بسم الله الرحمن الرحيم السرد العربي والسرد الأفريقي: أوجه الشبه والاختلاف لقد أفاض عدد من العلماء المختصين في مجال العلوم الطبيعية والإنسانية مثل الجغرافيا والتاريخ واللسانيات والإنثربولوجيا في بيان العديد من أوجه الشبه ونقاط الالتقاء بين العرب والأفارقة عموماً من قديم الزمان، و في العصور الحديثة أيضاً. ولعل من أبرز نقاط الالتقاء، وأبلغها دلالة، أن اللغة العربية التي يتكلم بها العرب، وعدد كبير من اللغات الأصلية في إفريقيا مثل ما يسمى باللغات الكوشية والتشادية قد تفرعت جميعها من أصل واحد قديم، إذ أنها تنتمي كلها إلى ما يسمى بعائلة اللغات الأفريقية والآسيوية. يضاف إلى ذلك القرب الجغرافي الواضح بين بلاد العرب وأفريقيا، مما أتاح التواصل والتداخل والتبادل التجاري، والهجرات المتبادلة بين الطرفين منذ أقدم العصور. لقد انعكست هذه الحقائق بكل تأكيد على طبيعة السردين العربي والأفريقي قديماً وحديثاً، وجعلت بينهما العديد من أوجه الشبه، مع وجود بعض أوجه الاختلاف لا محالة، وبطبيعة الحال. فكلا السردين كانا يعتمدان على الذاكرة فقط والتناقل الشفهي، دون النصوص المكتوبة في بادئ الأمر، و لكن يتميز السرد العربي باعتماد الكتابة وممارستها قبل السرد الأفريقي عموماً بعدة قرون. كذلك يشترك السردان في الكثير من الينابيع والمصادر المعرفية للسرد مثل: الأسطورة، والملاحم القديمة، وأخبار السحر والجن والأرواح الشريرة، إلى جانب المواضيع الإنسانية العامة مثل الصراع بين الخير والشر، وقصص الحب والكراهية، والوفاء والإخلاص، والخيانة والغدر، و الصراع مع القدر وهلم جرا. لكن يلاحظ أن تأثير العقيدة الإسلامية كبير على السرد العربي عموماً، بينما يبدو تأثير العقيدة المسيحية في المقابل ضعيفاً في السرد الأفريقي المعاصر حتى في البلدان التي تغلب عليها المسيحية حاليا، ربما لحداثة عهد جل المجتمعات الأفريقية الحديثة بالديانة المسيحية إذا ما استثنينا إثيوبيا. ولئن كانت عملية الأداء السردي الإفريقي التقليدي تكون عادة عملية تفاعلية يشارك فيها المستمعون والنظارة مع الراوي أو المؤدي، وهو ما جعلت تستلهمه بعض العروض المسرحية الحديثة التي تقدم على الهواء الطلق في بعض البلدان الإفريقية، بمشاركة المشاهدين الذين يتحلقون حول الممثلين، فإن هنالك في المقابل، طرفة من الطرائف العربية القديمة التي تشير إلى وجود وممارسة نوع من التفاعل الواعي والإيجابي من قبل المستمعين، مع القصاص ورواة الأخبار العرب القدماء. فقد زعموا أن واحداً من هؤلاء كان يقص على مستمعيه قصة نبي الله يوسف عليه السلام، فقال لهم" إن الذئب الذي أكل يوسف اسمه كذا .. ". قالوا: فانبروا له جميعهم وصاحوا فيه مستنكرين: " ولكن يوسف لم يأكله الذئب "، وإنما تلك فرية افتراها إخوته، فقال لهم: " إذن ذاك هو اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف ! ". يشترك السردان العربي والإفريقي المعاصر في طرق مواضيع متشابهة مثل مقاومة الاستعمار أو الاحتلال، والقهر السياسي والاجتماعي، و تعرية مختلف أنواع الفساد الأخلاقي والسياسي، إلى جانب إشكالات الهوية، وجدلية العلاقة بين الأصالة والمعاصرة، أو التقليد والحداثة في العهود الوطنية، كذلك تصوير إشكالية العلاقة بين الأنا الإفريقية أوالعربية والآخر الأوروبي المستعمر غالباً. وهنا تظهر أوجه الشبه في المضمون بين مجموعة من الروايات العربية والإفريقية المعاصرة التي تناولت مواضيع الهوية وجدلية التراث والمعاصرة، والاغتراب الروحي، والصراع والمناجزة مع الآخر الأوروبي مثل روايات: عودة الروح لتوفيق الحكيم، وقنديل أم هاشم ليحي حقي، والحي اللاتيني لسهيل إدريس، وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، في مقابل روايات مثل: "الأشياء تتداعى" و"رجل الشعب" للنيجيري تشينوا اشيبي، و "لا تبك يا ولدي" لنجوجي واثيونجو، و"التجربة الغامضة" للسنغالي شيخ حامدو كان، و"الطفل الأفريقي" لكمارا لاي، وغيرها.