كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    الديوان الملكي السعودي: خادم الحرمين الشريفين يغادر المستشفى بعد استكمال الفحوصات الروتينية    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«سمراويت» و«ذاكرة الجسد»: وقائع سطو أدبي
نشر في الراكوبة يوم 18 - 08 - 2014


أبو بكر كهّال (*)
لم يَعُد لصوصُ النصّ الأدبي، يحفلون بحقوق الآخرين الفكريّة والأدبيّة، ولم يعودوا يكترثون لنواميس النّزاهة. وفي لجّة هذه الطامّة الأخلاقيّة والمفاهيميّة، تَبرز لدى هؤلاء مهارات غير عادية في ابتداع أساليب لإخفاء «المسروقات»، والتغطية عليها بعبارات تمويهية لضمان «تمرير البضاعة».
والمفارقة أن ينْكَبّ السّارق على مصدرٍ بعينه لا يحيد عنه، فيغرف منه حَدَّ التّخمة «المُخجلة» ولسانُ حاله: «هل من مزيد؟!»، وهو ما ينطبق على «الواقعة» التي يتناولها هذا الموضوع. إذ دَشّن (الرّوائي) الإرتيري حجي جابر، مسيرته «الأدبيّة» بخطوة «غير أدبيّة» حين سطا على رواية «ذاكرة الجسد»(1) للرّوائية الجزائريّة المعروفة أحلام مستغانمي، وهو ما يتجلّى في روايته الأولى «سمراويت»(2)، الفائزة بجائزة الشارقة للرواية (المركز الأول) في دورتها السادسة عشرة (2012) التي تُمنَح للإصدار الأول لمن هم دون الأربعين عاماً من كتّاب الرواية.
يبدأ السّطو حين يختار حجي جابر شخصيّات روايته بحيث تتطابق تماماً مع الشّخصيّات الرئيسة في «ذاكرة الجسد». ويمتدّ التّطابق ليشملَ العلاقات البينيّة لشخصيّات «ذاكرة الجسد» وخلفيّاتها الحياتيّة، وتفاعُلها وأدوارها في المجتمع الجزائريّ، ناهيك عن «استماتة» صاحب «سمراويت» في نحت أبطال روايته بالضّبط على نسق ما نَحتَتْ مستغانمي أبطال روايتها الفذّة. ف»خالد بن طوبال»، المناضل الجزائريّ الذي يفقد ذراعه اليُسرى خلال حرب التّحرير الجزائريّة، يصنعُ له حجّي شخصيةً إرتيريّة مقابِلَة له بالمقاس نفسه، ويُلْبِسها جميع صفات «بن طوبال» وحالاته.
ف»سعيد»، الذي يمثّل شخصية رئيسة في «سمراويت»، كان مقاتلاً أيضاً خلال حرب التحرير الإرتيرية ويفقد ذراعه فيها؛ تماماً مثل «بن طوبال»! والفارق الوحيد أنّ «خالد» يفقد ذراعه اليسرى، بينما يفقد «سعيد» ذراعه اليمنى.
يتحدّث «بن طوبال» في «ذاكرة الجسد» عن جزءٍ من تجربته في الحرب وعن ذراعه المقطوعة قائلاً: «اخترقتْ ذراعي اليسرى رصاصتان، وإذا بمجرى حياتي يتغيّر فجأة وأنا أجد نفسي من بين الجرحى الذين يجب أن يُنْقَلوا على وجه السّرعة إلى الحدود التونسيّة للعلاج. ولم يكن العلاج بالنّسبة لي سوى بَتْرِ ذراعي اليسرى لاستحالة استئصال الرّصاصتين» (ص32).
وفي «سمراويت» يتحدّث الرّاوي عن «سعيد»: «عرفتُ أنّه فقدَ ذراعه في إحدى معارك التحرير» (ص33). وفي موضعٍ آخر: «صافَحني بِيُسراه بينما كانت يدُ القميص الأخرى مَلهاةً للهواء» (ص43).
