قوي الإرادة بعيد النظر رث الثياب ,جل الوقت بسرواله الضيق الذي غالباً ما يترك أثرًا على جسمه النحيل, يحب تلاوة القران في الخلوات وعند سكون الليل. كان قبل ميلاده بأيام أمه تقول الله يرزقني بولد يكون لي أفندي (معلم) يجيب لي زراق (ثوب) ورأس سكر (ثلاثة رطل) ننادي جاراتي نشرب الشاي ونفرح بتخرجه,أبوه الذي كان يراقبها ممعناً في بطنها الذي يشبه المنطات استمع جيداً إلي حديثها في الوقت الذي دقت ساعة البك بن معلنةً الساعة السادس مساءً بتوقيت غرينتش (هنا لندن) قاطعها وطلب منها الكف عن الحديث. جاء الفارس في يومٍ صائف ثائرٌ بالغبار والهواء (سنة أجاجاي) حتى ظن كثيرٌ من الناس أن رجل مهم وافته المنية على اعتقاد أهل البلد. نفس ذكية بتجليات ربانية ساقتها إلي أسرة كريمة أكملت بها نسجها,كأنها تعتلي أجنحة من نور ,وعندما صرخ معلنا دخوله عالم جديد زغردت عمته ميمونة بنت حامد بزغرودة أثلجت بها صدور الحاضرين وأبلغت بها الغائبين , هرع والده بعد أن أكمل توضؤه على عجل , قبله وحمله بين يديه ثم أذن في أذنيه على أن لا يكون فيهما وقرًا, ثم قرأ عليه سورة يس وعندما وصل قصة حبيب النجار (وجاء من أقصا المدينة ----- ) دعا هنالك ربه أن يمن على ولده بصفة من صفات حبيب النجار. أما أمه فالتفتت الي أحمداي في صمت ثم أزرفت دمعةً مبتسمةً ملقيةً برأسها على كتفها اليمنى , وبعد دقائق فارقت الحياة انتقلت إلي جوار ربها ,وأصبح سبب وفاتها تلوكه الألسن في المدينة فمنهم من قال قلة خبرة الدايه (الممرضة), ومنهم من قال أنها قاست آلام الولادة ثلاثة ليالي فالعرق وقلة النوم سببا هبوط في القلب,وبين هذا وذاك بدأ الفارس حياته يتيما, هكذا ألقى اليتم بظلاله دون شفقة على القطب الرطيب. وصار الأب يحدثه في المهد بأنشودة ( هوبا هوبا هوووبا --البقر في الشوقارة-- وأمك فارقت الدار-- فالصبر في الحار-- يا ولدي البار), وفي اليوم الثاني ذهب أحمداي الي سوق الأربعاء واشترى ماعزه حلوبة لكي يسد فجوة الشوقارة . ترعرع بين أحضان عمته ميمونة بنت حامد في المدينة وخالته البقارية فاطمة بنت العمدة يوسف(ام عبدالرازق) في الترحال تارةً في المنشاق وتارةً في الشوقارة ,عشق الرعي والنقاره عشقا يضاهي به عشق مريم العذراء, فتراه يحمل عصاه على كتفيه ويسري ليلا خلف الأبقار, متمتعا بنفخة إلتقام العشب الخضراء وصراع الثيران على الأطلال,ما أجمل منظره حينما يمارس هواية السباحة في ترعة ابدنده التي تحتفظ بالماء المخلوطة بالبول والرث الي منتصف الصيف يومها تتزاحم رعاة الأبقار والإبل والأغنام وتترغب السماكين بكباساتهم بداية الصيد ,اكتسب منها مناعة طبيعية ضد الجراثيم والفطريات وحساسية الروائح الكريهة التي تفوح من أطراف البرك و الترع, ارتوى من فنون البداوة الجميلة ففي أوديتها لهى وببارحاتها (فسحاتها) لعب الكاتم والجكتك والدراجو والسنجك مع بنات خالته مضمدين له الجراح. لم يلبث كثيرا عندما قوى عوده بالحليب وبلغ التاسعة من عمره أرسله والده الي مناطق جبل مرة (دارفور) لحفظ القران الكريم ,استقبله القوني (الشيخ) يعقوب بريفي قلول وكتب خطابا إلي والده ( من القوني يعقوب الي السيد/أحمداي عبدالرحيم السلام علي ----- ,أن ابنك قد وصل بسلامة وإنشاء الله سوف يصبح حافظا لكتاب الله بعد عامين, وسيعود إليك وقلبه عامرا بالإيمان ومشعا بنور العلم و ---- و--- القوني يعقوب) ,لم يطلب الشيخ دينارا ولا شكرا فالشكر لله رب العالمين ,هكذا استودع أحمداي الله في ابنه الوحيد متوكلا رغم المسافات البعيدة التي تفصل بينهما ووعورة الطرق ,وبعد أسبوع طلب التاجر عبدالعزيز ادم(ابونعمات) من القوني ان يدخل ولد أحمداي المدرسة على نفقته بجانب المسيد فوافق على الفور . سأله مدير المدرسة ما اسمك ؟(لم يسأله عن شهادة الميلاد أو التسنين). رد قائلا (اسمي محمد أحمداي عبدالرحيم) من مواليد سنة 1968م. اعتمد المدير الدنقلاوي هذه المعلومات وتم تسجيله بمدرسة السحيني الابتدائية المختلطة (مدرسة الشهيد/ الإمام عبدالله السحيني) بقرية كتيلا بالقرب من جنينة عمنا أبوعباس. أكمل تعليمه الابتدائي والمتوسطة والثانوي بإمتياز ودخل كلية الهندسة جامعة الخرطوم وكان أول من استقبله حماده حمدي (سبحان الله الاسم واحد مع اختلاف البيئة) قال له مرحبا بك ولكم ((welcome ولد أحمداي يجيد الإنجليزية والعربية ولكنه لم يعتاد على خلط اللغتين مما أثارت انتباهه طريقة كلام حماده , بدأ حياته الجامعية ولكن كل شي مختلف الناس --- الكلام --- اللبس – النيل – ال الخ,لم يبالي ولم يكترث بهذه التحديات لأنه قوي الإرادة بعيد النظر, وبعد شهور من التحاقه بالجامعة جاءه عمه عبدالله عبدالرحيم أشعث أغبر حاله يرثى عليه من وعثاء السفر وكآبة المنظر, حقا كئيب في الأوساط العاصمية, سلم عليه بحرارة وحضنه بدفء ثم بدأ ولد أحمداي يسأله عن عمته ميمونة وخالته فاطمة وعن أبيه, سكت قليلا ثم بكى وأخرج من حقيبته الممزقة (فالقطار لم يرحم حتي الجماد) رسالة كتبت فيها أن والده احمداي قد توفي متأثرا بملاريا التي أقعدته شهرا كاملا رهن الفراش , وبهذا تكون فصول اليتم قد اكتملت وما زال ولد أحمداي يانعاً في بداية مشواره ولكنه قوي الإرادة بعيد النظر,بدأ حماده يناقش ولد أحمداي في القضايا السياسية بين الحين والآخر ويطرح له أيدلوجية حزبه ويدعوه الي الانضمام ومواصلة النشاط السياسي وفي كل مرة لم يجد القبول من ولد أحمداي لأنه مهموماً بحالته الإقتصادية, ولكن ما دغدغ مشاعره عندما طرح حماده مشروع أبيه (مشروع حمدي) وأطال الحديث عن المثلث ,رد ولد أحمداي قائلا لم أقرأ في التاريخ قط رجلٌ قدم لأمته أسوأ مما قدمه ابوك للأمة السودانية ,لماذا يشبه السودان بمثلث برمودا المعروفة بحرق الطائرات وغرق السفن ويدعو الي الإنقسام, في الوقت الذي يتجه كل العالم الي التكتلات السياسية والاقتصادية هل أبوك عميل ينفذ سياسات الغرب؟ (التجزئة) التي تدعو إلي إضعاف الأمة الإسلامية والمجتمعات الفقيرة, عليك أن تراجع سيرة أبوك وتتأمل قليلاً فيما يروي من أباطيل ,بلا شك لقد تمرد على الشعب السوداني وخرج عن السياق المألوف باغتياله للثقافة الأصيلة بحقد مبطن دون رؤى ثاقبة للتنوع العرقي والثقافي,من رضع من ثدي الغرب بالتأكيد لا يحمل الجينات السودانية الأصيلة الكاملة, فلا غرو إذاً ما ذهب إليه أبوك وثلته المارقة,فنظريتة ما هي إلا تجسيداً للانحطاط الفكري الذي نعيشه هذه الأيام ,ومثالا حيا للمسلك الغير أخلاقي والهبوط في القيم الإسلامية فالفكر اليهودي في تنفيذ أرض الميعاد ليس بعيداً من نظريته , كان جالسا ثم قام فقال والله أجدادنا وصونا على الوطن على التراب الغالي واي طريق غير ذلك لن يرى النور ولم يلقى داعيه نصيرا . فالذي لم يخرج من دائرة العاصمة المثلثة لم يحمل بين جوانحه حبا للوطن ولم يدعو الي عزة عازة ,دعا حماده الي التحرر من الانكفاء ووجه اليه دعوة رسمية الي زيارة دارفور ,لم يتأخر من تلبية الدعوة وفي أول إجازة رافق حمادة ولد أحمداي في سفره، صفر القطار معلنا وصول محطة مدينة نيالا ,ثم واصلا باللواري (السيارات) الي مدينة انتكينا مسقط رأس ولد أحمداي وهنالك اندهش حماده لكتابات ابيه فلم يرى الأسود والنمور كما تخيل له,فالتخلف لم يكن على درجة من الأذى التي تجعل المجتمعات المتحضرة تنعى بحمدي الي مثلثه, فالورى هنا يتمتعون بقدر كاف من الثقافة والعلوم الشرعية فهم حفظة لكتاب الله بسيطين في حياتهم (الزهد), لأول مرة يعرف أن دارفور تزخر بثقافات أربعة دول مجاورة غير الثقافات المحلية النابعة من 126 قبيلة ,هم جزء أصيل من الموروث الثقافي السوداني,يحملون كل الصفات النبيلة التي يتصف بها الإنسان السوداني الكرم والشجاعة والعفة والنبل والطهر,رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا إسلامهم سبق سودنتهم, ذات يوم في جلسة عصرية (وقت الأصيل) سأل حماده العم عبدالله عن الفنادق والاستراحات للمسافرين ,ابتسم العم عبدالله وقال له انت خارج دائرة مثلث ابوك هنا لا توجد الفنادق نحن نستقبل الضيوف في بيوتنا, فهي مفتوحة لهم في أي وقت يشاءون ,أردف متسائلا وكيف تستقبلون الضيوف بالليل ؟ نحن بالليل نقرأ الضيف ولا نسأله عن إسمه أو ديانته أو الي أين ذاهب أو--- أو فقط نوفر له العصيدة (الوجبة الشعبية) والمكرمة على الفور وفي الصباح الباكر وبعد تناوله كباية(فنجان) الشاي نبدأ نسأله من أين والي أين ومن يريد؟. مكثا شهرين كاملين في القرية حتى أحب حماده ركب الحمير والثيران وليالي السمر بين أزقة القرية تحت ضو القمر ,وعندما رجع حماده الي الجامعة تغير مفهومه كلياً وبدأ يدعو الناس الي الوحدة ولم الشمل والاستفادة من التنوع الثقافي الحضاري في سبيل رفعة السودان ,الواقع حرضهم على الإبداع وهنا برزت الجدية لتعاطيها من الواقع, فأقاما ندوات وأركان نقاش من أجل توصيل فهمهم المشترك إلي أكبر قاعدة طلابية الذين هم عماد المستقبل,حساسية الرحلة كانت فاعلة في إثراء الساحة الطلابية بالأفكار الإيجابية وإبعادها عن التنميط والتصنيم في قوالب مهترئة, كما قاما بإصدار جريدة سيارة