1- والوكالة بمدينةكسلا، مبنى طيني بمساحة كبيرة، تواجه من جهة الشرق، مبنى المجلس البلدي (المحلية)، بناها قبل خمسة أو ستة عقود، رجلٌ من أهل شندي، مناصفة مع السادة المراغنة. بُنيت الوكالة في شكل مستطيل بجناحين، شمالي وجنوبي، تفصل بينهما ساحة واسعة، تُطّل عليها المحلات، وغرف نوم المسافرين، ثمة بوابتان ضخمتان من الغرب والشرق، تًغلقان ليلاً، فيصبح المكان أشبه بالحصن الصغير .كانت وظيفة الوكالة استقبال التجار بشكلٍ عامٍ، من باعة الجُملة، وسماسرة البضائع، ومناديب المستوردين، والوسطاء. وفي هذا المكان كان يتمّ البيع والشّراء، والمكان معد أيضا لإيواء المسافرين الذين يفدون إلى المدينة. الوكالة في معمارها، تشبه ما كان متعارف عليه من قديم الزمان في معظم البلاد العربية، حيث تختلف تسمياتها من بلد لآخر. البعض يطلق عليها اسم (الخان)، كما في بلاد الشام والرافدين، الذين كانت لهم لكل بضاعةٍ، خان، يرتبط اسمه بها. فهنالك خان الحرير، وخان الحبّالين في دمشق، وخان الجوخ في اسطنبول، وخان الخيّاطين والصّابون في طرابلس، وخان الزّيت وخان الحرير في حلب. وكان بعضها عظيم الاتساع كخان الجُمرك في حلب، الذي يعود تاريخه إلى عام 1574م. فقد ضمّ اثنين وخمسين مخزنًا، وسبعًا وسبعين غرفة وسوقين مبنيين بالحجر المُهندَم، يصل إليهما الضّوء من قببٍ عشر تعلوها. وكان مجموع دكاكينه ثلاثمائة وأربعة وأربعين، وإلى جانبها سبيلان ومسجد. في مصر تسمى أيضاً، (الوكالة). وكالة البلح، وكالة الحديد، وكالة العطارين. وربما اقتبسنا هذه التسمية منهم، إلا أن وكالتنا هذه كانت جامعة لكل أنواع البضائع. قال أحد الرواة، والعهدة عليه، أن وكالة كسلا،كانت تقام بها في عقد الأربعينات، الحفلات الغنائية لمطربي ذلك الزمان. حيث تًغلق البوابة الشرقية، وتستخدم كمسرح، والدخول من البوابة الغربية. لفترة من الزمن، ومع التغيير الذي طرأ على تخطيط المدينة عامة، والسوق خاصة، انتفت الحاجة للوكالة، وخرج إلى الجنوب منها سوق العياشة، تبعه سوق السعف، والفحّامة، والحطّابة. وظهرت عدة فنادق شعبية، تكفلت بالمسافرين، فاقتصرت خدمات الوكالة على استعمال مستودعاته، ودكاكينه، من قبل مستأجرين، لا تجمعهم تجارةٌ مشتركةٌ أو مِهَنٌ واحدةٌ، وقام هؤلاء بتقسيم كل محل إلى جزأين، أحدهما تستقبل أبوابه الطريق من الخارج، والأخر تفتح أبوابه على المساحة الداخلية. وما عادت البوابات الضخمة تغلق ليلاً. 2- فقدت الوكالة سمعتها الحسنة، وأصبح الداخل من بوابتها، أو الخارج منها، ولو بالصدفة واختصاراً للمشوار، يواجه امتعاضاً من الناس، ونظرة متشككة في مقاصده، إذ أن غُرف الوكالة الخلفية، أصبحت مرتعاً للممارسات غير القانونية، لعب (القمار )، وتداول المخدرات، وملجأ للصعاليك والحرامية، وكلَّ خارجٍ على القانون. إن أراد أحدهم شتْمك، ووصْفَك بما لا يليق، نعتَكَ بأنك ( ابن الوكالة). حقيقة، أصبحت غرف الوكالة الخلفية، المطلَّة على الساحة الداخلية، تبعث الرَّعشةَ في قلب من يدخلها عن غير قصد. بعتمتها، وروادها الذين يحدِّجون كل قادمٍ بنظرات شرسة، وهم يتحسسون (عكاكيزهم). بكل غرفة من تلك الغُرف،مجموعة من الطاولات، والكراسي الخشبية، لممارسة لعب القمار، يشرف عليها رجل بمواصفات خاصة يسمى (الرّكّيب)، مهمته الإشراف على اللعب، وتوزيع الورق، وربما شارك فيه أحيانا. يقوم بذلك نظير نسبة من أرباح الذي يكسب الجولة، وتسمى