سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    ضياء الدين بلال: الرصاصة الأولى ونظريّة (الطرف الثالث)..!    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    وزير الخارجية يكتب: الإتحاد الأوروبي والحرب في السودان ..تبني السرديات البديلة تشجيع للإرهاب والفوضى    ماذا جرى في مؤتمر باريس بشأن السودان؟    العطا يتفقد القوات المرابطة بالمواقع الأمامية في الفاو والمناقل – شاهد الصور والفيديو    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    استمرار حبس البلوجر هدير عاطف بتهمة النصب على المواطنين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    حفظ ماء وجه غير مكتمل    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    خبراء: الهجوم الإيراني نتاج ل«تفاهمات أمريكية».. وجاء مغايرًا لاستراتيجية «طهران»    أحمد موسى: ده مفيش ذبابة ماتت من الصواريخ والمسيرات اللي إيران وجهتها لإسرائيل    إسرائيل تعيد فتح المدارس!    حزب المؤتمر الوطني المحلول: ندعو الشعب السوداني لمزيد من التماسك والوحدة والاصطفاف خلف القوات المسلحة    ضمن معايدة عيد الفطر المبارك مدير شرطة ولاية كسلا يلتقي الوالي    محمد وداعة يكتب: الاخ حسبو ..!    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    شاهد بالصورة.. إبن عضو مجلس السيادة رجاء نيكولا يحمل السلاح مدافعاً عن وطنه وجمهور مواقع التواصل يشيد ويعلق: (أبناء الإسلام والمسيحية في خندق واحد لحماية السودان من الجنجويد)    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    بعد راحة العيد...المنتخب الوطني يُعاود تحضيراته أمس    تركيا تنقذ ركاب «تلفريك» علقوا 23 ساعة    تجاوز مع أحد السياح.. إنهاء خدمة أمين شرطة لارتكابه تجاوزات في عمله    بايدن بعد الهجوم الإيراني: أمريكا ملتزمة بأمن إسرائيل.. وساعدنا في إسقاط جميع الطائرات المسيرة    الموعد الأضحى إن كان في العمر بقية،،    إعلام عبري: طائرات أميركية وبريطانية تسقط مسيرات إيرانية فوق الحدود العراقية السورية    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    والي الخرطوم يزور رموز ونجوم المجتمع والتواصل شمل شيخ الامين وقدامى المحاربين والكابتن عادل أمين والمطرب عوض الكريم عبدالله    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    «العازفون الأربعة» في «سيمفونية ليفركوزن»    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    "طفرة مواليد".. نساء يبلغن عن "حمل غير متوقع" بعد تناول دواء شهير لإنقاص الوزن    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    الضربة المزدوجة الإنهيار الإقتصادى والمجاعة في السودان!    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العنف والضبط في حدود دارفور - تشاد (1909 – 1956م): مراقبة حدود استعمارية

Violence and Regulation in Darfur – Chad Borderland (1909 – 1956): Policing a colonial boundary
كريستوفر فون Christopher Vaughan
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص موجز لبعض ما ورد في مقال للدكتور كريستوفر فون (والذي يعمل الآن محاضرا للتاريخ في جامعة ليفربول ببريطانيا) مستل من بحث قام به قبل سنوات قليلة عن ثورات دارفور في سنوات الاستعمار الباكرة وقدمه لجامعة دارم البريطانية لنيل درجة الدكتوراه في عام 2011م. وقد نشر هذا المقال في مجلة "تاريخ أفريقياJ. African History " في عددها رقم 54 لعام 2013م.
الشكر موصول للمؤلف على مدي بنسخ من مؤلفاته عن دارفور.
