أغلقت فاطمة باب دارها لدى بدء نشوب العاصفة الترابية التي تنبئ عن قرب بداية موسم الخريف ، كانت قد إستأجرت اثنين من أطفال جيرانها مقابل حلوى مصنوعة من السمسم من أجل تنظيف المواسير التي تصرّف مياه المطر من السقوف. إحتفلا بإسقاط سبعة أعشاش عصافير عثرا في داخلها على ثلاثة أفراخ صغيرة من القمري إضافة لكمية من البيض، وفي النهاية حملا غنائمهما إضافة لقطع الحلوى، أخرجتهما فاطمة الى الشارع وأغلقت الباب، مساء آخر بدأ يرخي سدوله، شعرت به يبدأ فجأة من دواخلها، بطيئا وواثقا مصحوبا بأسوأ ايماءات زمان غابر، زمان شعرت به يفلت من بين أصابعها، كانت على وشك أن تتشاجر مع زينب اختها الصغرى حينما ضبطتها تكنس البيت من آثار العاصفة، قالت لها: وهل نحن في حاجة لمصائب اخرى حتى تكنسي البيت ليلا؟ وضعت في فمها قرصين من ثمار السنط لعلاج الالتهاب الذي بدأت تشعر به في حلقها من جراء العاصفة، حينما خيل لها أنها تسمع وقع خطوات شبيهة بوقع خطوات خطيبها الغائب، لكنها فوجئت بمنظر الشارع الذي أفرغته العاصفة، حتى أفرع أشجار المسكيت كانت منكّسة أرضا. كان هناك شخص مجهول يذرع رمال الشارع، حين رأته من على البعد بين أشجار المسكيت في ضوء قمر رمادي شاحب كان يبدو وكأن العاصفة قد غيّرت من ملامح وجهه الفضي. عرفت من نبض خطواته أنه كان مثقلا مثلها بهموم الوحدة والهجر، فمنذ ست سنوات وهي في انتظار عودة خطيبها، والذي أكدت شائعات متعددة بأنه لقي حتفه، دون تحديد نهائي لمصيره في الموت، ففي حين زعمت شائعات بأنه قتل في الحرب الأهلية جنوب الوطن في كمين نصبته قوات المتمردين للجيش الحكومي بالقرب من مدينة الرنك، زعمت شائعة اخرى بأنه أعدم رميا بالرصاص إثر اتهامه بالإشتراك في محاولة إنقلابية فاشلة ضد السلطة العسكرية، فيما زعمت شائعة اخرى بأنه مات إثر إصابته بفيروس إيبولا على حدود جمهورية الكونغو. إلاّ أنّ فاطمة بعد تمحيص دقيق لأدلة موته وإحتمالات وجوده قيد الحياة، وجدت إحتمال وجوده فيد الحياة أوفر من إجتمال موته، حتى أنها رفضت عدة اشخاص تقدموا طالبين الزواج منها، رغم اذدياد حدة شعورها بمضي السنوات أن مقدرتها على تحمل نفقات الصبر بدأت تنفد، وحتى لا تتهم بالشروع في إنتظار غير مشروع، قررت إستثمار وقت الانتظار في تهيئة عش الزوجية، فانهمكت طوال أعوام في شراء اثاث بيتها ، اشترت مقاعد من خشب الموسكي ومائدة من خشب المهوقني واشترت من الغجر عدة أطقم من أواني الألمونيوم والبلاستيك. ومع تزايد هذا العتاد المنزلي بمرور السنوات أصبح البيت يضيق بساكنيه، رغم انها إستخدمت من أجل تخزين قسم كبير من أشيائها مخزنا ضخما كان مخصصا للبصل والحبوب. وبسبب انتشار شائعة أنها لم تعد تقوى على تذكر ملامح وجه خطيبها الغائب الحقيقية بسبب وطأة إعتام جزئي في الذاكرة، فقد تقاطر عدد كبير من الأفاقين محاولين إستثمار المزايا الأخيرة لهذا الحب المجهول الهوية. جاءوا مساء على عجل، لاحظت فاطمة أنه كان مفتعلا، يرتدون ملابس قديمة تفوح منها رائحة بارود الخنادق، تفوح منهم