تحت مسمى الرحالة ( حمادة حمدي ومحمد أحمداي (الرئاسة) ,محمد كوشيت من مدينة سنكات (نائبا), محمد طه من الدامر (مدير التحرير), محمد طارق من الدمازين (نائب مدير التحرير) دينق مجاك من جوبا (منسق عام),محمد أحمد من مدني (مصحح)) لم تترك الجريدة شاردا ولا واردا من الثقافات المتنوعة في السودان إلا ناولتها, وأنشأت للجريدة مجلس أمناء الشرف ضم معظم الشعراء والأدباء والفنانين السودانيين الذين كان لهم صدى في الشارع السوداني بحسهم الوطني على سبيل المثال لا الحصر الشاعر بلبو باك من نمولي وطه النوبي من حلفا القديمة جراب الخير من فشقة وادم جمعة من الجنينة والفنان رياك بان من واو. فمن لا يعي ضرورة التجديد والحياد في الرؤية يكون قد خرج عن المألوف وحاول المستحيل في العودة الي الرق والعبودية, مساعد في ذلك أرباب الفكر الأصولي المنحل, بل أكثر من ذلك زج السودان في خلافات تصعب معرفة أولها من آخرها. فكل زمن يجب أن يترك حرا يحدد هويته وقياداته وأناسه وشخوصه و بطريقة ميكانيكية يجدد مناخاته بين حين واخر,فمن يمكث في الغرب لايصلح ولا يتماشى نظرياته مع الواقع السوداني,لأننا شعب لا يقبل الاستنساخ, إذاً فهو غير مؤهل للخوض في غمار المشهد الثقافي السوداني , عليه ازعم اننا في مرحلة تخطى وتجاوز تراكمات الماضي . قال حماده في إحدى محاضراته متجردا من ذاته (ما عاد إنسان دارفور يعترف بالذي يتولى زمام الأمور وكأنه راع يهش أغنامه على الجداول التي عودها الممشى والمسار ولا بالذي يترك الساحة هادئة ليلعب من يريد اللعب بالهوية السودانية فالسلك الدبلوماسي لم يكن لحماده وحده—وأشار الي نفسه). وفي ليلة التخرج أقامت الجامعة حفلة تخرج حضرها القاصي والداني, حتى ناس حاج يوسف ومايو وام بدات جاءوا بالبصات والركشات جماعات وفرادا زفو الخريجين كالعرسان الإ ولد أحمداي ! لكنه ما زال قوي الإرادة. مكث بالعاصمة سنتين بلا وظيفة قدم شهاداته الي كل الوزارات بما فيها وزارة البترول لأنه تخصص في هندسة البترول(من الطرائف سأله مرة مدير شركة سوداتل ما قبيلتك؟ أجاب لا أعرف لأنني من مواليد أم درمان), ولكن لم يحالفه الحظ, لأن طهر الجامعة من مشروع حمدي لم يتجاوز أسوارها ,فما زال فيروسه الذي أصاب الدوائر الحكومية وكثير من رجالات الدولة مستمر في تدمير المفاهيم السامية فهو ابلغ من الحكر. اما حماده فقد التحق بعد شهر واحد من تخرجه بالملحق الثقافي بالسفارة السودانية ببريطانيا, شعر بتأنيب ضمير فظل يراسل ولد أحمداي ويدعوه بالصبر , نفذ صبره فعاد الي قريته ليعيش مرة أخرى عالة على عمته ميمونة وخالته فاطمة بعد ان نهبت القبيلة اللعينة ما ورثها من أبقار, وهنا اختار الثورة كوسيلة تحررية من الأفكار المريضة فقال الناس . ولد أحمداي مالو --- شال السلاح مالو --- ولد أحمداي مالو ----- شال السلاح مالو (سنقرأ في الجزء الثاني كيف واجه ولد أحمداي الآلة العسكرية بحصانه الكرتم (شديد السواد) ذات الحجل البيضاء) عبدالدائم يعقوب ادم [email protected]