إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملامح من سياسة السودان الخارجية (4) : من ʼالعزلة المجيدةʻ والفورة الثورية ٳلى ʼالحالة الفِنْلَنْديَّةʻ
نشر في الراكوبة يوم 25 - 10 - 2014

هذه هى الحلقة الأخيرة من دراسة نُشرت أصلا باللغة الأنجليزية فى كتاب (Sudan since Independence) الذى صدر فى لندن عام 1986. ورأيتُ ترجمتها ونشرها فى حلقات لعدة اسباب منها اولاً حلول الذكرى الخمسين لثورة أكتوبر، وثانيا شح المراجع وقلة الكتابات عن السياسة الخارجية باللغة العربية لتلك الفترات، وثالثا كمقدمة لدراسة أقوم بها عن السياسية الخارجية للدولة الطريدة Pariah State)) التى ابتُلينا بها منذ ربع قرن ونيّف. وتوخيت عند الترجمة الالتزام بما ورد فى الأصل ما عدا اضافة بعض المعلومات من مراجع لم تكن متاحة لى فى مطلع الثمانينات.
فنْلنْدنة (Finlandization) السياسة الخارجية لنظام نميرى (1969-1985):
ان استيلاء نظام نميرى على السلطة فى مايو 1969 شكل نقطة انطلاق رادكالية لبرالية جديدة فى السياسة السودانية، فداخليا كان التوجه العقائدى والسياسي والمؤسسي للنظام (مجلس قيادة الثورة، الميثاق الوطنى للمنظمات الجماهيرية، الاستفتاء الرئاسى والرئاسة المهيمنة) مبنيا على النموذج المصرى وتميزت السياسة الخارجية منذ البداية بارتباط وثيق بمصر وتطابق فى مساق العلاقات مع الدول الأخرى لم يصل لمستوى "التبعية" المطلقة ولكنه اتخذ منحىً يمكن وصفه "بالحالة الفنلندية" أو "الفنلَنْدَنَة" اذ أنه يماثل الى حد كبير علاقة فنلندا بالاتحاد السوفيتى ٳبان الحرب الباردة. (وتعبير ‘Finlandization' الذى استعرته اول مرة لوصف سياسة نميرى تجاه مصر فى مقال نشر عقب اتفاقيات كامب ديفيد، صاغه أصلا عالم السياسة الالمانى ريتشارد لوينثال فى 1966 ليصف نمط العلاقات التى ربما تقوم بين أوربا الغربية والاتحاد السوفيتى فى حالة انهيار الحلف الاطلسى والتى شبهها بعلاقة فنلندا مع السوفيت. والتعبير لا يحمل مضمونا انتقاصيا فلا يعنى أن فنلندا قد فقدت سيادتها أو رهنت استقلالها بقدر مايعنى أنها لظروف تاريخية وعسكرية وأمنية رأت أن تنتهج سياسة خارجية تراعى مصالح واستراتيجيات جارتها الكبرى. ومن الملفت ان التعبير بعد اختفائه من قاموس السياسة الدولية بنهاية الحرب الباردة عاود الظهور مؤخرا لوصف سياسات روسيا الهادفة للحد من خيارات السياسة الخارجية للدول التى تجاورها مثل أوكرانيا أو لوصف علاقة مستقبلية أو فى طورالتكوين كما هو الحال فى التقارب الراهن بين تايوان والصين).