المترجم
******* ************ ********** ***********
حدث في عام 1924م والمفاوضات بين المسؤولين البريطانيين والفرنسيين حول التحديد النهائي للحدود بين السودان (البريطاني – المصري) وأفريقيا الاستوائية (الفرنسية) تشارف على نهايتها أن عبر 200 من الرعاة من قبيلة السلامات العربية (مع نحو 4500 من ماشيتهم) ما ظنوه الحدود بين السودان وتشاد. وزعموا فيما بعد لمسئولي الحكومة السودانية أنهم عبروا الوادي الذي هو معلم الحدود عندهم، وبعد عبورهم لذلك الوادي - وبحسب لتقرير م. أ. أفندي عبد الرضي في دار الوثائق القومية- قالوا فرحين: " نحن الآن في أراضي انجليزية ولا أحد بمقدوره إيذائنا". ورغم ذلك فقد قام السلطان بخيت صيام سلطان دار سينار (وهي إحدي السلطنات الحدودية التي دانت للفرنسيين) بالهجوم على هؤلاء الرعاة السلامات بقوة ضخمة وقتل منهم ثلاثين رجلا وغنم ثلث ما كان معهم من ماشية (أي 1500 رأسا). وأحتج البريطانيون بالقول أن ذلك الهجوم وقع في أراض سودانية، وساندوا مطلب السلامات بدفع تعويضات مجزية. غير أن الفرنسيين لم يلقوا لتلك المطالبات بالا.
وتلقي تلك المجزرة وما أحاط بها من ظروف، والقضايا التي أثارتها نقاطا عديدة لها علاقة بالصورة الأشمل لتاريخ الحدود بين دول أفريقيا المستعمرة، ودور الزعماء المحليين في حراسة ومراقبة الحدود تحت ظروف موارد شحيحة، وحركة المهاجرين عبر الحدود (التي وضعها المستعمر) لما يحسبونه مناطق "العشب فيها أكثر اخضرارا"، والاحتكاكات والصراعات الناتجة عن التغول على المنطاق التي تعيش عليها أو تسيطر عليها قبيلة أو قبائل بعينها.
ولم يجد – وإلى الآن- تاريخ الحدود بين الدول الإفريقية اهتماما كبيرا من المؤرخين على الرغم من وجود عدد وافر من الدراسات حول الحدود بأقلام متخصصين في دراسات الانثربولوجي والتنمية. وتغير عند المؤرخين – ومنذ ثمانينيات القرن الماضي- مفهوم تأثر وتأثير الحدود الاستعمارية ودورها في إفريقيا، فمفهوم "الوطن- الدولة "nation –state مفهوم غريب على أفريقيا، ولكنه يبدو وكأنه مفروض عند الجمهور من المؤرخين الآن، ولا يناسب في الواقع حقائق الأوضاع الاجتماعية والسياسية في أفريقيا. ولا ريب أنه، وعلى وجه العموم، فإن ما خلفه المستعمرون من حدود اصطنعوها بين الدول الإفريقية المستعمرة كانت له آثارا مدمرة على تلك الدول، ولم يلق لها السكان المحليون بالا في غالب الأوقات. إلا أن هنالك بعض الاستثناءات، مثل الحدود بين غانا وتوجو ، والتي لم يفرضها المستعمر، بل أتت بفعل إرادة الشعبين على جانبي الحدود.
إنشاء الحدود (1811 – 1923م)
لم ترسم الحدود بين دارفور وتشاد بصورة اعتباطية كلية، فقد احتل البريطانيون والفرنسيون الدولتين وكانتا محكومتين بدولتين وطنيتين منفصلتين هما سلطة دارفور وسلطة وداي، وكانتا آخر الدول التي أحتلها مستعمر أوربي. فقد أحتل الفرنسيون سلطنة وداي في عام 1909م وأحتل البريطانيون سلطنة دارفور عام 1916م.
