مدخل: كتبت عن مريم يحي التي اتهمت بالردة وتم ايداعها السجن وكان محكوم عليها بالاعدام ولم اكتب عن الصادق المهدي الذي اتهم بعدة تهم تصل عقوبتها الى الاعدام وتم ايداعه السجن ايضا، ليس شماتة في الصادق نتيجة لمهادنته لهذا النظام. لم اكتب عن محنة الصادق فقط، لانني ادرك ان الدولة السودانية هي دولة ابناء الوسط (مجتمع التحولات) وليست دولة لكل السودانيين، ولذلك يجد اي فرد ينتمي الى مجتمع الوسط مخرج ما اذا تصادم مع الدولة، فيوجد فقه السترة وفقه التحلل وباركوها وعشان خاطر عين وغيرها من القيم التي توظف لمصلحة انسان الوسط، تحدث بعض التقاطعات كما في حالة الصادق وغيره ولكن يوجد ضو في اخر النفق، وترجع تلك التقاطعات نسبة لان فكرة الدولة هي فكرة الثقافة الغربية وليس فكرة ابناء الوسط. ولذلك لا خوف في الدولة الانية على فرد من ابناء الوسط اذا كان الصادق او غيره ولكن الخوف على ابناء المجتمعات الحقيقية. ولذلك كتبت عن مريم يحي التي لا تنتمي لمجتمع التحولات وكان يمكن ان تنفذ فيها العقوبة لولا محمدة التدخلات الخارجية التي تنصف المجتمعات السودانية الحقيقية عندما خزلها مجتمع التحولات. واتمني ان تدرك النخب الصاعدة ذلك حتى لا تنقاد خلف النخب السابقة التي لازالت تتحدث عن الديكتاتورية والحركة الاسلامية، فالدولة التي نسعي الى تفكيكها الان هي دولة مجتمع الوسط (مجتمع التحولات) بفكر عروبي يميني من اجل ايجاد دولة السودانوية. لماذا الصادق المهدي: يحتار كثيرين في امر الصادق المهدي ومواقفه، فالصادق واسرته منقسمين بين المعارضة والنظام الحاكم، ورغم موقفه المبدئ من عدم المشاركة في نظام ديكتاتوري الا اننا نجده اقرب في كثير من الاحيان الى النظام من المعارضة، فما بين مشاركة ابناءه مع النظام الحاكم الى تلبيته لكل الدعوات التي تاتيه من النظام وخروجه بحزبه من تحالف المعارضة، كل ذلك يجعل السؤال قائما: هل الصادق مع الحزب الحاكم ام مع المعارضة؟ ازمة النخب السودانية بين اليمين واليسار: ان ازمة الانسانية عموما والنخب من ضمنها هي ازمة تعريف للذات الكلية، اي من هو الانسان؟ فاهمية ذلك التعريف يكمن في ادراك شكل التفاعل السلوكي والفعل ورد الفعل، فمن هو الانسان اجابة محورية لطريقة تفكير الشخص والزاوية التي ينظر بها الى الاخرين. ولانعدام الاخر المختلف في الفكر الانساني لذلك تنقسم الانسانية بين الذات وبين اخر ضد. ونجد ان تعريف الانسانية او من هو الانسان يمثل مركز القيم بالنسبة للشخص باعتباره بوصلة يدل على ما يمكن ان يفعله ذلك الشخص وما لا يمكن ان يفعله والمجال الذي يتحرك فيه بين مركزية القيم وبين القيم الثانوية. وكان من المفترض ان يتكامل ذلك التعريف للانسانية مع الواقع السوداني، ولكن يجب ان لا ننسي بان لا وجود لفكر سوداني، فكل الفكر داخل الواقع السوداني عبارة عن رؤية الاخر للانسانية اذا كانت الثقافة الغربية او الثقافة العربية. تجزاءت النخب السودانية نتيجة لتعريف الانسانية الى نخب تنتمي الى الفكر العربي واخرى تنتمي الى الفكر الغربي، فمن