يقول علقمة: بل كل قوم وإن عزوا وإن كرموا عريفهم بأثافي الشر مرجوم لعب الجيش السوداني أدورا حاسمة في ثورات الشعب ضد الدكتاتوريات التي فرضت نفسها حاكمة عليه ، ولا ينكر منكر الدور الحاسم للجيش وانحيازه لخيار الشعب في انتفاضة أبريل المباركة ، وتنازله عن السلطة في أكتوبر الأغر، وقد كان من المؤمل بل من المؤكد أن الثورتين ستبلغان أهدافها ، إلا أن مواقف الجيش في كلا الحالتين وفر الكثير من التضحيات ، وحسم أمر السلطة وأمن البلاد والعباد في فترة حرجة من تاريخ الأمة . ولا نريد أن نحمل الجيش مسئولية ما حدث بعد نجاح تلك الثورات ، فذالك أمر أول ما يلام عليه قادة الأحزاب التقليدية ومن تبعهم بغير إحسان ، فقد أدى الشعب و الجيش دورهما ، وسلموهم السلطة كاملة . فهذا موضوع ليحكم التاريخ فيه ، ويحاكم من أضاع ثورة أكتوبر لتنتهي إلى دكتاتورية مايو و ثورة أبريل التي لم تسرق ليلة الثلاثين من يونيو بل سرقت يوم أن تمكنت قوى الظلام من الظهور والعمل علنا بعد أن كانت قبل أربعين يوما فقط جزءا لا يتجزأ من النظام الذي هلك . لماذا تهاونت القوى السياسة وبلغت هذا الحد من التسامح مع أعداء الثورة ؟ لماذا لم تعزل قوى الظلام سياسيا ؟ ولماذا لم تقدم أصلا للمحاكمة ؟ ولماذا لم تُضرب مراكزهم المالية التي سخروها للعمل ضد النظام الوليد ؟ كل تلك الأسئلة المشروعة قد تجد الإجابة عنها في منظومة ما يجري اليوم في الساحة السياسية . والحكم سيكون كما أسلفت للتاريخ . ولكن من العبث بمكان وصف هذا الذي يجري بأنه مشهد منفصل عن هذا التاريخ القريب ، فالسودان ظل وإلى اليوم تتحكم فيه طوائف وأسر بعينها تحكمه إما مباشرة أو عبر الستار وهي المتنفذه والضالعة في كل ما يجري في هذا البلد ، فمن خلال مشهد مسرحية الوثبة تدرك أن هذه هي نفس الوجوه التي كانت تتحكم ولا زالت في مصير البلد منذ استقلاله وإلى اليوم مرة باسم الديمقراطية (ثنائي الأمة / الاتحادي) ومرة باسم الدين (الجبهة /الإنقاذ) . وقادة هذه الجماعات لا تخرج من إلا من بيتين ومن ينتمي لهما بالمصاهرة ، فالحقيقة التي تصدم قوى التقدم نحو الديمقراطية أنه في مجتمع تسود فيه الأمية ويرعى فيه الجهل وجد المستعمر ضالته في رعاية أسرتين وتمكينهما من السيطرة على مفاصل الحياة في البلد فالسيدان لم يسودا إلا برعاية المستعمر الإنجليزي وباستغلال الدين وجد هؤلاء المكانة التي أصبحوا فيها الآمرين والمتحكمين في كل شيء . لا يخرج الأمر من يدهما إلا ليعود إليهما من جديد . فقد تسلم الجيش السلطة في عام 1958م من الطائفتين وبمباركة السيدين وثورة أكتوبر تسلقتها نفس الوجوه لتعود للحكم من جديد ، وأبريل حالها حال أكتوبر نفس المصير ونفس الوجوه لأكثر من خمسين عاما ، عالم من ديناصورات لا تعيش إلا في أجواء أرض السودان . هذا الواقع أدركه الفريق إبراهيم عبود فقبل استلام السلطة ، وربما بدرجة أكبر كان ادراك النميري لهذا الواقع ربما بسبب قربه من الشيوعيين والقوى المستنيرة آنذاك ، فتم لهما الوصول للسلطة عن طريق الجيش ، ولكنهما لم يفلتا من تلك القوى المتحكمة ، لقد حارب السيدان حكم عبود حينما انفرد بالسلطة دونهما ، ولم يكن تابعا لهما كما خططا ، وكذلك النميري الذي ابتعد عنهما فكان تحالفهما لإسقاطه والعمل بكل السبل لذلك بما فيها من الاستعانة بالاجنبي فلا شيئ يقف في طريقهما للعودة لإرثهما التاريخي. ثم يأتي دور أشد خطورة وأدهى وأمر ، هذه الطبقة التي يجلس على رأسها الدكتور الترابي وهم طبقة لها طبيعة نفسية خاصة ، شكلها طموحهم الكبير وأشواقهم للسلطة وقد فهموا الأمر الواقع وأن لا سبيل لتحقيق