يتأكّد للقارئ عنصرُ التّشابه بين «سعيد» و»بن طوبال» كلّما توغّل أكثر في العمل. مثلاً، ل»خالد بن طوبال» موقفُه السّياسيّ من الأوضاع التي آلَتْ إليها الجزائر عقب التّحرير؛ فهو ضدّ انحراف النّاس عن الأهداف وتكالُبِهم على المكاسب دون أن يكون ضدّ السّلطة بحمْلِ راية المعارَضة، ويتمثّل الانحرافُ لديه في النماذج التي يصِفُها بقوله: «قيمتُهم في رُتَبِهم وأوسمَتِهم الشَّرَفِيّة، وما ملأوا به جيوبَهم على عجلٍ من حساباتٍ سرّيّة» (ص40). ويتّضح أنّ «بن طوبال» ضدّ انحراف السّلْطة عن المبادئ الثوريّة الحقّة التي آمَنَ وجاهرَ بها في العديد من المواقف، وهو يقول في ذلك: «تَغيّرت الصُّدور، وتَغيّرت الأهداف.. وتَغيّر الوطن» (ص23).
يلتقطُ حجي جابر الخيطَ بعد أن راقتْ له الفكرة، وينسج منها موقفاً مشابهاً يُلْبِسُه ل»سعيد»، ويجعل منه متذمّراً ورافضاً للأوضاع وانحراف السّلطة، وهو في الوقت نفسه ضدّ معارَضة السّلطة. فيكتب حجي على لسان «سعيد»: «لا أعرف إذا كان هذا ندَماً، لكنّي تمنّيتُ لو لم ننحرفْ قليلاً عن أهداف ثورتنا» (ص96)، وفي موضع آخَر: «الفرق بين رؤيتي وما تنادي به المعارضة في معظمها، هو أنّي مع الإصلاح من الدّاخل وليس مع إسقاط النظام» (ص99).
ويتواصل لَطْشُ الأفكار والمَشاهِد بعد تَقْنيع الكلمات وتَضْحيلها، ففي الحوار الذي يجري بين «بن طوبال» والطّبيب النفسيّ الذي يُجالسه لِيُعينَهُ في التغلُّب على صدمةِ فَقْدِ ذراعه، وكردٍّ على محاولات الطّبيب مساعدته ليفعلَ شيئاً يستطيعه بعد هذه الحادثة، يقول: «إنّني أحِبّ الكتابة، وإنّها الأقربُ إلى نفسي ما دمتُ لم أفعل شيئاً طوال حياتي سوى القراءة التي تؤدّي تلقائيّاً إلى الكتابة» (ص55).
وفي موقفٍ مشابه، يسطو حجي على المشهد فيكتب الراوي على لسان «سعيد»: «هل تعلم يا عُمَر أنّني كنتُ مغرَماً بالكتابة والأدب» كنتُ أودّ أن أصبح روائيّاً لولا أنّ المقادير أخذَتْني إلى مرسى آخر» (ص46).
ولأجْلِ أن يأتي مطلعُ «سمراويت» قويّاً ومُلْفِتاً، فلا أقَلّ من أن «يغتصبَ» حجي ما يُعجبه من مَشاهد في «ذاكرة الجسد». ومن ذلك حديث الراوي عن الانطباع الذي سيتولّد لديه عند أوّل لقاء له بالعاصمة أسمرا، قادماً إليها من الخارج حيث كان يقيم، وكيف ستستقبله؟ وبعد أن يُعرب عن مخاوفه من أن تُعامله أسمرا ك»مسافر الترانزيت» (ص8)، تزول تلك المخاوف فجأةً عندما يقول: «شعرتُ أن أسمرا تُحْسِن وفادتي» (ص9). فالفكرة هنا، وكلّ الكلام عن المدن والمدينة خَمْشٌ جُلُّه من رواية مستغانمي التي تُصوّر مشاعر «خالد بن طوبال» أثناء عودته من منفاه الاختياري (باريس) إلى قُسَنْطينة: «شعرتُ أن قسنطينة أخذت فجأة ملامحه (الحديث عن شقيقه حسان الذي كان في استقباله)، وأنّها أخيراً جاءت ترحّب بي» (ص269).