يتبني الفكر الغربي يري الانسان الغربي بكل قيمه كمثال على الانسانية، ولان قيمة الفردية هي من القيم الاساسية التي يقوم عليها الفكر الغربي لذلك نجد ان المتبني لذلك الفكر يتحرك داخل دائرة مركزها شخصه، اذا القيم المركزية تتمثل في قيم العلمانية بالاضافة الى الفردية، اما بقية القيم فتعتبر قيم ثانوية. ونجد ان اصحاب ذلك الفكر هم ابعد الناس عن المجتمع السوداني لتقاطعهم مع القيم المجتمعية بالاضافة الى انانيتهم المفرطة. اما الجزء الثاني فهم اصحاب الفكر العربي وهؤلاء يكون مركز الانا (الانسانية) هي الانسان العربي والقيم العربية، اي تكون بوصلتهم في اتجاه الدول العربية، وهم اغلبية النخب السودانية ولا يتقاطع فعلهم مع تلك القيم. ومركزية القيم تعبر عن القيم التي ترتبط برؤية كلية اي القيم التي يؤمن بها الشخص ويعتبرها محققة للانسانية. اما القيم الثانوية فهي القيم التي تنبع من داخل الواقع مثل الواقع السوداني او قيم تاتي من خلال التفاعل مع الاخر، اي انها تمثل حالة شعورية ولكن لم يؤطر لها فكريا ولذلك فهي تبقي قيم هشه قابلة للتحلل وتحديدا اذا دخلت في حالة تضاد مع مركزية القيم. الصادق المهدي وعمق ازمة الانسان النخبوى: ان حالة الصادق المهدي تمثل محفز للدراسة باعتباره يمثل نقطة تقاطع بين القيم العربية والقيم الغربية والقيم السودانية، فلم يسعي الصادق الى مكانته التي هو فيها ولكنه وجد نفسه داخل بؤرة من التقاطعات الفكرية والسلوكية وكان يشغله الاني اكثر من الفكر والرؤية الكلية، ففي بداية الصادق السياسية لم يصنف نفسه ولذلك لم يكن تشغله مركزية القيم نسبة للتداخل الذي وجده بين القيم العربية والقيم الغربية، ولان الصادق ليس بنخبوى فكرى ولذلك نجده قد بدا بداية طبيعية كنخبوى سلوكي، عكس بداية محمود محمد طه او الترابي، فتلك نخب بدات بمركزية قيم محددة وسعت الى ممارسة السياسة من خلال تلك المركزية، ويجب ان نفرق بين النخب المتلقية للفكر وبين النخب الصانعة له، فمن كل النخب السودانية لا نجد نخب صانعة للفكر غير محمود محمد طه والترابي بالاضافة الى محمد محمود الان، وعندما نتحدث عن النخب فنحن نتحدث عن النخب التي تبحث في الرؤية الكلية اي التي تتحدث عن الاله والحياة وللاسف كل نخب اليسار ماعدا محمد محمود هي عبارة عن نخب متلقية للفكر فقط (واتمني ان نفرق بين الترابي المفكر والترابي السياسي، فالترابي المفكر هو نخبوى منتج للفكر اتفقنا او اختلفنا معه، اما الترابي السياسي فهو اسوا سياسي على وجه الارض). اما الفكر عند الصادق فقد فرض عليه عندما تباعدت مركزية القيم العربية والغربية والواقع السوداني. عند ذلك تواضع الصادق على مركزية القيم العربية كما هي بينه والاخرين اما هو فدائما يسعي الى ايجاد توفيقية بين تلك المركزية والقيم الغربية والواقع السوداني، وحتى الان لم يصنع الصادق رؤية فكرية ولكنه اعتمد على تاريخ المهدية واصبح يتحرك من خلال الكاريزما التي صنعت للمهدية، فافعال الصادق يجب النظر اليها من خلال تلك التقاطعات، فعندما ينظر الصادق للغير