خلال فترة حكم الرئيس نميرى اتخذت العلاقة الخاصة مع مصراشكالا مختلفة ترواحت من ميثاق طرابلس واتحاد الجمهوريات العربية الذى وُلد مجهضا ٳلى مساندة السودان المنفردة لعملية السلام المصرى مع اسرائيل. لم يعْنِ ذلك الارتباط الوثيق بالضرورة أنه لم تكن هنك خلافات او توترات فى العلاقت المصرية السودانية فى تللك الفترة، فقد مرت العلاقات الثانئية بفتور فى فترة 1972-1973 فى اعقاب قرار النميرى التخلى عن التزامه بالانضمام لاتحاد الجمهوريات العربية حتى لا يعرقل الجهود الحساسة حينها للوصول لتسوية سلمية لمشكلة الجنوب. وفى ذات الفترة عبر المصريون عن استيائهم لقرار السودان باستعادة العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة (ولعل ما ضايق المصريين فعلاً ليس القرار فى حد ذاته ولكن فشل السودان فى استشارتهم اولا). كما تدهورت العلاقة فى فترات متفاوتة اثرعقد مصر لاتفاية السلام الآحادية مع اسرائيل. ولكن كل تلك الخلافات كانت ذات طبيعة عابرة ولم تؤثر حقاً فى النهج القائم للعلاقة الخاصة بل إن فعالية ذلك النهج وتمكنه تمثل فى أن التوترات التى جرت فى العلاقة الثنائية تم حسمها سريعا وفى الغالب بتكيُّف السودان مع الموقف المصرى.
ولا يعنى بدء سياسة (الفنلنّدنة) تلك أن السودان قد تنازل عن سيادته أو أن القاهرة أضحت تملى سياسة السودان الخارجية فذلك يصف علاقة دولة تابعة (‘satellite') اكثر من علاقة ʼفنلندنةʻ (‘Finlandized'). كما انه لا يعنى ان الدافع وراء النهج الجديد للعلاقة هو تخوف السودان من غزو أو تدخل مصرى سافر اذا اتخذ السودان نهجا او موقفا مختلفا فى السياسة الخارجية. فحقيقة الأمر كانت على النقيض من ذلك تماما فإن مصر قد دُعيت للتدخل في الشأن السوداني من قِبل النظام مرات عديدة (1970 و1971 و1976 و1981). وعليه فٳن حقيقة (فنلندنة) سياسة السودان الخارجية يمكن تفسيرها في ضوء المعطيات والدوافع الأمنية التى جعلت تلك التدخلات ضرورية فى المكان الأول.
فى مايو 1969 اتخذت سياسة السودان الخارجية منحى عقائديا على نفس الوتيرة الراديكالية للقومية العربية الناصرية مما أعاد للأذهان لفترة وجيزة الراديكالية الثورية فى الأشهر الأولى لثورة أكتوبر. ولكن وفاة الرئيس عبد الناصر فى 1970 مهدت الساحة لتغيُّرات جذرية فى مصر كان لها آثارها وانعكاساتها العميقة فى السودان. فبينما كان تحرك الرئيس السادات فى مايو 1970 ضد ما اسماه "مراكز القوى" بداية فعلية لعملية تفكيك الناصرية فٳن نجاح نميرى فى اجهاض المحاولة الانقلابية الشيوعية فى يوليو 1971 جر فى أذياله نقلة حادة للسياسة السودانية من نهج عقائدي الى ممارسة براغماتية نفعية انعكست ايضا فى السياسة الخارجية.
وقد تبع تحرك كل من النظامين فى القاهرة والخرطوم لتدعيم أو استعادة السلطة مراجعات جذرية لتقييم السياسات الداخلية والخارجية صبت فى نفس الاتجاه وشكلت بالتالى ارضية مشتركة للمصالح المتبادلة. فعندما تحرك السادات لمساعدة نميرى فى سحق المحاولة الانقلابية فعل ذلك ليس لمصلحة وأمن النظام السودانى فحسب بل لمصلحة وأمن نظامه أيضا. وكما أن روسيا السوفيتية لم تكن لتسمح لنظام معادى لها فى هيلسينكى، فان مصر الساداتية كانت ستبذل كل ما فى وسعها لمنع نظام معادى لها فى الخرطوم. والطرف الآخر لهذه المعادلة ان أمن ومصالح نظام النميرى اصبح متشابكا مع أمن ومصالح النظام المصرى بطريقة تجعل السودان عاجزا او غير راغب فى اتخاذ موقف فى السياسة الخارجية يمكن ان يكون معاديا او غير مقبول للنظام المصرى.