طموحاتهم إلا بأدوار أداها غيرهم باسم السيدين فكان أن قادهم طموحهم وذكاؤهم لطريقين الأول المصاهرة ولها فوائد لا ينكرها منكر وستلعب دورا في استقراهم واستمرارهم في أدوارهم التي رسموها لأنفسهم ، والثاني وهو منافسة آل البيتين في ميدانهم وهو الذي أكسبهم مكاتنهم ألا وهو الدين . نفس الاستغلال الذي أضحي مكشوفا للدين ، فالمهدي لم ينصب خليفة من ولده بل كان نصيب أهله الخليفة الرابع في ترتيب الزعامة على خلافته . واكتفى الميٍرغني الكبير بادارة الأمور من خلف الستار وكان يبعد أولاده عن تولي الأمور مباشرة وكان أحمد المرغني رئيسا لمجلس سيادي لا يحكم . لكن البيتين كانا دائما حاضرين حيث توجد السلطة . الفريق الثالث هذا يعاني من عقدة النشأة المتواضعة ، فهم يدركون أنهم ليسوا في قدسية آل البتين ولا تاريخ أسري لهم ، بل انحدروا من أسر أقل من متواضعة ،هي عقدة متأصلة فيهم بالرغم من التعليم العالي الذي تلقوه ، والذي لن يتيح لهم الحكم والسلطة إلا موظفين في بلاط السيدين ، وهذا يفسر السعي للمصاهرة من بيت آل المهدي خاصة ، فالختمية طائفة دينية أكثر من كونها حزب سياسي بينما الأمة يجمع بينهما ، والمهدي نفسه اتخذ المصاهرة سبيلا للتحالفات السياسية . هذا الواقع هو الذي لا يزال سائدا حتى اليوم فالذين اجتمعوا في يوم الوثبة بين معظمهم علاقات أسرية ومصاهرة ومنافسة في حب السلطة . يعتبر آل المهدي والميرغني أن حكم السودان ورثة لهما وحكرا عليهما ، وواجب يفرضه التاريخ ، وقد احتكروا السلطة فعلا لزمان طويل ووظفوا النخبة السودانية المثقفة لخدمتهم وإن لم يحكموا مباشرة وكلوا من يحكم بدلا عنهم وما عبدالله خليل والأزهري والمحجوب وغيرهم إلا رموزا لهما ، هذا هو الواقع الذي تعامل معه الفريق الثالث بمنتهى الذكاء وعرف الدكتور الترابي كيف يجد طريقا ثالثا يخترق به الصفين نحو السلطة ، فقد تلاعب بهما كيفيما شاء وشاء له طموحه الوثاب فقد تحالف معهم زمانا ، ثم باعهم متحالفا مع النميري . واستطاع هذا الفريق أن يعد نفسه جيدا فقد خلا له الجو بضرب الحزب الشيوعي ، و التخلص من آخر عقباتهم وهو الحزب الجمهوري الذي كان قائده لا يقل ذكاء عن الترابي إلا أنه لم يكن في مثل خبثه . لقد لعبت العلاقات الأسرية دورها في الابقاء على هذا الفريق بعد انتفاضة أبريل ولا يجد المرء تفسيرا مقنعا - إلا هذا - لعدم محاكمتهم على الأقل بتهمة المشاركة في نظام مغتصب للسلطة ودعمه له ، ولا تفسير لعدم حظرهم سياسيا وماليا وهو أقل ما كان يجب القيام به ؟ فما الذي كبلهم وغل أيديهم ؟ وجعلهم يقبلون بمشاركة قوى الظلام هذه في حكم ديمقراطي لا يؤمنون به أصلا وفعلا ؟ من المسئول عن تسلق هذه الفئة ؟ ومن المسئول عن بقائها تخطط وترعى الانقلاب على السلطة وكيف غفل هؤلاء عن رأس الحية المحبوس معهم يومذاك ؟ النموذج المصري الماثل أمامنا يعطيك الإجابة عن أصول التعامل مع حرباء السياسة المسمى الإخوان المسلمون وهو ادراك نوعي ووعي كبير بخطورة ترك الذئب يرعى مع الغنم . وما ذاك إلا لأن الواقع المصري لا يوجد فيه مثل هذه العلاقات الأسرية المتشابكة ولا تلعب فيه النساء دور الطابور الخامس في مطبخ السياسة وصناعة القرارات . لقد عمدت هذه الفئة الثالثة وبمنتهى الذكاء للعمل على ضرب مصادر الوعى في المجتمع وسعت لتدمير القوى الحية التي كان من الممكن أن تسعى لكنس كل هذه العوالق السياسية وفتح آفاق المستقبل للأمة ، وهي أمنية لو استطاعت الطائفية لقامت بها ولكنها فضلت استقطاب رموزها وتوظيفهم لخدمتها . ولهذا حديث سٍيأتي في حينه إن شاء الله . د. زأهد زيد [email protected]