الرائحة المميّزة لعطور المنافي، عظام وجوههم نافرة بسبب نتانة طعام الفنادق الرخيصة المعتمة حيث لا يسمع في حمى قيظ ساعات النهار الطويلة سوى أصوات النوارس تحوّم فوق أرصفة الميناء المهجور، ومنذ اللحظة الأولى كانت فاطمة تكتشف أنهم مزيفون، وأنهم حضروا ليلا لا لأن عيون السلطة العسكرية كانت لا تزال تراقبهم كما كانوا يزعمون، ولكن خوفا من أن يفضح ضوء النهار زيف تقاطيعهم وزيف بريق الحب في عيونهم. كانوا يصلون مجهدين في تمام الساعة السابعة مساء، يجرجرون اقدامهم وفي عيونهم ينطبع البريق المزيف للمرة الأخيرة التي شاهدته فيها يقطع الشارع ملوحا بيده الى الأبد. وحتى لا تنطلي عليها حيل الحب الذي لاحظت أنه كان يحمل صبغة تجارية، فقد لاحظت أنهم كانوا جميعا بعد أن يفرغوا من سرد قصصهم حول معاناة سنوات في معتقلات النظام العسكري، والجهود التي بذلوها من اجل الافلات من رقابة السلطة، كانوا يعلنون بانهم نجوا من رقابة السلطة وإن لم يستطيعوا النجاة بعد من انهيار تجاري وشيك، بسبب دخولهم في مغامرات تجارية غير محسوبة، نجمت عن قلة خبرتهم في المعاملات التجارية نتيجة سنوات طويلة من الاعتقال والتعذيب، ومن ثم فقد خسروا كل رأسمالهم الذي حصلوا عليه من البنوك بضمانات شخصية وأن الشخص الأخير الذي يتلصص عليهم بين أشجار المسكيت، ليس مندوبا للسلطة، بل لأحد البنوك. وكانوا يعرضون عليها مستندات إنهيارهم التجاري، يقولون لها أنظري هذه فواتير شحنة الشاي الذي إستوردته من كينيا والتي إكتشفت بعد وصولها أنها ليست سوى نشارة خشب، وأنظري هذه أوراق الشحنة التي إستوردتها من الهند وهي عبارة عن قطع غيار لمحركات الليستر الهندية، مختومة من مصلحتي الضرائب والجمارك، وبعد وصولها وأثناء تخليصها من الميناء إكتشفنا داخل الصناديق أكياسا مليئة بالرمل. فاطمة نور الدين لاحظت أن كل رصيدها من الانتظار ومن ثروة المرحوم والدها المتواضعة المتمثلة في بضعة أفدنة من الأراضي الزراعية ، وكل قيمة عتاد الحب المجهول من أواني الالمونيوم ومقاعد الخشب الموسكي، لن يكون كافيا من اجل إنقاذ ولا حتى واحد من هؤلاء العشاق غير المؤكدين، الذين يحملون جميعا إسم خطيبها الغائب، ويثبتون ذلك ببطاقات هوية لا وجود لأدنى شبهة تزوير فيها. وبشهادات موثقة تثبت أنهم شاركوا في حروب أهلية، وأنهم نالوا شهادات للكفاءة في معسكرت مجهولة في أواسط أفريقيا، وأنهم وقعوا إتفاقية توحيد لفصائل الكفاح في برازافيل، وإتفاقية أخرى لفض التوحيد في لورنسو ماركيز، وإنهم شاركوا في إنتفاضات شعبية للإطاحة بالأنظمة العسكرية في عدة بلدان افريقية، كما حملوا على أجسامهم شهادات لا يرقى اليها الشك: آثار تعذيب عانوه في معتقلات سرية. فاطمة حاولت التأكد من شخصياتهم بإختبارات إنفرادية أكثر تدقيقا، وإستعانت بجارتهم العجوز المجرّبة سكينة بت الفضل، لتشارك معها ومع اختها زينب في تكوين لجنة مصغرة للفصل في هويات المزورين. فإستخدمت الحاجة سكينة قطع الودع لحسم أمر الشخصيات البالغة التعقيد، فرأتهم في صورهم