ولقد كانت تلك المنطقة هي منطقة حدود متنازع عليها بين دولتين متنافستين، وكان جزء كبير من تلك الحدود حدودا مخططة ومعروفة من قبل مقدم المستعمر الأوربي. وشهد كثير من الرحالة الذين عبروا دارفور في سنوات حكم السلطان علي دينار (1898 – 1916م) على وجود صفين من التلال مقوية بالصخور والزرائب الشوكية (وتعرف محليا بالترجا tirja)، وكانت تعد كعلامات للحدود بين سلطنات دارفور، خاصة عند المساليت المزارعين، والذين كان ولائهم موزعا بين سلطنتي دارفور ووداي. ولعل أول من ابتدع وضع تلك الزرائب الشوكية كمعالم للحدود هو الحكم المصري – التركي لدارفور بين سبعينيات وثمانينات القرن التاسع عشر، رغم أن الرحالة الألماني جوستاف نايتنقيل (والذي زار دارفور ووداي قبل تلك السنوات) سجل أنه شاهد عددا من معالم ومحطات الحدود بين السلطنتين المتنافستين، كانت مهمتها تقدير وأخذ المكوس والجمارك على البضائع العابرة للحدود، ووضع المرضى في "حجر صحي" قبل إدخالهم، والحفاظ علي الأمن في المنطقة. وكان الرحالة التونسي قد شاهد أيضا في عام 1811م مسامير حديدية ضخمة مثبتة في جذوع الأشجار كمعالم للحدود بين السلطنتين. وكانت تترك بين حدود السلطنتين (خاصة في مناطق المزارعين المستقرة) مسافة خالية كمنطقة عازلة ليست تحت سيطرة أي منهما، تعادل مسيرة يوم كامل. بينما لم تكن هنالك أي معالم للحدود بين السلطنتين في مناطق الرعاة الرحل في الأطراف الجنوبية والشمالية.
وكانت للعلاقات الجانبية لأي من سلطنتي دارفور ووداي مع السلطنات الصغيرة المجاورة ذات أهمية كبيرة في تحديد سلطة ونفوذ كل منهما على بقية السلطنات. ففي القرن التاسع عشر كانت دار سيلا مثلا تدفع جزية tribute لكل من سلطنتي دارفور ووداي، وتحتفظ في ذات الوقت بسيادتها واستقلالها عنهما.
وفي عام 1899م (أي قبل 17 عاما من احتلال البريطانيين لدارفور و10 سنوات من احتلال الفرنسيين لوداي) اتفقت بريطانيا وفرنسا على تحديد مراكز نفوذهما في المنطقة، آخذين في الاعتبار مطالباتهم ب "حقوقهما" التاريخية. وكانت مراكز النفوذ تلك - ويحسب ما أورده ثيوبولد في كتابه عن السلطان علي دينار- تقضي في الواقع بفصل مملكة وداي ما كان يشكل في عام 1882م "مديرية دارفور"، وشكل ذلك اعترافا للسيادة البريطانية على تلك المنطقة بحدودها "الجديدة". غير أن احتلال الفرنسيين لغرب دار المسلايت في عام 1911م كان قد أحدث تغييرات دراماتيكية على "النطاق الإقليمي territorial scope" لتلك السلطنة الحدودية.
وعندما حاولت لجنة الحدود في عامي 1922 و 1923م تطبيق اتفاق عام 1919م بشكل نهائي على الأرض، وجد وجهاء المنطقة المحليين الفرصة لإثبات مطالبهم (وحقوقهم المزعومة) في الأرض والسلطة استنادا على معرفتهم بالتاريخ المحلي للمنطقة. وبدا واضحا أن محاولة وضع حدود ثابتة وصارمة بين المستعمرتين البريطانية (دارفور) والفرنسية (وداي) ستفرض قيودا على الأنماط المرنة المتعارف عليها للحقوق المحلية المتعلقة باستخدام المياه والأراضي، بل وستهدد وجودها. ولكنها من جهة أخرى ستتيح الفرصة للنخب المحلية لتقديم أقصى ما لديهم من مطالبات وحقوق تاريخية في الموارد المتوفرة بالمناطق الحدودية ، والحصول على موافقة الدولة على تلك المطالبات. وكان المسؤولون يدركون تماما الطبيعة العملية والنفعية لتلك المطالبات التي تقدمها تلك النخب المحلية المتعلقة بالأرض والموارد المائية وغيرها.