هذه النسبة (البرتيتة). يتقاسمها الرّكيب مع صاحب المقهى، الموجود بالغرفة الخارجية، والتي تُسْتخدم لتقديم الشاي والجبنة للزبائن، الذين يجلسون في الفناء الخارجي للمقهى، المقابل للطريق، لزوم التغطية. وهنالك باب صغير في نهاية الغرفة الخارجية، يؤدي إلى الغرفة الداخلية. وللركيب مساعد يكمل حلقة اللاعبين، مهمته إغراء الرواد، واستقطابهم لطاولة معلمه، دون أن يلحظوا الصلة بينهما. يستخدم المعلم ومساعده رموزاً خاصة بهم لخداع المقامرين. غالبا ما يفتعل المساعد المشاكل مع الرّكّيب، حتى لا يفطن البقية للشفرة الخفية بينه وبين المعلم. (الركّيب) لابد وأن يكون شخصاً ذكياً، خفيف اليد، يعرف كيف يصفّ الأوراق بطريقة تجعل كل المراهنات تصب في خانة مساعده. لماحاً، يقرأ الوجوه جيداً، وفوق هذا وذاك، لا بد أن يتمتع بقدر وافر من الشراسة. تحتل السكين موقعاً ظاهراً بذراعه، وبجانبه عكازته ذات المقدمة الحديدية، يرهب بها كل من تسول له نفسه الاحتيال، وجلب المشاكل. كل ذلك أشبه، (مع الفارق الكبير )، بما نشاهده في كازينوهات القمار العالمية، مونت كارلو، ولاس فيجاس، وغيرها. ولا يخلو الأمر من تغطية وحماية من بعض رجال الأمن، الذين انزلقوا إلى وهدة الإدمان . وكم من حادثة أُزْهِقت فيها الأرواح لأتفه الأسباب، وكم من شخص أُصِيب بعاهة مستديمة، وهو يجاهد لاستعادة ما سُلِب منه بالنصب والاحتيال. من العجب، أن الرّكّيب، وبالرغم من دخله اليومي المرتفع، إلا أنه يأتي للوكالة، صبيحة اليوم التالي، خالي الوفاض، اذ يتبخر كل دخل يومه في الخمر، ومجالسة النساء.تأمّل. 3- وأخيراً انهارت إمبراطورية (الرّكّيبين).بعد أن تعددت حوادث القتل داخل الوكالة، شدد الأمن قبضته عليها، وأصبحت عرضة لمداهمات الشرطة في كل وقت. فتفرق شمل المقامرين و أرباب السوابق والصعاليك.واستعادت الوكالة هيبتها ورونقها القديم. وبدأت المحلات والمقاهي حسنة السمعة تجد طريقها إلى واجهات الوكالة. في واجهة الجناح الشمالي، قهوة (وقر) المشهورة، التي كانت منتدى الطبقة العاملة، ثم محل عمنا ( السنوسي )، وهو أول محل عصائر يستخدم الماكينات لعصر الفواكه. يليه محل (ود عماري ) ابو شعر. ومطعم (مرحوم الجاك). في الركن الشمالي الغربي، محل (عبد الله الحجازي)، وعبد الله الحجازي، رجل من أهل الحجاز، عاش ردحاً من الزمن بالمدينة، وكان محله يتميز بالأناقة والترتيب، بدواليبه ورفوفه الزجاجية، التي يعرض فيها أحدث المنتجات الأوربية، من ساعات ال (جوفيال ) وال ( رومر) السويسرية، إلى العطور الباريسية، والأحذية الانجليزية، والايطالية، ونظارات البيرسول، والملبوسات المستوردة كان المحل قبلة الشباب الباحث عن الأناقة والحداثة. عبد الله الحجازي ترك المدينة، وعاد إلى أهله بالحجاز في أواخر سبعينات القرن المنصرم. الركن الشمالي الشرقي، يحتله دكان عمنا (قسم الله الولي )، يجاوره من جهة الجنوب، دكان عمنا ( سليمان ابو سيف) لبيع مواد البناء. من الجهة الغربية للوكالة،مقابل مبنى البلدية،محل ( على نقناق)، لبيع الفواكه، وبعض محلات الحلاقة، وبيع التمباك. في الجناح الجنوبي للوكالة مقابل سوق العيش، مكاتب( القومسنجية)، وبعض الأفران. الكثير من هذه المحلات تبدلت مواقعها الآن، بعضها اختفى، وحلت مكانها محلات أخرى. رغم ذلك، مازالت (الوكالة) بأحداثها وناسها و(ركّيبيها) ومحلاتها، حيّة في ذاكرة مجايليها. [email protected]