كُلّ ما قام به حجي هنا -ويا للعجب!- أنْ ترَكَ مفردة «شعرتُ» كما هي، واستبدل أسمرا بقسنطينة، ثم استبدل عبارة «تُحْسِن وفادتي» بعبارة «ترحّب بي».
بالطبع، لا يمكن الحديث عن وقوع «تناصّ» بين حجي ومستغانمي، فالتناصّ بوصفه اشتراكاً في بعض الأفكار والصياغات، له أسسٌ ومقايس لا تتّفق وهذا السّطو البيّن.
الشّخصيّة الثانية في «ذاكرة الجسد» هي «حياة»، الفتاة التي تعيش في باريس. وهي ابنة «سي الطّاهر»، أحد مناضلي الثّورة الجزائريّة. والمفارقة أن حجي يجعل من الفتاة «سمراويت» التي تحمل الرّواية اسمَها، تعيش في باريس هي أيضاً! يكتبُ حجي على لسانها لحظةَ تعرّفها على الرّاوي: «أهلاً تَشَرّفْنَا.. أنا سمراويت، إرتيرية مقيمة في باريس» (ص21). التشابُه هنا يكاد يَبلغ درجةَ التّطابق عندما يجعل حجي من «سمراويت» بنتاً لمناضل إرتيري في مرحلة الكفاح المسلَّح، لِتُناظِرَ من جميع زوايا حياتها بطلةَ «ذاكرة الجسد»، بصنع سيرة لوالدها المناضل مماثلةٍ لجانب من سيرة «سي الطّاهر».
حتّى حوار «خالد بن طوبال» الدّاخلي الأنيق والمغموس في الشّعريّة، والذي كان يواكب تطوُّرَ الحدَث الرّوائيّ وصعودَهُ، وتقريب الشّخصيات، وفتح الفضاء الرّوائيّ وتوسعته في «ذاكرة الجسد»، وخاصّة الجزئيّة الحواريّة التي تتعلّق بكتاب (رواية) «حياة»، تَمّ السّطو عليه هو أيضاً. مِن الحوار الدّاخلي ل»بن طوبال»: «يومَها تذكّرتُ حديثاً قديماً لنا عندما سألْتُكِ مرّة: لماذا اخترتِ الرّواية بالذات؟!» (ص17). وفي موضع آخر تقول «حياة» وهي تقدّم ل»خالد» نسخةً من روايتها: «أتمنّى أن تجدَ شيئاً من المتعة في قراءتها» (ص114). لقد وجدَ حجي أهميّةً ما لهذه الفكرة، فعمدَ إلى تضمينها في روايته دون تردّد، وصنعَ منها سبباً مباشراً للّقاء الأوّل بين «سمراويت» و»عُمَر» (الرّاوي) الذي يبدأ بإطراءٍ على رواية لَمَح عنوانها وهي بيد الفتاة التي تجلس على مقعدٍ مجاورٍ له في المقهى: «عفواً.. هل هذه رواية (رحلة الشتاء) للعظيم ناود؟» (ص20)، ثم يضيف: «أنتِ محظوظة بِكَمّ المتعة التي تنتظرك بين دفّتيها» (ص20).
إنّها الفكرة نفسها الواردة في رواية مستغانمي، لكن عوضاً عن «التمنّي بالمتعة» في «ذاكرة الجسد»، حَرَفها صاحبنا –حجي- قليلاً، متجاوزاً التمنّي الذي تَحقّقَ عنده وانتهى، نحو درجةِ تحقُّق «الحظّ»، وهو وإنْ لم يغيّر كلمة «متعة» تاركاً إيّاها كما هي، إلّا أنّه رأى ضرورة استبدال عبارة «بين دفّتيها» بعبارة مستغانمي «في قراءتها»!