ينظر من خلال مركزية القيم العربية اما عندما ينظر الى نفسه فهو ينظر الى انسان سوداني بقيم سودانية عربية غربية ولذلك يحلل الصادق لنفسه ما لا يحلله لغيره، فهو ينظر لافعال الغير من خلال مركزية القيم العربية اما افعاله فينظر لها من المنظور الاني الذي دفعه الى ذلك الفعل اذا كان مركزية القيم العربية او الغربية او السودانية، فالصادق لا يؤمن بجوهر القيم الغربية التي تقوم عليها الرؤية الغربية مثل الفردية والعلمانية، ولكنه يؤمن بالقيم الثانوية مثل الاستقلالية في التربية وعدم الوصاية الى حد ما، اي يجب ان يكون نتاج تلك الاستقلالية وعدم الوصاية افعال مقبولة من مركزية القيم العربية التي يتفق فيها مع الاخرين، ويجب ان لا تخرق الاستقلالية وعدم الوصاية القيم الاساسية وهي قيم الاسلام والعروبة، فعندها سيفرض تلك القيم على الاخرين، فمثلا يمكن لاحد ابناءه الانتماء الى الحركة الاسلامية او يشارك النظام الذي يقول بالاسلام والعروبة، ولكن لا يسمح بالاستقلالية او عدم الوصاية ان تؤدي باحد ابناءه ان ينتمي الى الجبهة الثورية التي تقول بالعلمانية. اذا الصادق معارض للنظام من داخل الرؤية العربية، ويمكن ان يخرج على النظام اذا تاكد ان البديل سيلبي طموحه الشخصي او على الاقل سياتي باناس من داخل مركزية الرؤية العربية، اما من يحلم بان يخرج الصادق على النظام لياتي بالجبهة الثورية والعلمانية والمسيحية والعبيد وتسليمهم اعناق العرب فسينتظر كثيرا. فلا وجود لوطن يسع الجميع في ذهن الصادق الا اذا كان رئيس الجمهورية هو ام عمر البشير او المرغني، فعند ذلك يمكن ان يضمن الصادق وطن يسع الجميع، اما وطن على راسه الحلو او عبد الواحد او عقار او اي من تلك الاسماء فهو وطن تعمه الفوضي، فلا ضمان مع تلك الاسماء التي في نظره اسماء بلا دين بلا اخلاق. ولذلك يمثل الصادق نموذج لكل النخب السودانية التي لجات الى الحل التوفيقي بين مركزيات القيم دون رابط كلي حقيقي، فهي عند الازمات ترجع الى مركزيتها الاساسية وعند كل مجتمعات الوسط تمثل مركزية القيم العربية هي المركزية الاساسية اذا كان بتوصيف ديني مسلم وكافر او بتوصيف مجتمعي عربي وعبد. ويتم بالتالي اختزال الازمة في شكل او ديانة الفرد. فتواطؤ الصادق المهدي ضد الثورة لا يمثل الصادق فقط ولكن يمثل كل مجتمع الوسط مجتمع التحولات)، الذي يرفض الانتماء الى مجتمعاته الحقيقية وينتمي الى مجتمعات اخرى. فما نفعله منذ مجيء الانقاذ وحتى الان هو اعادة انتاج الازمة بالهروب منها، فالثورة القادمة هي ثورة فكرية محصورة داخل النخب فقط، فقد قام المجتمع بدوره كاملا عندما اتاح مساحة تجريب كل الافكار داخل الواقع السوداني، فالى ان يستوعب مجتمع الوسط (مجتمع التحولات) بانه نتاج كل المجتمعات السودانية في اتجاهها نحو مجتمع ثقافي كلي، سيبقي الوضع على ما هو عليه بان ينظر المجتمع الى النخب وتنظر النخب الى المجتمع والكل ينتظر فعل حقيقي، ونتمني ان تستوعب النخب الصاعدة الواقع قبل ان تجد نفسها دون مجتمعات حقيقية تعبر عنها. [email protected]