الحقيقية: مجرد أفاقين، خضعوا لدورات تدريبية مكثفة في الكذب، ورغم إنتحالهم لصفة النضال، الا أنها رأتهم مجرد عاطلين عن العمل، مطرودين من أي وظيفة في العالم حتى قبل أن يشغلوها. وشاهدت فشلهم ليس فقط في الحياة بل حتى في الموت، عندما أقدم إثنان منهم على الإنتحار بأن أقدما على القفز من على جسر النيل الأزرق، وتم إنقاذهما بسبب صدفة مرور سباق للزوراق لحظة وفاتهما. فاطمة نور الدين إكتشفت بعد سنوات من الانتظار أن التدقيق في إجراءات الحب كان أكثر صعوبة من الحب نفسه، حتى أنها قررت ان تغلق قلبها لإعادة ترميم أوهامها من الداخل بإستثمار النسيان، ومنذ اللحظة الاولى لاغلاق قلبها لاحظت ان وقائع كثيرة توهجت في ذاكرتها قي اللحظة نفسها وأن وعيها تفتح على معاناة يومية مختلفة، تلمستها من حولها في وجوه المارة الذين شغلتهم مصائب يومية ألهتها اوهام القلب عن رؤيتها، ولتحافظ على ستار كثيف بينها وبين متاهة القلب أغرقت نفسها في دوامة لانهائية من المشاكل اليومية، فعادت تشرف على إدارة ممتلكاتهم القليلة وللقيام بكل شئون البيت، تذهب الى السوق وحدها وتشاكس الباعة المتجولين للحصول على أسعار أقل لاحتياجات البيت، حافظت على حياد شفاف تجاه العاطفة رغم الحنين الذي كان يدفعها أحيانا لتخرج بمجرد حلول الساعة السابعة مساء لتبحث عن العشاق المزيفين بين أشجار المسكيت، وتحاول بأنفها دون جدوى أن تلتقط رائحة عطورهم المزيفة من زخم رائحة نوار شجر النيم ونوار البرتقال، لا بحثا عن السلوى في أكاذيبهم ولكن لمجرد إضفاء شرعية عاطفية على معاناة إنتظارها اليومية. إلا أنها لاحظت بعد عدة أيام من تجربة الانهماك اليومي في الحياة انها بدأت تتعافى من داء الانتظار،لم تبق سوى قروح طفيفة في ذاكرتها. وفجأة رأته يبرز من جوف المطر، كانت قد جلست مع أختها زينب ترقبان الرذاذ الخريفي المبكر بعد يوم منهك شاركت فيه في تجهيز الأرض لمحصول موسم الدميرة، حينما تناهى الى سمعهما صوت طرقات خفيفة على الباب. رأته فاطمة يبرز فجأة من ضوء قمر أبريل، كان شاحبا وحزينا، لم تكن فاطمة في حاجة لتدقق في ملامح وجهه لتتأكد من أن الشخص الذي ظلت تنتظره طوال سنوات قد عاد أخيرا، ولكن بدون ذاكرة، لأنها لاحظت أن إجهاد عينيه لم يكن ناجما عن وطأة الأشواق، بل بسبب إستنزاف الذاكرة الى أبعد من حدود النسيان لتحديد موقع البيت الذي ظل يبحث عنه طوال أعوام منذ أن أطلق سراحه بعد سنوات من الاعتقال التعسفي بتهمة الاشتراك في مؤامرة مزعومة ضد النظام العسكري. وفي وجهه قرأت ما بين الآثار الأخيرة للتعذيب، بقايا آخر إشارات الفرح الطفولي الغابر الذي كان يملأ وجهه. أزاحت فاطمة أواني الالمونيوم وبقية مخلفات الصبر من الفناء لتؤمن له المرور حين لاحظت إرتباك خطواته مثل طفل وليد، وبعد يومين من الرعاية المكثفة لإنعاش ذاكرته ومحاولة حمله على الكلام، لم تصدر عنه سوى إشارة مبهمة بإتجاه أحراش الحلفاء ونبات العلق المحاذية لنهر النيل، واضطرت فاطمة أن تجلس طوال يوم كامل لتقرأ له كل كتب المدرسة