بعد دحره لمحاولة 1971 الانقلابية انشغل النظام لفترة وجيزة عن الشئون الخارجية ركز خلالها على بناء وتعزيز سلطته داخليا وتكملة انجازه الكبير بالتوقيع على اتفاقية أديس أبابا فى فبراير 1972 فى تسوية تاريخية للحرب الاهلية على اساس الحكم الأقليمى الذاتى لجنوب السودان. أعاد السودان تنشيط علاقته الحميمة مع مصر فى يونيو 1973 وتعززت العلاقات الثنائية بتوقيع اتفاقية التكامل الاقتصادى والسياسى فى فبراير 1974 وبمساندته سياسات مصرالموالية للغرب، وخاصة بدعمه لاتفاقية فك الاشتبك فى سيناء فى سبتمبر 1975 وضع السودان نفسه مع مصر والسعودية فى معسكر ماسمى بدول الاعتدال العربى، وفى جانب السياسات والاسترتيجيات لتى تبنتها الولايات المتحدة الامريكية فى الشرق الأوسط. وتزامن ذلك مع تبلور القطيعة مع الاتحاد السوفيتى التى بدأت فى اعقاب احداث يوليو 1971، ٳلى عداوة مستحكمة بحلول يوليو 1976 فى اعقاب محاولة انقلابية أخرى لم يكن للشيوعيين أو السوفيت أى دور فيها. وفى مفارقة لا تخلو من رتابة اتخذ الموقف الرسمى للخرطوم تصورا للاحداث حول السودان وداخله يشابه تصور حكومة أكتوبر الانتقالية لوجود تآمر خارجى لتقويض النظام الا أن المتهم الرئيسى فى نظرية المؤامرة هذه المرة لم يكن الامبريالية الغربية بل الاتحاد السوفيتى. وفى الحالتين لم يكن التصور لنظرية المؤامرة مجردا من الحقيقة الا انه كانت له أيضا ديناميكية نظرية "النبوءة التى تحقق ذاتها" (self-fulfilling prophecy). ومهما يكن من أمر فان الدعم السوفيتى المتزايد لأثيوبيا وليبيا أصبح مصدرا لمخاوف الخرطوم والقاهرة وتسبب فى تصريحات للرئيس نميرى تشجب بلهجة حادة الحضور والنفوذ السوفيتى فى أفريقيا. ومن وجهة النظر السودانية المصرية فان التحركات السوفيتية فى دول الجوار الأفريقى (ليبيا وأثيوبيا) تنبئ عن "استرتيجية متجانسة ومتكاملة لتقويض النظامين السودانى والمصرى لأنهما يشكلان حاجزا في وجه التوسع السوفيتى". (Colin Legum, (ed.), Africa Contemporary Record, 1977-78 (London) 1978, Vol. 10)
فى 20 يوليو 1976 أعُلن عن اتفاقية للدفاع المشترك بين مصر والسودان اعطت صبغة رسمية للروابط العسكرية القائمة من قبل وتم تفعيلها فى يناير 1977 لمجابهة تهديد متوقع من أثيوبيا. واقتصاديا سار النظام فى خطى مصر بتبنيه سياسة الانفتاح الاقتصادى على الغرب والتى أدت بدورها الى اعتماد اكثر على استثمارات رأس المال الغربى والعربى وبحلول 1977كان النظام قد ربط نفسه بمحورالقاهرة-الرياض وبالوكالة للاستراتيجيات الغربية فى أفريقيا والشرق الأوسط.