ولَشَدّ ما أعجبه جوُّ الحديث عن الرّوايات، يندفع بحماسة ويجعل من والد «سمراويت» كاتباً روائيّاً، ومن والدتها شاعرة. تقولُ مقدّمةً نفسَها ل»عُمَر»: «أبي هو الرّوائيّ الإرتيري أبرهام ولدا ماريام، وأمّي هي الشّاعرة اللبنانيّة كاتيا حدّاد» (ص23). يا سلام يا كاتيا!
ويتواصَلُ سَيْرُ حجي خلفَ خُطى أحلام، ليجمعَ ما طالته يداه من الذّاكرة. فها هو «خالد بن طوبال» يتحدّث عن ذكرياته حول طريقٍ سَلَكها قبل ثلاثين عاماً (ذهاباً)، ملتحقاً بالثّورة ليساهم في تحرير «الوطن»: «ذات يوم منذ أكثر من ثلاثين سنة، سلكتُ هذه الطريق واخترتُ أن تكون تلك الجبالُ بيتي ومدرستي» (ص24). يستحدث حجي في «سمراويت» بعض التعديلات على هذه الفكرة، فإذا كان «بن طوبال» يتذكّر الماضي بذكر الطّريق التي سلَكها «ذهاباً « وتأريخ تلك المسيرة، فإن حجي يعكس الفكرة حين يتحدّث الراوي عن مقدارٍ من الأعوام (ثلاثون عاماً) مثّلت غيابه عن «الوطن» ويروم ردمَها «رجوعاً»: «ثلاثون عاماً كانت المسافة التي يجب قطعُها رجوعاً لردم بحرٍ من الأوجاع» (ص9). يا للمصادفة!
يقول «خالد بن طوبال» مُعَبّراً عن حزنه بعد أن فقدَ عدداً من رجال المقاومة، وتيتُّمِه قبل ذلك بسبب رحيل أمّه: «كنتُ أشعر، لسببٍ غامض، أنّني أصبحتُ يتيماً مرّة أحرى» (ص33)، ثمّ يتوسّع الحديثُ عن الموت: «كان الموتُ يومَها يمشي إلى جوارنا، وينام، ويأخذ كسرتَهُ معنا على عجل» (ص24)، و»كان الموت يمشي ويتنفّس معنا» (ص24).
وها هو حجي يصطنع موتاً ويُتْماً في «سمراويت» حين يجعل الرّاوي يَفقد والده: «مَرِضَ أبي فأصبحَ يشعر بالبرد، وحين ماتَ انتقل البرد إلينا» (ص107)، هذا عن فكرة اليُتْم. ولكن ماذا عن البرد الذي يتكلّم الرّاوي عنه في أكثر من موضع كما تفعل أحلام مستغانمي في «ذاكرة الجسد»؟ إنّه بعد القيام بعمليتَي «التمويه» و»التعمية» اللتين اعتادهما يكتب: «حين أكون معكِ، لا أعود أشعر بالبرد» (ص107). هذه أيضاً منحولة من رواية مستغانمي، التي تتحدّث عن البرد كعنصر انكماش يعيق حركة الرّوح، كما في المثال التّالي: «دثّريني يا سيّدة الدفء والبرد معاً.. أجّلي بردَكِ قليلاً» (ص268).
وتواصل أحلام مستغانمي نحتَها المؤلم والجميل عن سطوة البرد، فتكتب على لسان «خالد»: «قادمٌ إليكِ من سنوات الصقيع والخيبة» (ص268). وبموازاة ذلك، يكتب حجي على لسان الرّاوي بعد استبدال «أعوام» ب»سنوات»، و»الصّقيع» ب»البرد «؛ لزوم التعمية: «أعوام طويلة والبرد مقيم دائم على تخوم الرّوح» (ص107). هكذا يَتمّ السّطو على فكرتَيّ اليُتْم والبرد، الأمر الذي مَكّنَ مؤلّف «سمراويت» بعد اللّف والدّوران والتعمية بغيةَ المرور دون لفت الأنظار، من إنجاز أربع صفحات بالتمام والكمال من روايته. اللّهم لا حسد!