وعلى الرغم من كل محاولات الدولة الاستعمارية رسم أو ايجاد حدود دائمة ومتفق عليها، إلا أن تلك المحاولات تعثرت كثيرا بسبب الخلافات المحلية والمطالبات المتضاربة والمزاعم المتباينة لمختلف القبائل في المنطقة.
الغزوات الحكومية وغير الحكومية
وكانت الدولتان الاستعماريتان (بريطانيا وفرنسا) قد توقعتا أن تخطيط ورسم الحدود بين دارفور ووداي سيجلب الاستقرار للمنطقة، كما يحدث عند غالب الدول المعاصرة بحدودها المخططة والمرسومة بدقة. بيد أن ذلك لم يكن ليحدث بين دارفور ووداي. فقد كانت قبيلة القرعان الرعوية المتنقلة (الرحل) في الصحراء الواقعة شمال منطقة الحدود، والكبابيش في كردفان (والذين كانوا يهاجرون موسميا للرعي في دارفور) في حالة اقتتال مستمر. وكان عام احتلال بريطانيا لدارفور (1916م) عام عدم استقرار وقتال مستمر في المنطقة وغزوات متبادلة خطف فيها عدد كبير من الأطفال والنساء، ونهبت فيها آلاف الماشية. وكانت هنالك مجموعة من القرعان (تحت قيادة محمد أربيمي) ضالعة في تلك الغارات مما دعا المستعمر الفرنسي لتصنيفها كعصابات متمردة. وكما ورد في وثائق فرنسية عام 1917م أتهم المستعمر البريطاني أولئك القرعان باللصوصية وبأنهم " يتصفون بإستقلالية ووحشية، ولم يسبق أن خضعوا يوما لسيطرة قوة ما". وسجل المسؤولون في وثائقهم أن عيش القرعان في أماكن نائية وعرة الطبيعة وشحيحة المياه ولم تستكشف بعد، قد جعلت عملية السيطرة عليهم أمرا متعذرا. وكان تنقل القرعان السريع وغير المتوقع من مكان لآخر يسهل عليهم تفادي حملات القوات الحكومية.
وكانت سياسة المستعمر الفرنسي تجاه مقاومة وعصيان القرعان (وغيرهم) هو الرد عليهم دون تساهل أو رحمة . فكان المستعور الفرنسي يقيم معسكرات دائمة لقواته في منطقة وفيرة المياه والكلأ تنطلق منها حملات للمناطق المجاورة الأخرى التي بها آبار ومراعي كي "تلقي القبض على بعض النسوة والأطفال هنا، وتخطف بعض الإبل هناك ... وربما تقتل بعض الرجال هنا وهناك". وكانت تلك السياسات الفرنسية البالغة العنف تلقى القبول عند البريطانيين، إلا أن القيام بأعمال مشتركة بين الدولتين ضد المتمردين القرعان (وغيرهم) ظل في غالب الأحوال أمرا نظريا. وبقيت كل محاولات "تهدئة" أو حسم أمر تمرد القرعان تراوح مكانها، وظل القرعان، وحتى الخمسينيات يقومون بالهجوم على مناطق على حدود السودان. وفي عام 1917م استغل البريطانيون بقيادة الضابط سارسفيلد – هول العداء التقليدي بين القرعان والكبابيش لتعبئة رجال من القبيلة الأخيرة للمساعدة في المجهود الحربي لقوات الحكومة ضد القرعان. فعسكر رجال الكبابيش في مناطق الآبار بجبل الميدوب، وهي المنطقة التي كان من المتوقع أن تتراجع إليها عصابات محمد اربيمي إن هوجمت. غير أن الكبابيش (كما كان يفعل الفرنسيون) قاموا بشن غاراتهم (الخاصة) على القرعان مستخدمين الأسلحة التي وفرها لهم البريطانيون، وغنموا منهم 300 من الإبل. وهنا يتضح أن "الدولة" استخدمت الممثلين المحليين (واستخدمت هي أيضا من قبلهم) في ما اسماه الكتاب جامي منسون "سياسة الأحلاف القابلة للاحتراق". ويتضح من كل ذلك أن مناطق الحدود الشمالية بين السودان وتشاد لم تكن منطقة مقاومة للمستعمر فحسب، بل كانت تعج بداينميكيات عنف متبادل بين المتمردين والحكومة، وبين المتمردين وقبائل محلية متحالفة مع الحكومة.