ثم قام الرئيس السادات بزيارته الدرامية للقدس فى 19 نوفمبر 1977 وأثار بذلك زوبعة سياسية فى العالم العربى وضعت العلاقات المصرية السودانية فى امتحان عسير. أبدى السودان بداية الموافقة على المبادرة واصفا اياها "بالخطوة الجريئة والشجاعة". وقام نميرى بعد ذللك بجولة فى الدول العربية فى منتصف 1978 فى محاولة فاشلة لنزع فتيل العداء والغضب المتزايد تجاه مصر. وعلى أية حال فقد اضحت مسألة المصالحة أو الوساطة أمراً أكاديمياً بالاعلان عن ٳتفاقيات كامب ديفيد فى 18 ديسمبر 1978. ولعل الموقف الحرج والصعب للسودان ازاء تلك التطورات قد انعكس فى ردة فعله التى جاءت فى شكل بيان متناقض من رئاسة الجمهورية حاول التمييز بين الاتفاقيات التى أُبرمت فى كامب ديفيد. فمن ناحية رحب التصريح بالاتفاق الثنائي بين مصر واسرلئيل بحجة ان مصر محقة فى اتخاذها أي خطوة من شأنها إستعادة أراضيها المحتلة فى سيناء. ومن ناحية أخرى أنتقد الاطار العام للاتفاقية الثانية واصفا اياه "بالضبابية والغموض والاغفال" لبعض المسائل الجوهرية كوضع القدس القانونى والسيادة على الضفة الغربية ومستقبل المستوطنات الاسرائيلية ومشكلة اللاجئين. وخلُص البيان ٳلى ان الوصول للسلام يتطلب التوضيح الكامل لتلك القضايا حتى يتم اقناع الأطراف الأخرى بالمشاركة فى عملية السلام للوصول لتسوية نهائية وشاملة" (الصحافة 26 أكتوبر 1976. يبدو ان ذلك الاجراء غير العادى فى اصدار البيان من رئاسة الجمهورية كان نتيجة انقسام داخل الحكومة وأجهزة الاتحاد الاشتراكى فى كيفية التعامل مع اتفاقيات كامب ديفيد أو أن نميرى لأسباب خاصة به قرر تولى مسؤولية الرد السودانى بنفسه).
واصبح واضحا ان روابط السودان بمصر قد عقدت علاقات السودان مع الدول العربية المعارضة لمصر وجعلت من الصعب عليه القيام بأى دور ايجابى فى شئون العالم العربى، وقد تمثل ذلك التباعد الدبلوماسى فى مؤتمر القمة العربية فى بغداد فى نوفمبر 1980 حيث تم تمثيل السودان بمستوى السفراء ولم يؤدِّ أى دور أساس، وتلك السلبية والتراجع عن التقاليد الحيادية فى تعامل السودان فى الساحة العربية لا يمكن تفسيرها الا بحساسية النظام المفرطة لمشاعر مصر. وزاد موقف السودان سوءً وتعقيدا دخول اتفاقيات السلام المصرية الاسرائيلة حيز التنفيذ فى مارس 1981وبرفع السادات لسقف تحديه لاجماع القادة العرب فى مواجهة لمصر (وصفهم بأنهم "اقزام") وحينها اصبح فشل السودان فى الانضمام للصف العربى يهدد بتعرضه لذات العقوبات الاقتصادية والسياسة التى جرى فرضها على مصر. وفى أشارة تنذر بذلك قرر العراق وقف إمداد السودان بالنفط.