وبينما يتحدّث «خالد بن طوبال» عن غربته في تونس خلال المدّة التي قضاها هناك لغرض العلاج، وعن أحاسيسه تجاه الوطن: «كنت أعيش في تونس، ابناً لذلك الوطن وغريباً في الوقت نفسه، حرًاً ومقيًداً في الوقت نفسه، سعيداً وتعيساً في الوقت نفسه» (ص53)، فإنّ حجي يأخذ الفكرة وينسج على منوالها، متحدّثاً عن معاناة الرّاوي بعد عجزه عن الاندماج في المجتمع السّعودي الذي يعيش بين ظهرانيه: «في السّعودية لم أعِشْ سعودياً خالصاً، ولا إرتيرياً خالصاً.. كنتُ شيئاً بينهما» (ص11). وهو يستميت في مواصلة حَلْب آخر قطرات الفكرة المنحولة، فتجود عليه بصفحاتٍ أربع، وذلك عبر صياغات إنشائية متعددة للفكرة نفسها!
وحين تعرّج أحلام مستغانمي ببطلها لِيُعَبّر عن معتَقَدِه وعن الصّلاة والإيمان تكتب: «لقد عدتُ إلى الصّلاة منذ سنتين، ولولا إيماني لأصبحتُ مجنوناً. كيف يمكن أن تصمدَ أمام كلّ هذا المنكَر وهذا الظّلم دون إيمان؟» (ص289). وقد رأى حجي ضرورةً لاستثمار مشهد الصّلاة والحديث عن الإيمان، فعمدَ إلى لطْشِ الفكرة بلا شفقة، فيكتب على لسان الرّاوي: «شعرتُ أنّ الصّلاة ملأتني طمأنينةً» (ص31). وهكذا، يقابِلُ إيمانَ «بن طوبال» طمأنينةُ «عُمَر» بسبب الصّلاة. والحقُّ أنّ سرقة هذه الفكرة لهذا المشهد جادت على مؤلِّف «سمراويت» بنحو صفحة ونصف الصّفحة، وبما يزيد على ثلاث صفحات في غير الموضع المذكور.
حتّى حين تستحضر أحلام مستغانمي ذكرى «ابن باديس» والنّشيد الوطنيّ الجزائريّ، تغري الفكرةُ صاحبَنا، فيمتشقها بطريقةٍ تدعو ل»الإعجاب». تورد مستغانمي على لسان «خالد»: «ما زالت صرختُه التاريخيّةُ تلك (المقصود ابن باديس) بعدَ نصف قرنٍ، النشيدَ غير الرّسميّ الذي نحفظه جميعاً» (ص301). فكرة النّشيد والكلام حوله تروق لحجي، فيكتب على لسان الرّاوي عند سماعه عزفاً للنّشيد الوطني الإرتيري في إحدى الحفلات، بالضّبط كما فعلت مستغانمي حين أوردت حديثَ النّشيد على لسان «خالد»: «أنا أعرف هذه الأغنية (النشيد).. بس ناسي اسم الفنّان» (ص25)، فيوبّخه مُرافِقُه قائلاً: «فَضَحْتَنا الله يفْضَحُك.. هذا النشيد الوطني» (ص25). هكذا!
كذلك الحال في مَشاهد معرض الرّسم الذي يقيمه «خالد بن طوبال» وتستعرض خلاله أحلام مستغانمي وجوهَ النّاس الذين كانوا يأتون لزيارته لترسيخ ماهيّتهم وتزويد القارئ بشيءٍ عن حَيواتهم وتعريفه على شبكة العلاقات التي تربط شخصيات الرّواية بعضها ببعض. ويتعرّف القارئ على اهتمامات «حياة» تحديداً، عبر الحديثِ الدّاخلي ل»بن طوبال»: «إذن أنتِ تتوقّفين أمام لوحة صغيرة لم تستوقف أحداً، تتأمّلينها بإمعانٍ أكبر، تقتربين منها أكثر» (ص52). وفي المقابل، ينتحل حجي الفكرة بحذافيرها، لكنه يستبدلُ بمعرض الرّسم في «ذاكرة الجسد» متحفَ مدينة مصوع مستعرضاً موجوداته ومنها بورتريهات الشّخوص، فيكتب على لسان الرّاوي: «فجأة توقَّف أمام صورة لأحد الثّوّار، لَمْ يَبْدُ الأمرُ شبيهاً بمروره السّابق على محتويات المتحف» (ص118). كلا الموقفين فيهما «توقُّف»، لكن حجي استبدل مفردة «صورة» بمفردة «لوحة»، ووقوف الرّاوي في «سمروايت» أمام صورة ليست كبقيّة الصّور، تماماً مثل وقوف «حياة» أمام لوحة صغيرة لم تستوقف أحداً.