وحتى سنوات كتابة هذه السطور (المقصود هو أعوام 2010 – 2013م) ظلت مناطق الحدود الصحراوية شمال حدود السودان وتشاد مناطق نزاع وعمليات حربية للمتمردين تجعلها خارج سيطرة الحكومتين التشادية والسودانية.
مراقبة الحركة عبر الحدود
لم يكن العنف موجها فقط ضد الغزاة العابرين للحدود، بل كان موجها أيضا ضد الجماعات (غير المحاربة) التي كانت تعبر الحدود بصورة راتبة. وبذا أصبح الصيد عبر الحدود أمرا محفوفا بالمخاطر. فعلى سبيل المثال هاجمت القوات الفرنسية في عام 1925م مجموعة من الصيادين البقارة الذين عبروا الحدود السودانية إلى بانقي - شار Ubangi-Shar (وهي مستعمرة فرنسية في أفريقيا الوسطى) وقتلت عشرة منهم. ويزعم التعايشة الصيادون أن الجنود الفرنسيين كانوا يصوبون نيران أسلحتهم عليهم قبل سؤالهم إن كانوا يحملون تصريحا بالصيد أم لا. ولذا لم يروا ضرورة استخراج رخص للصيد والحال كهذه. وفي عام 1947م اشتكى التجار السودانيون للحكومة السودانية من سوء معاملة رجال شرطة وجمارك الحدود الفرنسية في أبشي، والذين كانوا يجبرونهم بوسائل تعذيب شنيعة على الاعتراف بتهريب البضائع.
وكان البريطانيون – بعكس الفرنسيين في تشاد- يرحبون بعبور البشر (بوثائق ثبوتية أو بدونها) لداخل السودان من تشاد، إذ أن هؤلاء المهاجرين الاقتصاديين كانوا مصدر جيدا للعمالة والضرائب. وكان هؤلاء غالبا ما يستقرون في شرق السودان. غير أن الفارين من تشاد بسبب الاضطهاد الفرنسي (والذين كانوا يفضلون الاقامة في دارفور) كانوا يمثلون معضلة للمستعمر البريطاني لأسباب مختلفة.
وسمح الاتفاق بين الفرنسيين والبريطانيين المبرم عام 1924م للساكنين على جانبي الحدود السودانية – التشادية بالعبور بحرية بين البلدين والبقاء في أي منطقة فيهما لفترة لا تزيد عن ستة أشهر. غير أن السلطات الاستعمارية الفرنسية تضايقت من نتائج ذلك الاتفاق إذ اشتكت من "الهجرات الجماعية" لسكانها في تشاد إلى السودان البريطاني – المصري، مما يتسبب في حرمان الدولة الفرنسية المستعمرة من العمالة ومن الدخول المتوقعة من الضرائب. واشتكى المستعمر الفرنسي من أن جاره المستعمر البريطاني كان يبث "دعايات مغرضة" عبر عملاء له في تشاد لجذب "الرعايا الفرنسيين" لأراضيه، وحث السلطان بخيت لمنع تدفق سكان تشاد عبر الحدود لداخل السودان. ونتج عن ذلك معارك عنيفة قادها القادة المحليين التشاديين ضد من يحاولون الهجرة لداخل السودان، واستمر هذا الحال حتى أواخر الثلاثينيات.