الابتدائية، ليحاول إمساك مبادرة الذاكرة عن طريق إحياء وقائع المطالعة البسيطة في ذاكرته دون جدوى. رأته الحاجة سكينة بت الفضل على قطع الودع غارقا في تفاصيل أحلامه الغابرة، وتلمست أنفاس صباه، وحددت نبض خطواته الواثقة وهو يقطع طريقا طويلا متربا دون نهاية، وشاهدته في مظاهرة في شارع الجامعة يهتف مطالبا بعودة النظام الديمقراطي، ثم رأته ملقى على وجهه في معتقل سري وقد تدلت عيناه من مكانهما حتى حاذتا فمه. وبسبب خلو ذاكرته تماما من أية واقعة قد تصلح كأساس لبناء وقائع جديدة عليها، اقترحت الحاجة سكينة إعادة حشو ذاكرته أولا بوقائع يومية عادية، فاطمة نورالدين لم تجد الفكرة مثيرة للإستهجان، بل نفذتها حرفيا، قادته بحذر في ممرات الذاكرة، متجنبة بقدر الامكان الأماكن المعتمة ومواقع الانزلاقات المفاجئة، بدأت معه هكذا: هذه وردة جهنمية، هذا مرحاض، نستخدم المرحاض لقضاء الحاجة، هذه غرفة مخزن نستخدمها لتخزين الحبوب والبصل، هذا فأر، الفأر حيوان صغير مزعج قد يسبب الأمراض، ويتلف البصل والقمح لذلك نحاربه بإستخدام سم الفئران، كان ينصت هادئا دون أدنى تعاطف حتى بعد أن جعلته يشاهد خارج البيت منظر المتسولين يتكومون بجانب الجامع وفي شوارع شمس أغسطس الحارقة، حيث رائحة غائط الأطفال المشردين تطغى على رائحة وردات الفل الرسمي الذي زرعته السلطة في أحواض الأسمنت. شاهد أنسجة العنكبوت تغطي أبواب منازل المفقودين والمنفيين. وشاهد من خلف الجدران الأغصان الجافة لأشجار الجهنمية بورودها الحمراء الأخيرة، وتلمس دون إنفعال خطوات الموت تنبض في المكان تحت لافتة الحياة وبمظاهر صخب متشابهة. كانت تقول له: هذه شجرة عشر، فيقول بصوت جاف متهدج: هذه وردة فل! تقول له : هذا إنسان مسكين يطلب حسنة لوجه الله، فيقول مشيرا نحو المتسول: هذه شجرة عشر، تقول له: هذه إمرأة مسكينة أصيبت بالجنون بسبب موت إبنها في الحرب الأهلية، فيقول مشيرا نحوها: هذا إنسان مسكين يطلب حسنة لوجه الله! أشارت نحو رجل شرطة كان يطارد طفلا متشردا وقالت: وهذا رجل شرطة، فأشار نحوه دون أن يثير الزي الرسمي والسلاح الذي يحمله الشرطي أية ذكريات سيئة لديه، وقال: هذه إمرأة مسكينة أصيبت بالجنون بسبب موت إبنها في الحرب الأهلية، أشارت نحو ظلها الذي جعلته شمس الخامسة بعد الظهر يبدو طويلا، وقالت له: هذا ظل، فأشار نحو الظل الطويل وقال: وهذا رجل شرطة! ورغم أن شهورا طويلة مرت منذ ليلة ظهوره في أبريل، الا أن مشهد مروره اليومي في شوارع المدينة لم يصبح مألوفا، حتى أن الأطفال أصبحوا يترقبون موعد ظهوره ليزفوه وهو يترنح بخطوات رضيع فيما تسحبه إمرأة ثابتة الخطوات، مرفوعة الرأس، لم تشأ الاعتراف أنها أضاعت عمرها في إنتظار شخص فاقد للذاكرة، تسحبه من خلفها وتلقنه بإصرار يومي أسماء كل الأشياء، تقول له: هذه شجرة مهوقني، يتلقف الاسم ويلقيه في وحل الذاكرة التي تختلط فيها الوقائع بإيقاع بطئ، ويقول مشيرا نحو الشجرة: هؤلاء هم عشاق الساعة السابعة مساء يجلسون بين أشجار المسكيت! www.ahmadalmalik.com