يفترض في النظام القانوني السوداني منذ سبتمبر 1983م ان يكون قد حسم توجهه لصالح الشريعة الاسلامية كمرجعية وحيدة وكمضمون ، لكن برغم أن ذلك (الحسم ) لم يكن بفضل حوار واقتناع قانوني وشعبي يسهم فيه علماء القانون والفقهاء والمحامين والقضاة ؛ وانما بفضل توجهات وتوجيهات عليا تتخذ سنداً من الرغبة الشعبية العاطفية التي لم يتم تنويرها ولاقياس توجهاتها ولا اخذ رأيها ؛ وبرغم ان الشريعة فرضت بقوة النار والابتزاز الفكري للخصوم بما اسكت كل الاصوات – برغم ذلك كله – إلا ان النظام القانوني لايبدو انه استقر بعد، وذلك بدليل رفع والي القضارف لشعار تطبيق الشريعة في حملته الانتخابية وبدليل الحملة التي شنتها بعض القوي علي عضو مستشارية الامن اللواء حسب الله عمر ..وايضاً بدليل تصريحات الرئيس التي وعد فيها بما يشبه الوعيد بتطبيق الشريعة (الحقة) واصفاً ما كان معمولاً به قبلاً / او حالياً / بالشريعة المدغمسة !!! وهذا التصريح يذكرني بأقوال شاعر شعبية تصف فيها وتنتقد ممارسات الانقاذ في ايامها الاولي فتقول : مالك يا الزبير باشا اب نياشين طبقت الشريعة علي الوشي الشين؟! هذا الجدل ما أريد به سوي ارسال رسائل سياسية وقد وصلت الرسائل ؛ ومنها ان الشريعة في السودان استقرت وليس في مقدور كائن من كان اثارة هذة المسألة دون ان يناله نصيب من مزايدات وابتزاز حرس النظام وان تلك المزايدات يمكن ان تطال حتي اركان النظام ان هم زلت اقدامهم او السنتهم مثلما حدث مع اللواء (م) حسب الله عمر، إلا ان تلك الرسائل لن تثنينا عن ان نصدح برأينا ونقول كلمة نراها بصدق كلمة حق.. ففي الواقع ليس للشريعة وجه حسن وآخر قبيح مثلما ليس هناك شريعة (مدغمسة) واخري غير (مدغمسة) وانما سبب كل تلك الجلبة والتصريحات والجدل هو ان الذين طبقوا أو رفعوا أو لوحوا براية الشريعة لم يعلموا ان الشريعة ليست نظاماً قانونياً متكاملاً بل وهم لم يعملوا لأن تكون كذلك ، وانما لوحوا بها كشعار سياسي هدفه تحقيق مكاسب سياسية و اقتصادية وسط انصارهم و وسط القاعدة الشعبية ؛ وهي في افضل الاحوال من المتعاطين مع الاطروحات السياسية والقانونية بالعاطفة لا العقل ؛ وفي بعض الاحوال هم مجرد متعصبين دينيين لا يقبلون ولا يتقبلون أي نقد أو مجرد نقاش حول هذة المسألة التي يعدونها (محسومة) ان لم يكن بقوة المنطق فبمنطق القوة والاجبار. فالقوانين الاسلامية منذ اول عهدها في السودان طبقت في الحكم العسكري الدكتاتوري ، فقد طبقها الرئيس النميري ولم يكن تطبيقه لها بناء علي دراسة ولم يسبقها حوار يسهم فيه المتخصصون في القانون والامن والاجتماع وانما طبقت بناء علي استشارة وأهواء حفنة قليلة جداً هي ليس منزهة عن الغرض وعن خدمة اجندة الرئيس السياسية ؛ ذلك الرئيس الساعي لاستدامة حكمه بكل الوسائل؛ وقد صاحب تطبيقها حينه استقالات واسعة في الجها القانوني للدولة (خصوصاً القضاء) احتجاجاً علي الطريقة من البعض وعلي المبداء من البعض الآخر وبالتأكيد كان لتطبيقها تأثيرات كبيرة علي جهاز القضاء وان كانت تلك التأثيرات لم تجد حظاً من الضوء لأن كل من تولوا موقع المسئولية فيه كانوا ممن ينظرون للامر بمنظور عين الرضا. ثم كان تطبيق او تأكيد تطبيق الشريعة في اول عهد الانقاذ كما سبقت الاشارة كانت ايضاً في ظل نظام عسكري انقلابي هو اصلاً مدعوم بل ومدفوع من قوي سياسية اسلامية (الحركة الاسلامية) وكان ذلك النظام يبحث عن اي تأييد شعبي ، ولم يكن في تطبيقه ذلك يبحث عن نظام قانوني يحقق الاستقرار والعدل المنشود . ثم ان تطبيق القوانين ذات المصادر الاسلامية (تحرياً للدقة ) في السودان قاد الي ما يمكن ان نسميه الوضعيه الاسلامية ، وهي في ذلك لا تختلف كثيراً عن القوانين الوضعية التي يعتقد دعاة وانصار الشريعه انها النقيض والمقابل....فالوضعية هي كما يعرف المختصون في القانون احدي المذاهب والمدارس القانونية والتي تعرف القانون بانه القواعد التي تصدر من جهة مختصة ذات سيادة وتحدد جزاء عند خرق تلك القواعد،وهي تختلف عن باقي المدارس (القانون الطبيعي، المدرسة البحتة، المدرسة الواقعية.....