وكانت هنالك أيضا موجة هجرة جماعية لسكان أفريقيا الاستوائية الفرنسية نحو السودان، حيث عبر كثير من هؤلاء الحدود السودانية بذريعة الذهاب لمكة لأداء فريضة الحج، بينما توجه قسم كبير منهم لمشروع الجزيرة للعمل فيه كأجراء. وكان من الصعوبة بمكان التمييز بين من كان يعبر حدود السودان بغرض العمل والكسب المادي، ومن كان يريد أداء فريضة الحج. وكان هنالك أيضا من عبر الحدود إلى داخل السودان لتفادي دفع الضرائب في منطقته الأصلية، ومن كانت هجرته للسودان بسبب اعتداءات المستعمرين الفرنسيين على السكان (خاصة النساء والأطفال) وقطعان الماشية. فقد نقل زعيم تشادي للمسئول البريطاني في دارفور في عام 1927م أنه وعمه و39 رجلا من عشيرته كانوا قد عقدوا العزم على الهجرة للسودان، ولما سمع الفرنسيون بذلك خدعوهم بالدعوة لاجتماع لبحث مشاكلهم في مكان حددوه. وهنالك قاموا بشد وثاقهم بالحبال وقتلوهم بالسكاكين، وتركوه هو ليحيا ويحكي القصة المرعبة للآخرين على سبيل العظة. وكرر تلك القصة ومثيلاتها للمسئولين البريطانيين عدد كبير من الشاديين الذين كانوا يرغبون في عبور حدود السودان. بل وصرح شيخ كبير من هؤلاء المهاجرين أنه "في دار الانجليز يمكن للرجل الفقير أن يعمل، وللرجل الضعيف أن يحمى". ويبدو أن ذلك الضرب من اللغة والخطاب مع المسئولين البريطانيين كان محفوظا ومعادا عند الشاديين من راغبي الهجرة للسودان، وكان يجد منهم كامل التعاطف. فقد كتب مفتش بريطاني إلى رؤسائه قائلا إنه لا يستطيع – من أجل الإنسانية المجردة- أن يعيد أولئك الراغبين في الهجرة للسودان إلى ديارهم وهو يعلم تماما ما سيحيق بهم عند عودتهم (من قبل الفرنسيين). وكتب السكرتير الإداري للمسؤولين بدارفور خطابا يذكرهم فيه بأنه ليس عليهم إرجاع المهاجرين الشاديين لبلادهم الأصلية، غير أنه ذكرهم أيضا بضرورة أن يعللوا ذلك ب "عدم القدرة" وليس ل "عدم الرغبة" في إرجاع هؤلاء المهاجرين!
ولكن ما أن تم الاتفاق على ترسيم وتحديد الحدود بين الدولتين (على الأقل نظريا) حتى أصدر حكام دارفور المتعاقبين (وبضغوط من الحكومة الفرنسية) أوامر صارمة للمفتشين البريطانيين بضرورة التشديد في أمر ضبط هجرة الشاديين للسودان. ومن بعد ذلك بدأ البريطانيون في ممارسة "عنف الدولة" والكتابة سلبا عن هؤلاء المهاجرين ومهاجمتهم. فقد وصف المفتش البريطاني في دار مساليت في عام 1929م المهاجرين الشاديين بأنهم مجهولي الهوية، ولا يدفعون أي عشور أو ضرائب، وليست عليهم أو لهم التزامات أو روابط عائلية (كالمساليت)، وبعضهم قد ينقل أمراضا معدية كالجدري، وبعضهم يشتغل بالإجرام، خاصة نهب الأبقار. وهنا يتطابق الموقف البريطاني مع الموقف الفرنسي (القديم) المعادي للهجرة عبر الحدود السودانية بدعوى أن المهاجرين ينقلون الجريمة والأمراض المعدية والفوضى للبلاد التي يهاجرون إليها. وقد حدث أن اتهم المستعمر الفرنسي في عام 1920م الرعاة