ولم تقتصر تعقيدات الموقف السودانى الموالى لمصر على مشاكله فى العالم العربى بل خلق تعقيدات داخلية خطيرة. فعملية المصالحة الوطنية مع عناصر المعارضة والتى بنى عليها النظام سياسته الداخلية كانت فى خطر الانهيار بسبب العداء المستحكم لقادة المعارضة لسياسات السادات. فقد قدم الصادق المهدى أحد قادة الجبهة الوطنية المعارضة استقالته من كل مناصبه الرسمية فى أكتوبر 1978 وغادر البلاد احتجاجا على مساندة النميرى للسادات. (ان مصدرعداء قادة المعارضة لنظام السادات خاصة من حزب الامة تخطى المشكلة الأنية لاتفاقية السلام الى ما اعتبروه تبعية سياسة السودان الخارجية لمصر. فقد صرح صادق المهدى لصحيفة (القارديان) اللندتية فى مايو 1979 "أن روابط السودان مع مصر قد قادته الى طريق محتوم لمساندة سياسات الولايات المتحدة ومناهضة المبادرات السوفتية فى أفريقيا. هذه السياسة المنحازة تتسم بالجمود والتعنت وهى تغرى حلفاء السوفيت على حدود السودان بالانتقام كما انها بتحالفها المفرط مع احدى الدولتين العظميين تتجاهل امكانات الاسلام كقوة عالمية وتحد من حرية وخيارات السودان"). وفى وجه المعارضة والضغوط فى الداخل والخارج بدأ النظام فى منتصف 1979 يتبنى موقفا اكثر حيادية تجاه الصدع السياسى بين مصر والدول العربية. وفى مقابلة صحفية مع مجلة (نيوزويك) فى يونيو شدد نميرى على أن السودان لا يمكن "تصنيفه" مع أى معسكر لأن موقفه من قضايا الشرق الأوسط قائم على "المبادئ التى نؤمن أنها تقود لتقدم القضية العربية لان السودان جزء من العالم العربى ونسعى لتحقيق أهدافنا في كَنَف الجامعة العربية". ولكن التركيز الجديد على موقف اكثر حيادية واستقلالية فى العلاقات بين الدول العربية لم يحل محنة السودان فى كيفية تجنب الانضمام للمقاطعة العربية من غير التعرض للاجراءت العقابية التى طبقت على مصر. ويمكن تلخيص تلك المحنة فى ان السودان كان ميالا للاعتراض على اتفاقية السلام من غير أن يدينها ولقبول مقررات المقاطعة العربية من دون أن ينفذها.
أستمرت الضغوط الهائلة على نميرى ليقوم بقطيعة نهائية مع مصر خاصة عندما تواترت أنباء غير مؤكدة عن عرض مصرى لرى صحراء النجف من مياه النيل. وبدا قرار نميرى بالمشاركة شخصيا فى مؤتمر رؤساء الدول فى تونس فى 19 نوفمبر 1979 الذى تبعه فى ديسمبر استدعاء السفير السودانى من القاهرة، وكأنه نذير بقطيعة وشيكة مع القاهرة. وقد تكون هناك عدة عوامل أدت للتباعد مع مصر. أولا أن الأثار المتعاظمة للمقاطعة العربية لمصر هددت بجعل مشروعات التكامل الاقتصادى مع مصر عبئاً سياسيا واقتصاديا على السودان. ثانيا التقارب الدرامى بين السودان وأثيوبيا خلال 1980 مال نحو اضعاف الروابط الأمنية مع مصر والتى جرى تعزيزها أصلا على خلفية العداء مع أثيوبيا. ولكن مع التأهب المرتقب للسودان فى الفكاك من ارتباطه الوثيق بمصراخذت الاعتبارات الأمنية أهمية جديدة عندما ساءت العلاقات السودانية الليبية فى أواخر 1980 ووجد النظام السودانى نفسه كما حدث فى حالات سابقة ينشد الحماية والأمان فى إتفاقياته الامنية مع مصر.
وكان الحدث الذى فجر الوضع الجديد هو التدخل العسكرى الليبى فى الحرب الأهلية فى تشاد والذي رأت فيه الخرطوم دليلاً جديداً على الدسائس والاختراقات السوفيتية لافريقياً. وشاركت القاهرة قلق الخرطوم بسبب تلك التطورات، وربما قامت بتضخيمه، ووعد الرئيس السادات بدعم عسكرى فورى للسودان أذا اصبح هدفا للاستراتيجيات السوفيتية والليبية فى المنطقة واعلن ان التحركات الليبية فى تشاد قد خلقت "وضعا خطيرا لانه يهدد السودان وإن ما يهدد السودان يشكل تهديدا لمصر" (الأهرام، القاهرة، 15 فبرائر 1981).