ولأن شخصيّة «سي الطّاهر» أضفت على الرّواية -بدورها المحوريّ- مسحةً ملحميّة بما صنعتْ من أعمالٍ، جاء حجي بشخصيّة تُناظرها في مسيرة التحرُّر الإرتيرية، هي شخصيّة «ناود». تقدِّم أحلام مستغانمي ل»سي الطّاهر» على لسان الرّاوي في «ذاكرة الجسد»: «إنّه انتقل إلى مكان سرّي في الجبال المحيطة بقسنطينة ليؤسّس من هناك مع آخرين أولى طلائع الكفاح المسلَّح» (ص26). ويقوم حجي ب»تقليد» تلك الفكرة، فيأتي ب»ناود»، الشخصيّة النضاليّة والسياسيّة ذات المساهمات القلميّة المهمّة، ويكتب عنه: «إنه مؤسّس حركة تحرير إرتيريا؛ أوّل حركة سياسيّة» (ص59)، ثم يُلْبِسُه أوصافاً وصفاتٍ أضفتها مستغانمي على شخصيّة «سي الطّاهر» في تقليدٍ حُسِبَ له أن يكون مبتسراً، ولكنه يشي بتشبُّهه ب»سي الطّاهر».
وعندما تتحدّث صاحبة «ذاكرة الجسد» عن المدن (نستالوجياً)، وعن أمزجتها وتجارُب بطلها فيها -وهي الروائيّة التي اختبرت العيشَ في مدن عدّةٍ- فإنّ أحاديثها عنها تفيض بلغة شعريّة مُشْبعة. تصف في أحد المقاطع العلاقة السّطحيّة بين المرء وبعض المدن: «كما يغادر سائح مدينة جاءها في زيارة سياحية» (ص16)، وجاء في مقطع آخر: «هناك مدنٌ كالنساء، تهزمك أسماؤها مسبقاً، تغريك وتربكك، وتملؤك وتفرغك، وتجرّدك ذاكرتها» (ص202).
ويغرم حجي بالحديث الممتع عن المدن، ويأبى إلّا أن يكون له منه نصيب، وبلا أدنى حرج يمسك الفكرة من عنقها ليقول على لسان الرّاوي: «فحتّى المدن تملك انطباعاً أوّل من شأنه أن يُقْصيك عن ذاكرتها، فلا تغدو سوى عابر لا أثر لك» (ص8). تتكرّر هنا مفردات أحلام مستغانمي نفسها، لكن بعد إجراء العملية المعتادة من «التّقْنيع»: فبعد أن أبقى على «مدن» كما هي، استبدل «تُقصيك» ب»تهزمك»، وعندما لم يجد بديلاً مناسباً عن «ذاكرتها»، حافظَ عليها! وتدفعه شهوةُ الحديث عن المدن إلى التّقليد المُمِلّ لأحلام مستغانمي في أكثر من موضع من روايته.
لكنّ السّرقة الكبرى التي يبدو كلّ ما تمّ رصده في السّطور السّابقة هيّناً أمامها وليس ذا شأن، هي عندما يذهب الرّاوي «عُمَر» لزيارة بيت العائلة القديم في مدينة مصوع. هذه الزّيارة تشبه في جوانبها كافّة، عودةَ «خالد بن طوبال» من فرنسا إلى قُسَنطينة.