والمزارعين السودانيين بذات الأوصاف. فقد هاجم الفرنسيون في ذلك العام رعاة رحل من قبيلة البديات عبروا الحدود من دارفور لتشاد وسلطوا عليهم جنودا لتخريب معسكراتهم وطردهم من تشاد. وقام البريطانيون في عام 1929م بإحراق عشر من القرى في مناطق الحدود مع دار مساليت. وقاموا في زالنجي بجلد العائدين من تشاد، ووضعوا "شعبة" حول عنق كل واحد منهم على سبيل التعذيب والإهانة. ورغم كل تلك الأصناف من "عنف الدولة" فقد كان الفشل نصيب تلك المجهودات المناهضة للهجرة، وكان ذلك لعدة عوامل منها قدرة المهاجرين على تفادي قبضة الحكومة، وطول الحدود واتساع رقعتها، وضعف امكانات الدولة. فكثير من المهاجرين الشاديين الذين كانت السلطات الاستعمارية البريطانية تلقي القبض عليهم وتحاول إعادتهم لبلادهم كانوا يفلتون من قبضوا الشرطة وهم في رحلة العودة لتشاد، وينتشرون مرة أخرى في تلك المديرية الواسعة وتصعب ملاحقتهم.
وأخيرا، وفي عام 1944م وافق الجانبان البريطاني والفرنسي على "السير مع التيار وليس ضده" فسمحوا في ذلك العام للرعاة من البديات والزغاوة بعبور الحدود الشمالية بين تشاد والسودان متى وأَنَى شأوا بحسب الموسم والظروف الاقتصادية والروابط العائلية، شريطة أن يدفع هؤلاء الرعاة ما عليهم من ضرائب ومكوس لشيخ قبيلتهم بغض النظر عن الجانب الذي يكونون فيه من الحدود.
وكان موقف السلاطين المحليين على طرفي الحدود بين تشاد والسودان مختلفا تماما. فقد كان موقف سلاطين الجانب السوداني – على عكس نظرائهم في الجانب الشادي – مرحبا بالمهاجرين وحاميا لهم. فقد لاحظ المسئولون البريطانيون في عام 1938م بمزيد من الارتياح أن سلطان اندوكا في دار مساليت (ولعله محمد بحر الدين أبوبكر. المترجم) كان يرحب بالمهاجرين من تشاد ويكرمهم، مما جعله (على الأقل في مخيلة البريطانيين) حاكما محبوبا عند شعبه، ومكروها عند المستعمرين الفرنسيين في تشاد، والذين اتهموه بأنه يشجع على الهجرة من تشاد بمنحه فترة إعفاء من دفع الضرائب والمكوس لكل من يصل لسلطنته قدرها ثلاثة أعوام. بينما رد البريطانيون على تلك "الفرية" بأن الضرائب والمكوس على البهائم والزروع كانت تقدر كل ثلاث سنوات على أية حال، وأن سلطان اندوكا (رغم ترحيبه بالمهاجرين) كان ينفذ – وعلى الفور- أي أمر يصدر له من السلطات البريطانية بإعادة أي مهاجر تحدده الحكومة لبلاده الأصلية.
وعلى وجه العموم كانت الدولة الاستعمارية في السودان لا ترغب في التدخل بأكثر مما يجب في شئون دارفور، وكانت تكل أمر إدارتها المحلية للزعماء الوطنيين، خاصة في ما يتعلق بحفظ الأمن والسلم والهجرة والتجارة عبر الحدود وغيرها. كذلك يجب القول بأنه لم يتم عمليا أي ترسيم حقيقي أو مراقبة فعالة للحدود بين الجارتين: السودان وتشاد طوال فترة الحكم الاستعماري وذلك لأسباب عديدة تم ذكر بعضها في ما سبق. .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.