(10) على أن السرديات الإفريقية تنضح بمرارة أكبر بإزاء النتائج الكارثية التي خلفها الاستعمار الأوروبي على بنية المجتمعات الأفريقية التي تم استئصالها وتغريبها عن جذورها وأصولها و تقاليدها اللغوية والثقافية والدينية الموروثة بالكلية تقريبا، وهو ما سلمت منه المجتمعات العربية إلى حد كبير، ساعدها في ذلك بكل تأكيد، ما كانت تمتلك من مقومات تحصين ذاتي وكيان حضاري عريق وراسخ ومستمر قوامه الثقافة العربية الإسلامية. لقد تجلت تلك المرارة التي ميزت السرديات الإفريقية، وعبرت عن نفسها بقوة عبر تيار "الزنوجة" الذي قاده ثلة من الأدباء من أفريقيا الناطقة بالفرنسية ومن جزر الهند الغربية منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، مثل ليوبولد سيدار سنغور، وايميه سيزار، وليون داما، حيث ركز هؤلاء النفر في إبداعاتهم على تأكيد الخصوصية الزنجية في مقابل ثقافة وعقلية الآخر الأوروبي تحديدا ولكن هذا التيار لم يخل من الملامة والنقد، ذلك بأن رواده وخصوصا سنغور الذي يعتقد أنه قد تناول مسألة الزنوجة تناولا عاطفيا فجا، وفيه الكثير من التعميم، بل يعتقد البعض بأنه قد سلم بمقولات علماء الاجتماع والانثربولوجيا الاستعماريين التي تنسب التفكير العقلاني والابتكار إلى الغربيين وحدهم ضربة لازم، بينما قنع هو بأن ينسب للعرق الزنجي العاطفة والإيقاع والرقص فحسب. ولعل هذا التنميط المخل ذاته، يأتي من قبيل نفس النظرة الاستعلائية التي حدت بالمستشرق الفرنسي أرنست رينان إلى القول بوجود فرق جوهري بين ما أسماهما بالعقلين السامي (بما في ذلك العربي بالطبع) والآري، وتلك واحدة من أوجه الشبه بين الإنسان العربي والإنسان الإفريقي في القدر والمصير، وفي نظرة الآخر الاستعماري لهما. ولذلك فقد شن الجيل الثاني من المبدعين والمثقفين الأفارقة المؤلف بصفة أساسية من مجموعة من الكتاب الذين ينتمون إلى بلدان إفريقية أنجلوفونية، مثل: وول شوينكا، وجون بيبر كلارك، وكروستوف أوكيجو، وثلاثتهم من نيجيريا، شنوا انتقادات لاذعة لتيار النيغرتيود، لأنها في نظرهم، قد قيدت نفسها بما أرادت أن تتجاوزه أصلا. وقد رأت هذه المجموعة أنه بالقدر الذي كانت فيه الزنوجة رد فعل للإجحاف الغربي، كانت في الوقت نفسه محكومة به وخاضعة للانشغالات التي أملاها عليها هو نفسه. وقد لاحظ دارسو الأدب والثقافة الإفريقية أن الموقف الخانع والمستسلم نوعا ما، الذي تبناه سنغور ورفاقه من دعاة النغريتيود، إنما جاء نتيجة لسياسة التذويب الثقافي والاستيعاب بل الإلحاق السياسي التي مارستها فرنسا على مستعمراتها في إفريقيا، وهو ما لم يحدث بنفس القدر والكيفية على أبناء المستعمرات البريطانية. أما الجيل الثالث، الذي ظهر في منتصف الستينيات، فقد رفض الجدل الذي كان قائماً بين الجيلين اللذين سبقاه، على اعتبار أن القضايا التي كانوا يتناولونها عديمة الصلة، كما رفضوا مفهوم (العالمية)، وعدوه مصطلحاً مضللاً يخفي وراءه التبعية للغرب الاستعماري على صعيد الفكر والإيديولوجيا.