إذ ترصد أحلام مستغانمي أحاسيس ذلك العائد بعد غربة طويلة إلى مسكنه، وتُصوّر الكثير مما يعتمل في جوانحه وحنينه إلى بيت العائلة القديم: «ما زال طيفُ الذين غادروه يَعْبُر هذه الغرف أمامي» (ص271) . أمّا حجي فيوظّف المشهدَ كلَّهُ ويصوّر عودةَ الرّاوي بعد غيبةٍ طويلة تُشابه غيبةَ «بن طوبال» (وهو يتحدث هنا عن بيت العائلة القديم): «هنا كانت العائلة الكبيرة تعيد نسجَ أحداث اليوم حكاياتٍ لا تُمَلّ» (ص131).
وعندما يتكلّم «بن طوبال» عن المقاهي القديمة في المدينة يصفها بالكثيرة: «في هذا الزّمن الذي كَبرتْ فيه المقاهي وكثرت» (ص295) ، يمسك حجي بالحكاية ويكتب عن مقاهي مصوع «الكثيرة»، تماماً كوصف «بن طوبال» لمقاهي قسنطينة. يكتب حجي: «فأعداد المقاهي هنا تفوق أعداد الناس» (ص126)، وفي موضع آخر: «واصلَت المقاهي المقامة على عجل انتشارها على جانبَي الطّريق» (ص127).
وبينما يعدّد «خالد» أسماء المقاهي القديمة مثل «مقهى بن يامينة» و»مقهي عرعور»، ويورد أسماء الذين يرتادونها، مثل ابن باديس الذي كان يجلس في «مقهى بن يامينة»، يجد حجي تخريجة عبر الحيلة والتمويه ليتجنُّب إيراد أسماء المقاهي، فيقول على لسان الرّاوي: «كان واضحاً أنّ اختيار اسم للمقهى هو نوعٌ من التّرَف لم يصل إليه أهالي مصوع» (ص127).
ثمّة «جشعٌ» غريب في سلوك الكاتب هنا، فهو لم يترك مشهداً أو فكرةً وردت عند أحلام مستغانمي في «ذاكرة الجسد» إلاّ وعمل فيها «خَمْشاً» و»حزّاً» ليستغلّها في «سمراويت».
ومن ذلك، أن «خالد» ينقطع عن زيارة الجزائر زمناً طويلاً، بسبب خشيته من مضايقة الدّوائر الأمنيّة له، فيتّصل به صديق قديم من رجالات الدّولة، ويحثّه على السّفر مؤكّداً له: «يا خويا.. ما الذي يُخيفكَ في سفرٍ كهذا؟ لقد جاء ذكرُكَ منذ أيام في جلسة مع بعض الأصدقاء من الأمن، وأكّدوا لي أنّه لا توجد أيّ تعليمات في شأنك، وأنّ بإمكانك أن تزور الجزائر متى شئتَ» (ص253).
بالطبع، مشهدٌ مثل هذا لا بدّ أن يغري حجي الذي سرعان ما أعاد كتابته على لسان الرّاوي في «سمراويت» بعد قلْبِه رأساً على عقب! فبعد تواتُر الأقاويل بأنّ هناك اعتقالات بسبب الصّراعات السياسيّة، للقادمين في المطار، تُظهر الأمُّ خوفاً على ابنها «عُمَر» من الزّيارة، وتخشى أن يُعاقَب بجريرة والده ومواقفه السياسيّة: «بدأتْ فكرة السّفر إلى إرتيريا تستحوذ عَلَيّ، خاصّة بعدما استطعتُ تهدئةَ مخاوف أمّي قليلاً من إمكانية تعرُّضي لأذى على خلفيّة انتماء والدي السياسيّ» (ص 155).
(1) «ذاكرة الجسد»، أحلام مستغانمي، نوفل-هاشيت أنطوان، بيروت، لبنان، ط2، 2014.
(2) «سمراويت»، حجي جابر، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب، ط2، 2012.
(*) شاعر وروائي إرتيري مقيم في الدنمارك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.