وكان القرار السودانى فى مارس 1980 باعادة التمثيل الدبلوماسى مع مصر يمثل انتهاكا لقرارات مؤتمر القمة العربية فى بغداد التى دعت فى 1978 لقطع العلاقات مع مصر إذا هي وقعّت اتفاقية السلام مع اسرائيل. وقد برر النظام قراره بحجة أن السودان لم يقطع علاقاته الدبلوماسية أصلا وأن ترفيع مستوى العلاقة أصبح ضروريا نسبة للتهديد الذى شكله الحضور العسكرى الليبى فى تشاد. وفى نفس الوقت أعلن الرئيس نميرى عن نيته فى أخذ زمام المبادرة لتسوية الخلافات بين مصر والدول العربية وعبر أيضا عن رغبته فى مساعدات من الولايات المتحدة لتحديث القواعد الجوية والبحرية السودانية والتى يمكن اتاحة استعمالها فى وقت الأزمات للولايت المتحدة وأى دول صديقة أخرى (قصد بها غالبا مصر). وكما كان متوقعا فلم تُعِر أى من الدول العربية باستثناء مصرالتفاتا لمبادرة نميرى الوفاقية كما ان عرضه العلنى للامريكيين بدا غريبا لنظام يواجه معارضة متزايدة داخليا وعزلة متنامية فى العالم العربى وردود فعل محتملة من حلفاء السوفيت فى الدول المجاورة.
ولعله من المهم عند هذه النقطة التفريق بين أمن النظام السودانى كسلطة وأمن السودان القومى كدولة، ذلك أنه لم يكن هناك تطابقا بالضرورة بين الأثنين. بل ان المحاذير والأخطار المترتبة على تداعيات وتضارب متطلبات الأمن القومى مع احتياجات امن النظام لم تكن خافية. فبينما كان التحالف الوثيق مع مصر عاملا فى ضمان استمرارية نظام النميرى كما فعل فى 1971 و1976 الا أنه ساهم أيضا فى تقويض أمن البلاد بإثارته ضغينة وتخوفات القيادات السياسة فى الجنوب واستياء غالبية المعارضة الداخلية فى الشمال. وعندما زار الرئيس السادات الخرطوم فى يناير 1979 لمخاطبة الاجتماع المشترك لمجلسى الشعب السودانى والمصرى قامت مجموعة من النواب الجنوبيين بتقديم مذكرة للاجتماع تصف السياسة المصرية "بالاستعمارية الجديدة"وتعبر عن مخاوف الجنوب فى ان تقود خطط التكامل المصرى السودانى ٳلى ان يصبح الجنوب "مستودع نفايات" (‘a dumping ground') للفائض السكانى فى مصر. وفى الشمال كانت مجموعات من الأحزاب التقليدية خاصة انصار حزب الأمة والاسلاميين والعناصر اليسارية متفقين فى عدائهم العميق لنظام الرئيس السادات. وكان قادة المعارضة السابقة قد أكدوا ان التخلى عن التحالف مع مصر وتبنى سياسة عدم الانحياز دوليا من شانه أن يخدم مصالح البلاد بصورة أفضل. كما ظل الاحتمال قائما أن تتعرض البلاد لكارثة اقتصادية اذا قررت الدول العربية الغنية فرض عقوبات شاملة على السودان والتى يبدو أن احجامهم عن تفعيلها يرجع ٳلى تخوفهم من البدائل المترتبة على زعزعة نظام النميرى، يسارية كانت أم اسلامية متطرفة، أكثر من تقبلهم الضمني لسياساته الموالية لمصر. وكان واردا أيضا أن تثير العلاقات المصرية السودانية بعض جيران السودان الموالين للسوفيت للدخول فى مغامرة عسكرية ضد السودان (كما فعلت ليبيا بدعمها لقوات المعارضة المسلحة فى 1976) ويجرُّ ذلك بدوره لتدخل مصرى مضاد لتكتمل الحلقة المفرغة وبالتالى يتردى الوضع فى داخل البلاد الى حرب أهلية لا تعنى تفكيك النظام فحسب بل تهدد القطر بأكمله بالتَّمزق.