(11) إن السرد الإفريقي، وخصوصاً الرواية، غير معروفين على نحو كاف لدى القراء العرب بصفة عامة، وذلك على الرغم من بعض المحاولات النادرة والمقدرة بكل تأكيد التي قام بها بعض النقاد العرب مثل المصري الدكتور "علي شلش" في التعريف بالأدب الإفريقي، مما يستدعي المزيد من الاهتمام بترجمة ذخائر الأدب الإفريقي إلى اللغة العربية لتمكين قرائها من الاطلاع عليها.(12) ولعل من الملاحظ أن عدداً من الجامعات بالوطن العربي، بها معاهد أو أقسام للدراسات والبحوث الإفريقية، ولكن الملاحظ بصفة عامة، أن هذه الأخيرة تركز على الدراسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وقلما تهتم بالآداب والفنون واللغات الإفريقية. و كما أشرنا إلى بعض الاختلافات و التباين في الأنماط السردية قديماً وحديثاً في إفريقيا تبعاً لاختلاف المناطق والإثنيات والأقطار، فإن ذات التباين ربما ينطبق على المشهد السردي العربي المعاصر نفسه. إذ لا مشاحة من القول بأن روايات الطيب صالح على سبيل المثال، التي تصور الحياة في قرية تقع على ضفة النيل في شمال السودان، يختلف عن تصوير الحياة في مدينة القاهرة الكبيرة والعريقة في روايات نجيب محفوظ أو إحسان عبد القدوس، كما أن تصوير الحياة في الروايات التي أبدعها روائيو سوريا ولبنان والعراق، مختلف عن تصوير الروائي "إبراهيم الكوني" لحياة المجتمع الطارقي في صحراء ليبيا الجنوبية. بل نستطيع أن نقول إن تصوير الطيب صالح للأحداث في قرية (ود حامد) بشمال السودان، يختلف عن تصوير (إبراهيم إسحق إبراهيم) للأحداث بقرية (كلمندو) الواقعة في سهول (دارفور)، مع أن القريتين ينتميان إلى بلد واحد. وبما أن السودان كثيراً ما يعرف على الصعيد العرقي والثقافي على أنه قطر عربي إفريقي، وهو بالفعل كذلك، فإن جذور السرد الشعبي والحديث فيه، ذات ارتباط وثيق بتركيبته الإثنية والحضارية والثقافية الفسيفسائية، بوصفه بوتقة تلاق وانصهار للثقافات والديانات واللغات والأعراق منذ قديم الزمان. ونتيجة لذلك، فقد ظهرت هذه التعددية الثقافية بروافدها المتواشجة المختلفة في سائر أجناس السرد في السودان قديما وحديثا. وهكذا نجد البروفيسور "سيد حامد حريز" يكتب عن تداخل العناصر الإفريقية والعربية والإسلامية في الحكاية الشعبية عند الجعليين بشمال السودان، كما نجد الدكتور أحمد المعتصم الشيخ ينجز أطروحة علمية نال بموجبها درجة الماجستير في الفولكلور تحت عنوان: "عناصر إفريقية في أحاجي الرباطاب ". والرباطاب هي قبيلة مستعربة أخرى تعيش في شمال السودان، حوالي الشلال الخامس للنيل. لقد أخذت مكانة السردين العربي والإفريقي تتعزز على الصعيد العالمي، وأضحيا يتمتعان باعتراف وتقدير متعاظم في العقود الأخيرة من قبل النقاد العالميين، وفي فترات متقاربة، فهما كفرسي الرهان، وذلك بفضل حركة الترجمة التي نشطت في نقل الابداعات السردية للكتاب العرب والأفارقة إلى عدد من اللغات الأوروبية. وهكذا وجدنا الكاتب المسرحي النيجيري "وول شوينكا" يفوز بجائزة نوبل في الآداب في عام 1986م، فما عتم الروائي المصري "نجيب محفوظ" أن لحق به في الظفر بذات الجائزة الأدبية الرفيعة في عام 1988، كما فازت بها لاحقاً الروائية الجنوب إفريقية "نادين قورديمر". وفي عام 2002م، اعتبرت مجموعة محكمين ونقاد عالميين رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" من ضمن أعظم مائة رواية في التاريخ على الإطلاق، لينفتح الباب بذلك لسائر المبدعين العرب والأفارقة نحو آفاق التميز لكي ينحتوا أسماءهم في سجل الخلود الأدبي على مستوى العالم. +++++++ [email protected]