إذلال و ذبح للمختلف كما يحدث في سوريا و العراق و لبنان ... على الشبكة توجد عشرات الأفلام التي تصور نشوة أولئك السفاحين و هم يذبحون ضحاياهم بالسكين كالخراف من الوريد للوريد بل و يلعبون بالرؤوس القطوعة بنشوة ، و للعلم الكثير منها رؤوس لملتحين و بعضهل لتكفيرين آخرين (شاب من داعش يفخر بذبح خمسة من جبهة النصرة و يعرض الرؤوس الخمسة بفخر "موقع أنا المسلم" و هناك عشرات الأفلام التي تصور كيف يقوم الذين يؤكدون التزامهم بتطبيق الشريعة بما يصعب مشاهدته للإنسان العادي ناهيك عن ارتكابه ، ففي أحد الأفلام على طريق دولي في العراق يوقفون سائقي الشاحنات و يسألونهم أسئلة عن مدى معرفتهم بالدين مثلا مدى معرفتهم بالصلاة و تفاصيلها : سرا ، جهرا ، عدد الركعات ...الخ ، الذين عجزوا أخذوهم لمنتصف الطريق و أعدموهم بدم بارد .. و في فيلم آخر بعنوان (الإمارة الإسلامية كما يراها أمير جبهة النصرة) تشاهد إعدام الشباب و الجلد المؤذي ... و عندنا في السودان عانينا من المتحدثين باسم الشريعة : أكثر من مليونين من القتلى في الجنوب . يومها تحدثوا بفخر كاذب عن محاربة القرود معهم و الملائكة و المسك الذي يفوح من جثث الشهداء و السحب التي تسقيهم و تحجب ماؤها عن الكفار الأنجاس و عن رؤيتهم للأنوار من قبور الشهداء و رؤيتهم في أحلامهم وسط الحور العين (تبقّى لهم أن يحدثونا عن لذة الشهداء الجنسية بنكاح الحور العين) .. العقل العادي يعرف أنهم يرون أحلامهم و يضخمونها بالأكاذيب ، فهل من تحارب معه الملائكة يحتاج لتوقيع اتفاقية نيفاشا ؟ عانينا من بيوت الأشباح و التعذيب و القهر و إهانة الكرامة و إذلال النساء (في عام واحد في ولاية الخرطوم فقط تم جلد أكثر من أربعين ألف امرأة بأكثر من مليون و ستمائة ألف سوط ) و عانينا من قتل المتظاهرين ، أما المجاعات و الفقر و الخراب الاقتصادي و الغلاء فحدث و لا حرج ، و كل ذلك يتم باسم تطبيق الشريعة أو السعي لتطبيقها ... عندما يتم نشر واقعة جلد إحدى الفتيات تقوم دنيا المتأسلمين و لا تقعد ، فهم لا يريدون للعالم أن يرى روعة أعمالهم و جمال تطبيق الشريعة و حفظها لكرامة الإنسان ... لماذا يا ربي ؟ كان يجب تصوير كل تطبيقات الشريعة من جلد للنساء (حتى أن بعضهن تبولن على ملابسهن في تجلٍ رائع لصون كرامة الإنسان) و القطع و القطع من خلاف و الرجم ، فالحق لا يجب إخفاؤه بل نشره و التفاخر به كما تفعل جبهة النصرة و داعش و كما فعلت طالبان!! لكنهم لا يقولون لنا لماذا لا يريدون للعالم أن يرى روعة أمجادهم . إذا نحن لا يشغلنا هتلر و لا ستالين (إلا كدراسة للتاريخ نستفيد منها) لأنه لا أحد يطالب بالنازية و الستالينية في بلادنا ، و لكن لأن من يطالب بتطبيق الشريعة موجود عندنا ، فاعل ، متمكن ، يذبح و يقتل و يدمر و في كل مرة يفشل مشروعه ينبري آخرون صائحين : (لا هؤلاء لم يفهموا الدين ، هؤلاء أخطأوا في التطبيق ، هنالك مشروع إلهي عندما يتم تطبيقه سيعم العدل و تجري الخيرات و سنفوق العالم أجمع) و ننبه أن ذلك المشروع الفاشي يتمدد بغفلة المجتمع ... و كما قلنا و كررنا : لا يقول لنا أصحاب المشروع المكتمل الذي يحقق العدالة و الذي أخطأ الآخرون في تطبيقه ، لا يقولون لنا أبدا كيف هو ذلك المشروع ؟ و كيف يختلف عن هذا الذي نشاهده و عايشناه في الواقع و عبر التاريخ القريب و البعيد ، كيف يختلف عن مشروع الدولة الأموية و العباسية و الدولة العثمانية و باكستان و افغانستان و العراق و إيران و السودان و الصومال و داعش و النصرة و انصار السنة و الأخوان المسلمين و بوكو حرام التكفير و الهجرة و كل تجارب التاريخ ؟ و لا يأتوننا بنموذج في عصرنا أو في الماضي ، و لا بنموذجهم الخفي ... همنا فضح كذب هذه الدعاوى ، و في رأينا إن الصدمة أفضل من اللف و الدوران ، و إنه لم يكن هناك مشروع مثل هذا حقق العدل فألغى الرق و سمح لكل بني الإنسان أن يعيشوا متآخين متحابين أو دعا لذلك بغض النظر عن اختلاف الدين أو العرق أو الجنس (ذكر أو أنثى) و أوقف الحروب و دعا للسلام ... لا بل و لن يكون هناك مشروعا مثل هذا . الوعي في حاجة لإزاحة حجب الظلام و الأكاذيب و تمزيق شبكات الزيف و الغباء ، ليرى الواقع كما هو ، و ليتساءل العقل : لماذا يتقدم العالم و نحن في كل عام نتراجع للخلف ، و هل سيأتي يوم و نحن على هذه الحالة من الوعي فنجد أنه لا وطن و لا موارد و لا حتى لقمة ؟ سنتناول في الحلقة القادمة : لماذا يتقدم العالم و نسير نحن للخلف و تنبؤ الكثيرين بمستقبلنا و رأينا فيه مع مسائل أخرى .... لم ننس ما وعدنا بتناوله من مواضيع و سنتناوله إن عشنا و لم تدركنا المنية ..... أخيرا : لن تجد نظاما أفضل لحكم مجتمعات متعددة الأعراق و الأديان و اللغات و القوميات غير العلمانية ... لا ديمقراطية من غير علمانية و لو توهم المتوهمون . [email protected]