وبالرغم من كل تلك المخاطر والمحاذير فقد أختار نظام النميرى التشبث بتحالفه مع النظام المصرى الذى أدّى فيه الهاجس الأمنى دورا أساسيا وبالطبع كان ذلك طابع سياسة النظام منذ البداية فى علاقته مع مصر. ولكن الذى جدَّ بعد اتفاقيات كامب ديفيد انها ادخلت عاملا جديدا وسلطت الاضواء على المخاطر التى يمكن ان تجرها سياسة السادات الآحادية والعزلة التى تبعتها على السودان. وبالتأكيد كانت تلك فترة صعبة تنازعت النظام فيها الاعتبارات الأمنية، التى جعلت من الضرورى المحافظة على العلاقة الخاصة مع مصر، مع الأهمية السياسية والاقتصادية لتجنب استعداء الدول العربية الأخرى. ولفترة أستمر السودان فى المناورة بصعوبة بين المعسكرين الا ان عملية التوازن أفتقدت المصداقية وأحيانا هددت باستعداء الطرفين. ولكن عند كل محك خطير يهدد بالقطيعة التامة كان النظام السودانى يتراجع ليرتمى مجددا تحت مظلة الأمن المتبادل مع نظيره المصرى.
أصبح هذا واضحا حتى عندما أدت تداعيات سياسات الرئيس السادات الى سخط شعبى داخل مصر بلغ ذروته باغتيال السادات فى 6 أكتوبر 1981 وكاد ان يطيح تماما بنظامه. وفى الأيام العصيبة التى تلت الاغتيال عزز السودان تضامنه الوثيق مع النظام وكان النميرى هو الرئيس العربى الوحيد (باستثناء الرئيس الصومالى سياد برى) الذى حضرجنازة السادات وبقى فى القاهرة للمشاركة الرمزية فى الاستفتاء القومى الذى تم بموجبه ترفيع حسنى مبارك لرئاسة الجمهورية. وبعد رحيل السادات جاء فى الأخبار أن القوات الامريكية فى الشرق الأوسط تخطط استراتيجيا لنقل جنود مصريين تحت غطاء طائرات "الاواك" (AWACs) للانذار المبكر لمراقبة الحدود بين السودان وليبيا وحراستها.
ولكن الوقت لم يكن فى صالح نظام النميرى بل ان الاعتماد المتزايد على التحالف المصرى والأمريكى هدد بنقل نهج (الفنلنّدنة) فى علاقة السودان بمصر الى منزلة (التبعية). ولكن السخط الشعبى كان قد بلغ مداه حينذاك وجاءت انتفاضة أبريل 1985 لتمهد الطريق لتجربة الديمقراطية الثالثة التى لم تستمر طويلا لأسباب عديدة ليس هنا مجال تحليلها. وبمفارقة تاريخية قد يصعب استيعاب أبعادها فقد كان قدر السودان أن تستولى الجبهة الاسلامية على السلطة بانقلاب عسكرى لتخضِعَه لمشروعها الحضارى الذى افتتحت به طوال ربع قرن من عمرها فصولا عدة من المآسى فى سياسات السودان الداخلية والخارجية تبدو معها بالمقارنة كل السياسات السابقة منذ الاستقلال وكأنها كانت تمثل عصراً ذهبيأ.
25 أكتوبر 2014
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.