الخ)في كونها تقسم القوانين المتعارف عليها الي قسمين: قوانين وفق المعني الدقيق واخري ليست وفقاً للمعني الدقيق Law properly so –called and law not properly so –called والقوانين الاسلامية المعمول بها في السودان لاتخرج بحال عن هذة المدرسة الوضعية لكونها في النهاية قوانين تتلزم بالتبويب والتقسيم والصياغة للقواعد ووضع الجزاءات وهي صادرة من جهات مختصة سواء كانت برلمانات اومجالس عسكرية وان كان لابد لها من تمييز فهو الوضعية الاسلامية لكونها تستمد قواعدها من الفقة الاسلامي،والشريعة بالمعني الشعبي الرائج حتي بين المتخصصين ، لايمكن تطبيقها عملياً لاعتبارات عديدة جداً ابرزها ان قواعد الشريعة في كل مصادرها متعددة لدرجة التضارب والاختلاف وفيها اكثر من قول، فهناك اولاً مذاهب طائفة السنة ومذاهب طائفة الشيعة ، و للسنة وحدهم اربعة مذاهب رئيسية هذا عدا عن المذاهب الاخري وفروع المذاهب الاربعة . ثم ان تطبيق الشريعة ان اعتبرنا ان الوضعية الاسلامية هذة (شريعة ) هو امر صعب وفية تجاوز اصطلاحي وافتئات لان الشريعة توقف العمل بها منذ ازمان سحيقة كنظام قانوني للدولة وليس قوانين اجتماعية فقط، واعادة العمل بها في هذا العصر /عصر الدولة الحديثة ذي المدنيات المعقدة اجتماعياً وسياسياً وذي العلائق المتشابكة دولياً باحلاف وعصب / هو امر له اثار سياسية واقتصادية وقانونية بالغة التعقيد ودونكم تجربة المملكة السعودية التي تجد صعوبات جمة في الاندماج في المنظومة الاقتصادية العالمية (رغم ثرواتها المهولة) فالقانون ليس مجرد عقوبات محدودة وانما منظومة يجب ان تاخذ في اعتبارها احتياجات التنمية والاستثمار....الخ ، لذا فان شأن تطبيق الشريعة ليس مجرد مسألة تدين او صدق ايمان ؛ تترك الفتوي فيه لهيئات العلماء وائمة المساجد ويسمح لهم بالتغول لدرجة التأثير وإبعاد قادة قادة في جهاز الدولة الاعلي.. وإنما شأن دقيق يجب ان يترك لعلماء القانون والقضاة والمحامين دون مزايدات او ابتزاز وترهيب ودون استغلال لعواطف ورغبات شعبية لم يسمح لها بابسط درجات التنوير والمعرفة . ان الشريعة اللاسلامية المطبقة حالياً في السودان وباكستان والصومال وبعض نواحي نيجيريا تمثل بالاساس ثمرة للسياسات البريطانية الاستعمارية والتي بنفعية محضة إرتأت ان تترك مسائل الاحوال الشخصية وسائر الامور ذات الصلة الحميمة بحياة تلك المجتمعات التي استعمرتها ؛ ان تتركها للقوانين المحلية حتي لا تجر علي حكمها باباً للثورات الدينية ، فاصبحت تلك المجتمعات تعيش تناقضاً وتنازعاً صارخاً ، فقوانينها المدنية حديثة متطورة وقوانينها الاجتماعية قديمة غير قابلة للتطور ، وكان لابد لهذا التنازع والتناقض ان يحسم لصالح احد الجهتين وقد كان التيار الشرعي / السلفي هو الاقدر علي حسم النزاع لأنه بالأساس لم يتضرر كثيراً من الاستعمار إذ لم يحتك به أساساً ؛ وحتي حسمه لهذا الصراع كما سبقت الاشارة تم بوسائل غير اخلاقية كنتاج للتحالف مع الانظمة القمعية وفي ظل ارهاب وتخويف اصحاب الرأي الاخر.، وكان علي تيار الحداثة القانوني ان يدفع الثمن ..ودفعت معه البلاد والشعوب اثماناً باهظة. ان الازمات التي تعيشعها البلدان التي تطبق الشريعة الاسلامية (وخصوصاً السودان) لن تنتهي مالم تتبين النخب المستنيرة (حاكمة/ ومعارضة) جزر المشكلة والبلاء وتتصدي له بشجاعة ، وجزر المشكلة في السودان هو ان الشريعة الاسلامية قد تم انتزاعها من سياقها الديني والتاريخي وتم اقحامها في الصراع السياسي المعاصر .... واستمرار هذا الوضع يعني استمرار هذا الوضع يعني استمرار الفئات المستفيدة منه في تسيير شئون الدولة بما يمنع وضعها علي طريق تأسيس الدولة الحديثة ذات المؤسسات المدنية .. وبما يعيق أي تقدم او تطور أو نهضة حقيقية , و يعدم فرص ايجاد حياة عامة وسياسية صحية ومستقرة تحتكم للديمقراطية و الارادة الشعبية حرة الاختيار . ولن تنتهي هذة الازمات ما لم تضع تلك النخب الامر في سياقه الصحيح وهو ان تعود الشريعة كقانون ديني لتصبح شأن خاص مثل أي أمر ديني لآخر وتدخل في في باب حرية العقيدة والاديان (مسألة حرية شخصية) ، وكشأن ديني ليس للدولة شأن به ولا صلة بتطبيقه بواسطة اجهزتها ، وانما فقط دورها ينحصر في ان تضمن ان يستطيع كل فرد ممارسة شعائره بحرية دون تضييق عليه او تعدي منه . www.anwarleman.blogspot.com [email protected]