وانا فى الصف الثانى من المرحله المتوسطه تعاطيت ( التمباك ) ودفعت الثمن غاليا , ولولا تدخل امى يرحمها الله رحمه واسعه لما كنت . فقد تعودت ان اخفى ( قصديره ) التمباك تحت اى حجر فى فناء المدرسه وعند اعلان جرس ( الفسحه ) اى الراحه كنت اخرج لاخذ القصديره, واذهب الى الحمامات واتناول ( السفه ) واخرجها من فمى مع سماع جرس نهايه ( الفسحه ) وفى طريقى الى الفصل اضع ما تبقى تحت حجر اخر . وفى يوم من الايام وضعت القصديره داخل جيبى, ودخلت الى الفصل وبدأت الحصه الدراسيه , واقبل الاستاذ احمد ابو زيد الذى كان يدرسنا ماده الرياضيات , وكنت قد صعقت بدخولى الفصل وهذا الشىء فى جيبى . وفيما يبدو فقد كنت شاردا افكر فى المصيبه التى احملها, وكانت يقظه الاستاذ احمد ابو زيد وقوه ملاحظته لتلاميذ الفصل جعلته يتقدم منى ويطلب منى الوقوف, واخراج ما فى الجيب اللعين . امسكت جيبى الا انه ضربنى ( كف) لا انساه فقد كانت يده مثل ( طالوش البناء ) واخرج ما فى جيبى وفتح القصديره وسالنى ما هذا ؟ قلت له انه كاكاو . وشم هذا الكاكاو ثم اخذ بيدى وقادنى الى مكتب الناظر . وكنت احسب ان عقوبتى سوف تتم هناك . ولكن كانت المفاجأه التى زلزلت كيانى . فاذا به يرفع سماعه التلفون , ويطلب مدرسه كسلا الاميريه الوسطى حيث كان اخى الاكبر على احمد خير السيد يعمل هناك معلما . وابلغه امامى بالاتى ( استاذ على :لقيت اخوك عبد الله سافى تمباك ونايم فى الفصل ) وانتهت المحادثه وعدنا الى الفصل , الا اننى لم افهم بل اجزم باننى لم استمع لبقيه الحصه , فقد تحولت حالتى النفسيه اشبه ما تكون بحاله المحكوم عليه بالاعدام وفى انتظار التنفيذ . وانتهى اليوم الدراسى وعدت الى المنزل بعد تردد , فوجدت كل اهل البيت فى حاله وجوم . كأن هناك خبرا بموت شخص عزيز . واذ بأخى الاستاذ ينادينى . حضرت اليه وانا اتصبب عرقا . طلب منى ان اقوم لى عن الجلابيه والفنله الداخليه وبقيت فقط( باللباس) . يا ربى الطف بى . واخذ يدى اليمنى وضمها لليسرى وتم ربط اليدين بحبل من (التيل ). ثم اجلسنى ارضا وادخل اليدين فى الركبتين . ثم ادخل عصا ما بين الركبتان واليدين . ودفع العصا الى الجانب الايمن . اصبحت راقدا على يمينى ولا حول لى ولا قوه . ورفع ملاءه السرير واخرج ( سوط العنج ) الذى اعرفه , انه سوط جارنا الذى يعمل (حطابى ). اى انه يذهب الى الغابات حول المدينه ويقطع الاشجار ويأتى بالحطب لبيعه . وبدأت المجزره , ولا احد يستطيع ان يتدخل , فالوالد كان يبارك هذا الامر ويحبذه كاسلوب تربوى .وقد اجد له العذر لانه منذ ميلاده خلق ليكون عسكريا فى قوه دفاع السودان , فقد خاض الكثير من المعارك وراى الموت راى العين . وعلى هذا الاسلوب كانت تربيتنا القاسيه . وقد ضربنى اخى الاستاذ على خير السيد واقام على كل الحدود الشرعيه التى تستوجب الجلد . وتمزق ظهرى وتقطر دمى لدرجه اننى ما عدت احس بالالم . فقد بلغ مداه . ثم خرج الاستاذ و استحم وقام بتغيير ملابسه وخرج من المنزل ولم يلتفت لى وانا موثوق اليدين مجندل بعشرات الجروح . كأننى شىء من اشياء غرفته . وبعد خروجه جاءت امى لها الرحمه . حلت وثاقى . ثم طلبت منى ان استحم بماء دافى ممزوج بشىء من الملح كانت قد جهزته اثناء المجزره . ثم احضرت ماعونا فيه ( قرض ) مسحون مخلوط بالزيت وضمدت به جراحى . ولكن هل استطاعت ان تضمد جروح النفس والروح ؟ ونمت . وفى الصباح لبست ملابسى المدرسيه ( زمن الجلابيه والعمامه) واخذت حقيبتى وفى طريقى للباب الخارجى أذ بالاستاذ (على ) ينادينى ويسلمنى خطاب لاقوم بتسليمه بدورى لناظر المدرسه . وفى الطريق قرأت الخطاب وقد جاء فيه ( السيد ناظر مدرسه كسلا الاهليه الوسطى _ تحيه طيبه – ارجو التكرم وفصل التلميذ عبد الله احمد خير السيد عن الدراسه نهائيا لانه غير نافع _ توقيع احمد خير السيد والد التلميذ وولى امره ) يا للهول انه توقيع ابى الذى اعرفه ولكن الخطاب مكتوب بخط الاستاذ على الذى اعرفه ايضا . اذن فقد اتفقا , اتفق القائد العام وقائد العمليات , انها النهايه . اللهم انك تعلم ضعفى وقله حيلتى . وسلمت الخطاب لناظر المدرسه الذى بدوره طلب منى ان اقابل مشرف الفصل لتسليمه الكتب ومغادره المدرسه , وطالما كان هذا قرار والدى فانه لا يرى سببا للتدخل . وقمت بتسليم الكتب وعدت الى المنزل ... تتنازعنى حالتين ... الاولى اننى قد ارتحت من المدرسه والاستاذ على خير السيد ...والثانيه اننى بذلك اكون قد فقدت مستقبلى .. وفى اليوم التالى يممت شطر المنطقه الصناعيه وتم قبولى بورشه المرحوم حسين علام وهى ورشه لموبليات الاخشاب . ومكثت بها ما يقارب الشهر . ولكن قلب الام ,ورحمه الام, وعطف الام ,وحنان الام ,غير مره اخرى مسيره حياتى , فقد كانت رحمها الله لا تستطيع التدخل لدى الوالد او اخى الاستاذ لتطلب من اى منهما ارجاعى للمدرسه . ولكنها قررت ان تنقذنى , قررت ان تعيد الى كرامتى ,,قررت ان تعيدنى الى المدرسه, وقامت بالاتصال بثلاثه من الرجال اصدقاء الوالد ومن المقربين لللاسره فاجتمعوا بالدار فى يوم جمعه واتخذوا القرار بان اعود الى المدرسه ( بعد حليفه ثلاثه طلاقات من ثلاثه رجال ) وعدت الى المدرسه, وكنت اشبه بالجندى المصرى بعد حرب 67 وهو عائد من ميدان القتال وقد تمت هزيمته وانتهكت ارضه .وباختصار شديد منذ ذاك التاريخ وذلك الحادث وجدت نفسى اتراجع للوراء فقد كرهت المدرسه , وعند ظهور نتيجه امتحانات المدرسه الوسطى لم يؤهلنى مجموعى الدخول لمدرسه كسلا الثانويه ... لم افكر فى ( الاعاده ) ودخلت المدرسه المصريه التى اعادت لى الثقه فى نفسى واكتشفت مقدراتى وهواياتى . فشتان ما بين الاستاذ المصرى والاستاذ السودانى . فنحن عشنا فى زمن كان المعلم السودانى ربيب للانجليز حتى قيل بانه قد خرج الاستعمار الابيض وترك الاستعمار الاسود . كانت التربيه تقوم اساسا على نمط عسكرى بحت . وكان الضرب المبرح شيمه الاستاذ الناجح فى مادته . ارهاب لاقصى الحدود . من يصدق ان مجرد نسيان نقطه او شرطه يعنى عشره جلدات بالخزران او سوط العنج . هل احد يصدق ان يفصل الاخ اخيه من المدرسه ؟ هذا امر فى زمان مضى ولن يعود مره اخرى . فقد كانت القيم والاخلاقيات تعلو على درجه القرابه مهما كانت . فالمعلم اليوم تفتح فيه البلاغات لايه عقوبه بدنيه . بينما عشنا زمن كان ولى الامر يحضر لمقابله الناظر ليقول له ( ليكم اللحم ولينا العظم ) . التحيه لرفاقى فى الفصل ولو كانت هناك مساحه لذكرتهم فردا فردا . والتحيه لمعلمين الزمن الجميل . ولست عاتبا عليهم . ولكنها تجربه تستحق ان تحكى لابناء اليوم . اللهم اسالك باسمائك الحسنى وبكل اسم سميته لنفسك , او علمته لاحد من خلقك او ادخرته فى علم الغيب عندك . اسالك ربى بنبيك وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم , ان تغفر لامى وان تجعل قبرها روضه من رياض الجنه . اللهم اغسلها بالماء البارد ونقها من كل الخطايا وارحمها يا الله واغفر لها . والحمد لله رب العالمين . عبد الله احمد خير السيد المحامى بكسلا [email protected]